الفصل التاسع والعشرون
أما البارونة فخرجت على الأثر، وركبت توًّا إلى دير الراعي الصالح وطلبت مقابلة الرئيسة، أما هذه فلما علمت بقدوم البارونة برجن بغتت وارتبكت؛ لأنها تعلم أن البارونة لا تأتي على غير انتظار إلا لأمرٍ خطير، فأسرعت وفتحت البهو. فأوعزت البارونة أنها تريد أن تقابلها مقابلة خاصة، فاستقبلتها الرئيسة في غرفتها الخاصة وهي قلقة. وأما البارونة فكانت باسمة باشة كأنها لا تُضمِر شيئًا، فسألتها الرئيسة عن سلامة الإمبراطورة قائلة: أرجو أن تكون جلالتها في سلامةٍ تامة يا سيدتي البارونة؟
– إنها بخير وسلامة والحمد لله، ولطالما ذكَرَتْكِ بالخير يا حضرة الأم خرستينا المحترمة.
– ليتني كنتُ خليقةً بانعطاف جلالتها.
– إن جلالتها واثقة بإخلاصك يا حضرة الأم المحترمة، ومتي وثقت جلالتها بشخصٍ مخلص لا تزعزع ثقتها فيما بعدُ، وإذا شملت جلالتها شخصًا بنعمتها والتْ عليه النِّعَمَ، وأنت تعلمين أن جلالتها …
– إني عالمة يا سيدتي البارونة أني لولا نِعَم جلالتها لكنتُ لغوًا في هذا الدير ونسيًا منسيًّا في الرهبنة كلها، فحبذا أن يكون في وسعي أن أخدم مولاتي خدمةً تليق بعبدة مخلصة ممتعة بنِعَم مولاتها.
– في كل حين تقدرين أن تخدمي جلالتها يا حضرة الأم خرستينا، فجلالتها لا غنى لها عن خدم رعاياها، ولا سيما المخلصين المختَصِّين بتعطفاتها.
– هل أستطيع أن أخدمها الآن خدمة؟
– ربما استطعت، فلا أدري. وإنما لك أن تترقبي الفُرَص المناسبة.
ولم يَخْفَ على الرئيسة أن وراء حديث البارونة ما وراءه، فقالت: حبذا لو كانتْ سيدتي البارونة تتفضل بأن ترشدني إلى هذه الفُرَص إذا غفلتُ عنها أو خفيت عليَّ.
فتبسمت البارونة وقالت: الأمر بسيط، مثال ذلك أن تُطلِعي جلالتها على فحوى الخطاب الذي ورد لك اليوم.
فبغتت الرئيسة وقالت: أي خطاب يا سيدتي؟
– خطاب من جلالة الملك.
– من جلالته؟ لم يَرِد لي خطاب يا سيدتي، ولو ورد لي لأَطْلَعتُ حضرتك عليه حال تشريفك.
– إذن لا بد أن يرد إليك الليلة، فهل تخلصين في قولك أنك تُطلِعينني عليه لكي أنقل فحواه إلى جلالتها؟
– لا أظنك ترتابين يا مولاتي في أن أُطلِعك على الخطاب إذا كان فيه ما يهم جلالتها، ولو أفضى الأمر إلى التضحية بحياتي.
– لا بد من اطِّلَاعي عليه على كل حال يا حضرة الأم.
فترددت الرئيسة قائلة: إذا علمت أن الاطِّلَاع عليه يهمك فلا أتردد.
عند ذلك نقرت راهبة على الباب، فخرجت الرئيسة وهي تقول: لعل الأمر ما تتوقعين يا حضرة البارونة.
وبعد دقيقة عادت تقول: لا أرى بدًّا من اطِّلَاعك على هذه الرسالة الإمبراطورية يا سيدتي البارونة؛ لأني لم أفهم مغزاها، فلعلك أعلم مني باصطلاحات البلاط.
فحملقت البارونة واضطربت مقلتاها في وَقْبَيْهما وقالت: لهذا جئتُ يا حضرة الأم؛ أدركت أنك لا تفهمين الرسالة.
مدام، حال وصول هذا الأمر إليك سلِّمِي ناقله جميع الحلي التي عندك، وانتظري أوامر أخرى بلا قلق.
ثم قالت: مَن أتى بهذه الرسالة يا سيدتي؟
– أتت بها سيدة أنيقة لبقة تقول أنها تُدعَى البارونة ليوتي.
– وماذا قلتِ لها؟
– لم أفه ولا كلمة حتى الآن؛ لأني وددت أن تطَّلِعي على الرسالة قبل أن أجول في حديث مع هذه السيدة، ولا سيما لأني لا أفهم معنى لهذه الرسالة، كأنها موجَّهَة لشخصٍ آخَر غيري. فهل فهمتِ شيئًا يا بارونة، إني متحيرة ومرتبكة.
– ربما فهمت، وإنما إذا فعلتِ كما أدربك وَقَيْتُك من مغبة الارتباك. فعودي إلى السيدة البارونة واسأليها ماذا تريد هي أو ما هي مهمتها؟ ولكن إياكِ أن تدعيها تفهم مضمون الرسالة أو أن تعلم أنك لم تفهمي مضمونها، وسأكون على مقربةٍ منك في الغرفة المجاورة بحيث أسمع الحديث ولا تراني تلك السيدة ولا تشعر بوجود أحد، فمتى سمعتِ مني حركةً خفيفةً اقتصري الحديث واقصريه واستمهليها، وعودي إليَّ فأرشدك إلى ماذا تفعلين. حاذري أن تشعر أنك لم تفهمي مضمون الرسالة، والغرض أن تستخرجي منها ما تستطيعين عن قصدها بنقل هذه الرسالة إليك.
