الفصل الثالث والعشرون
وهنا لاحظ فون درفلت أن للمرأة سرًّا يكاد يلمسه؛ ولكنه لم يزل ضالًّا عنه، وإنما أدرك أن مفتاحه البرنس رودلف. ولكن ما علاقة البرنس بهذه المرأة؟ فقال: لا تذهبي يا مدام قبل أن نتناول العشاء.
– إذن تقول …؟
– أقول إن البارونة برجن تكاد تودي بالبرنس إلى التهلكة.
– ويحك! كيف ذلك؟
– ذلك أنها تريد أن يطلِّق البرنس ابنة ملك البلجيك؛ لكي يتزوج ابنة أختها البارونة ماري فتسيرا.
– ويلك! لا طلاق في البلاط النمساوي.
– إذا لم يتيسر الطلاق الشرعي، فيتسنى الطلاق الطبيعي.
– ماذا تعني بالطلاق الطبيعي؟
– أعني … دعينا من هذا الموضوع، وحسبك أن تعلمي أن البرنس مُقبِل على فضيحةٍ هائلة إذا بقي للبارونة برجن نفوذ في البلاط.
فبهتت نينا وبقيت صامتة برهة ثم قالت: وما رأيك بنفوذ البارونة برجن؟
– رأيي أنها ذات نفوذ عظيم حتى الآن، ولولا نفوذها لبقيت مدام شراط في صرحها إلى جنب قصر شرن برن.
– عجبًا! كيف حصلت هذه المرأة على هذا النفوذ العظيم؛ فإن رضى الإمبراطور وحده غير كافٍ.
– تلعب أدوارًا في السياسة تُكسِبها هذا النفوذ.
– أجل، يقال إن لها صلةً بالحزب الاشتراكي.
– نعم، وهي تشترك مع فرنند فرغتن زعيم الحزب الاشتراكي في تدبير الحملات البارلمانية، ولا بد أن تكوني قد علمت عن حملة هذا الحزب في مسألة الحلي.
– أجل أجل علمت، ولكن هل تظن أن الإمبراطورة ترضى أن يساق ابنها إلى فضيحةٍ هائلة؟
– بالطبع لا، ولكن الإمبراطورة لا تدري بالخطر إلا بعد وقوعه، ولا يمكن أحدًا أن ينبِّهها إلى الخطر ما دامت البارونة برجن في سبيلها.
– والإمبراطور؟
– الإمبراطور متغيظ، ولكنه كالإمبراطورة لا يعتقد أن الخطر عظيم، وقد لا يهتم له كثيرًا إلا من جهة اغتياظه من البارونة برجن.
– يا لله، أليس في وسعه أن يقذف بهذه الداهية إلى البحر.
– يظهر أنه لا يستطيع، ولما رام أن ينفيها لم يستطع تحمُّل غضب الإمبراطورة، أما علمت الحكاية؟
– أية حكاية؟
– حكاية فرار الإمبراطورة.
– ويحك! ماذا تقول؟
– أقول إن الإمبراطورة فرت مع مربيتها البارونة برجن حين حتم الإمبراطور بطرد هذه، ولو لم يسرع الوزراء لإدراكها في الطريق وإقناعها بالعودة لما عادت، أما سمعتم بهذه القصة؟
– لا، لعل كاترين علمت بها وكتمتها عني. وماذا فعل الإمبراطور؟
– اضطر أن يسترضي الإمبراطورة وأن يوعز إلى كاترين أن تبقى بعيدة عن فينا، ووعد الإمبراطورة بأن يحيي ليلة ساهرة تكريمًا لها يوم عيد ميلادها، وإعرابًا عن إخلاصه لها.
– يوم عيد ميلادها!
– نعم، بعد غدٍّ يكون عندنا مرقص باهر لم تشهد فينا مثله.
– إذن عليكَ أن تستحصل على تذكرة أدخل بها إلى المرقص الإمبراطوري.
– ويحك! إنك مجنونة.
– بل أنت غبي، أَمَا أنا بارونة يحق لي ما يحق للأعيان؟
– وتلتقين بالبارونة برجن؟
– ولماذا لا؟
فضحك قائلًا: أظنك تريدين أن تخرجي من المرقص مكبَّلة بالحديد يا شقية.
– إني مستعدة لكل شيء حتى الشنق.
– عجبًا! ما أمنيتك في هذه المجازفة؟
– أود أن أرى البارونة فتسيرا.
– ربما لم يؤذن لها أن تكون.
– إذا لم تَكُنْ فالبرنس فريدريك لا يكون، وعدم وجوده في المرقص يفتح باب القيل والقال.
– ولكن الإمبراطور يأمر مَن يشاء وينهى مَن يشاء.
– على كل حال أريد تذكرة.
فقال فون درفلت ضاحكًا: غدًا تمتثلين لدى جلالته، فاطلبي منه تذكرة.
– وسأريك أنه يمنحني تذكرة، وهل تكون في المرقص يا فون؟
– بالطبع.
– وهبك رأيت البارونة فتسيرا ترقص مع سواك؟
– لا يهمني.
– عجبًا! إذن ما أنت عاشق.
– أوه، بل أنا أمير العشَّاق.
– إذن تحب غير البارونة؟
– يا لك من حاذقة.
– تُرَى ما نسبة الجديدة إلى القديمة؟
– كنسبة الشمس إلى القمر.
– إذن هل نراها غدًا في المرقص؟
– لا أظنها تكون.
– إذن ليست من الأعيان؟
– الحق لا أدري.
– عجبًا!
– لأني لا أعرفها جيدًا.
– وهي؟
– كذلك.
– إذن؟
– أصل الحب نظرة.
– كلام فارغ.
– أجل كلام فارغ، ولكن ربما صار ملآنًا.
– أظن هذا الحب ابن اليوم.
– بل ابن هذا العام.
– عجبًا! وإلى الآن لم تعرف الحبيبة؟ ذلك لا ينطبق على أخلاقك.
– لي مزاحِم بل مزاحِمان.
– مَن هما؟
– أما الأول فهو ضابط مغرور بثوبه العسكري، علمت بعدئذٍ أن اسمه جوزف شندر من الحرس الإمبراطوري، وأما الثاني فهو سر الفتاة المكنون.
– تعني؟
– أعني أن أصل الفتاة محاط بسر مجهول، وقد بحثت عنه فلم أهتدِ إليه.
– عجبًا! ماذا عرفت عنها؟
– إن كان في وسعك أن تفيديني عنها شيئًا، فأقول لك ما عرفته عنها.
– أفيدك.
– لله منك! كيف تقولين أنك تفيدينني وأنت إلى الآن لم تعرفي شيئًا عنها.
– أعني إذا كنت أعرف عنها شيئًا، فلا أبخل عليك بقوله لك. فماذا عرفت عن الفتاة؟
– رأيت الفتاة مع امرأة كهلة في الملعب ليلةَ كانت كاترين تمثِّل دور ماري تريزا، فسلَبَتْ لُبِّي، ولم أستطع ان أكبح جماح فؤادي عنها، فحاولت أن أتحرش بها أو بالمرأة التي معها، ولكن ذلك الفتى الضابط سبقني؛ إذ أخذ المرأتين في مركبة فتبعتهم في مركبة أخرى إلى أن رأيت الفتى يتركهما في الطريق، والظاهر أنهما التمستا منه ذلك لكيلا يعلم منزلهما، ولكنه انتظر الحوذي حتى عاد فأمره أن يأخذه إلى حيث نزلا، وكنتُ قد سبقته في مركبتي والتقينا هناك.