وذهبت الرئيسة إلى البهو ملبية أمر البارونة وقالت للرسولة: إني مستعدة لخدمتك يا حضرة البارونة، فماذا تريدين؟
فقالت البارونة ليوتي: أريد أن تنفِّذي أمرَ جلالته.
فارتبكت الرئيسة وترددت ثم قالت: إن أمر جلالته مقدَّس وطاعته فضيلة، فماذا تريدين؟
– يلوح لي أن جلالته لم يعيِّن الأمر ولا صرح به.
– أجل، إذا كنتِ حضرتك تشرحين أمره تسهِّلين عليَّ طاعته يا سيدتي.
فترددت البارونة ثم قالت: لا بد أنك يا حضرة الرئيسة الموقرة تتذكرين أن سيدة نبيلة جاءتك منذ ١٣ عامًا تقريبًا بطفلة لم تتجاوز العام عمرًا.
فاختلجت الرئيسة وقالت مترددة: مثل هذا الحادث كثير عندي يا مدام، فلا أدري أي طفلة تعنين.
– أعني الطفلة التي جاءتك بها البارونة مرثا برجن.
فاختلجت الرئيسة وقالت مترددة: أجل أذكر ذلك.
– حسنًا إن أمر جلالته يقضي بأن تخبريني عن مصير هذه الطفلة.
عند ذلك سمعت الرئيسة نقرًا على الباب فقالت: عفوًا يا حضرة البارونة، لعل أمرًا عاجلًا يقضي بأن أستمهلك لحظة وأعود.
وخرجت الرئيسة والتقت بالبارونة برجن، فقالت هذه لها: هل فهمتِ؟
– فهمتُ أنها تطلب أميليا.
– إذن عودي إليها وعِدِيها أن تقدِّمي لها جميع المعلومات اللازمة غدًا، واختصري الحديث معها جدًّا.
فخرجت الرئيسة إلى البارونة ليوتي، وأكَّدت لها أنها ستقدم لها جميع المعلومات عن الفتاة في الغد.
فشكرت لها البارونة ليوتي لطفها وخرجت.
ثم عادت الرئيسة إلى البارونة برجن قائلة: ويلاه! ماذا أفعل يا سيدتي البارونة متى جاءت هذه المرأة غدًا؟
– لا تقلقي ولا تخافي، سأخبرك غدًا ماذا تفعلين.
– إني أخاف غضب جلالته إذا عصيتُ أمره.
– إن جلالته لا يأمر بشيءٍ مما قالته هذه الفاجرة الأفَّاكة.
– إذن عرفتِ مَن هي؟
– أجل، عرفتها داهية منافقة، وقد كانت تنتحل اسم الكونتس ألما فورتن، على أني لا أدري لماذا تبحث عن الفتاة أميليا؟ تُرَى هل هي خالتها تريد أن تنفِّذ وصية سرية لأختها. إن أمر هذه المرأة يثير الظنون، على كل حال لا تهتمي بشأنها.
– ولكن ما رأيك بهذه الرسالة؟
– رأيي أن آخذها.
– ويلاه! وماذا أقول لجلالته إذا سألني عن عدم طاعتي لأمره.
– هل عندك حلي؟
– لا، ولا عِلْمَ لي بحلي قَطُّ، ولا أفهم ماذا يعني جلالته بهذا الأمر.
– فإذا سُئِلتِ تقولين أنك سلمت الرسالة إلى البارونة مرثا برجن لكي تستفهم من جلالته عن معنى أمره هذا.
– حسنًا، ولكن ربما غضب جلالته لأني لم أستفهم بنفسي، أو لأني لم أرد الرسالة مع رسولته مستفهمة عن مغزاها.
– إني أتلافى غضبه بسهولة؛ إذ لا يليق أن تطَّلِع واحدة غريبة عن البلاط على أوامره المختومة، ولا سيما لأنه ظهر لك أن هذه السيدة تطلب شيئًا لم يأمر جلالته به، فكأنها غير عالمة بمضمون الأمر. وأما استفهامك أنت عن معنى الأمر، فلا يمكن أن يكون إلا بواسطة مَن هو في البلاط، ومَن هو أليق مني بذلك؟ فإذا أجبت عن أسئلة جلالته بمثل هذا المعنى ثبتت له سلامة نيتك وبقيتِ بريئةً من كل ذنب، وإذا كان ثمة من لوم فعليَّ يقع، وأنا أعرف كيف أدفعه.
– حسنًا، وماذا أقول لهذه السيدة متى جاءت غدًا؟
– تقولين لها إنك راجعت جلالته بتفاصيل هذا الأمر الذي تبحث عنه، ومتى عاد أمره النهائي تنفِّذيه.
– إذن إني …
– إنك خالية من كل مسئولية، والمسئولية عليَّ وحدي، فلا تخافي. وإنما أطلب منك أن تكتمي هذا الحديث الذي دار بيننا إلى أن يَرِدَ أمرٌ باستجوابك من جلالة الإمبراطور، وإني لمؤكدة أن جلالته لن يسألك قبل الغد.
ثم صافحتها البارونة شاكرة، وخرجت فرحة بالكنز الذي في يدها.