– ثم ماذا عرفت عن الفتاة؟
– لم أعرف شيئًا سوى أنها والمراة تسكنان معًا في صرحٍ صغير في وسط حديقة في شارع فرنز، وأما ما هي نسبة الفتاة إلى المرأة، ومَن هي المرأة، فلم أجد أحدًا يفيدني شيئًا.
– عجبًا! أليست المرأة أم الفتاة؟
– ربما ليست، وجل ما علمته أن المرأة تُدعَى مرغريت ميزل، والفتاة تُدعَى أميليا.
– أميليا ميزل طبعًا؟
– الله أعلم، فلا الجيران ولا أحد في فينا يعرف أكثر من ذلك. فمن أين أتت هذه المرأة وهذه الفتاة؟ وكيف تنفقان عن سعة؟ لا أحد يدري.
– عجبًا عجبًا!
– حدث ما حملني على الظن أن للبارونة برجن علاقة بهاتين المرأتين، ولعلها تنفق عليهما.
– كيف ذلك؟
– رأيت غير مرة امرأة تتردد على البارونة برجن وعلى هذه المرأة أيضًا، كأنها همزة الوصل بينهما.
– ظنك في محله.
– هل تقدرين لأن تفيديني شيئًا عنها؟
– لا، وإنما أصبحت مثلك راغبة في معرفة سرهما، ليتني أرى مرغيتا ميزل هذه، أليس في وسعك أن تسهل لي الأمر؟
– أأدلك على صرحهما وثم تعرفيني شغلي؟
– وماذا كان من أمر الضابط؟
– الضابط قطن في منزل يطل على حديقة الصرح.
– وهل نال مأربًا؟
– لا أظن، لأنه لا يزال كالغريب للمرأة، وأما الفتاة فتكاد تقع في أحبولة جنونه.
– كيف ذلك؟
– لا أُخفِي عليك أني كنتُ في بعض الليالي أجعل طريقي أمام ذلك الصرح، واتَّفَقَ في ليلة في هذا الأسبوع إذ رأيت أشعة النور تشع من خلال روافد الشباك الذي لغرفة الضابط ثم تختفي، وهكذا دواليك، كأن الضابط يحرك الروافد عمدًا لغرض. ثم راقبت شباك الفتاة فإذا النور يشع منه على ذلك النمط، كأن هذه الأشعة أجوبة لتلك، ثم رأيت شباك الضابط انفتح ولاح منه الضابط بنفسه مرارًا، ثم انقفل وبقي النور يشع من خصاص روافده، وما هي إلا هنيهة حتى انفتح شباك الفتاة ورأيت قامتها الهيفاء فيه تحجب النور، ثم توارت وأقفلت الشباك.
– إذن الضابط ظفر بقلب الفتاة؟
– أجل، ولكن المرأة مرغريتا غير دارية بذلك، وأظنها لو درت لانتقلت من هذا الصرح، أو لو كانت راضية عن الفتى لقبلته في صرحها، وحينذاك لا يبقى موجب لمخاطبة الفتاة بهذه الإشارات … وما اقتصر على ذلك، بل فعل ما هو أبلغ.
– ماذا فعل؟
– أراقبه كل ليلة، وكل ليلة يفعل كذلك، وأول أمر رأيته بعد هذه الإشارات قد خرج من منزله، فكمنت بعيدًا أراقبه، فرأيته قد اغتنم فرصة خلوِّ الشارع وتسلَّقَ سور الحديقة ووثب إليها بكل خفة، فراقبته عن قربٍ إلى أن قرب من شباك الفتاة، ولم أَرَ في الظلمة ما جرى، وإنما لم يَطُلِ العهد حتى رأيته قد عاد كما راح.
– لقد زِدْتَني رغبةً في استطلاع أمر ذلك الصرح يا فون درفلت، فهل تشاء أن نذهب لمراقبته في ميعاد الإشارات المتبادَلة بين الضابط والفتاة؟
– لا بأس، الساعة العاشرة يجب أن نكون هناك.
– حسنًا، نتعشى الآن ونذهب.