الفصل الثالث
ما هي إلا بضعة أشهر حتى جعلت جرائد فينا تطنطن بما سيراه الجمهور في الملعب الإمبراطوري هوفبرغ من سمو موضوع الرواية وعِظَم مقامها، ومن أبهة حسناء الملعب مدام كاترين شراط وجمالها وبراعتها في التمثيل. وما صدَّق أهل فينا أن حان موعد افتتاح الملعب الإمبراطوري بالثوب الجديد حتى اكتظ الملعب بنبلاء المدينة وسراتها، ولا سيما لأن الإمبراطور فرنز جوزف والإمبراطورة زوجته كانا في المقصورة الإمبراطورية.
في الفصل الأول ظهرت مدام كاترين شراط فدوى الملعب بالتصفيق لجمالها وجلالها، وكان كلما بدا في تمثيلها معجب صفَّق لها الجمع حتى الإمبراطور نفسه، ولم يُستثنَ من التصفيق إلا الإمبراطورة.
ولما انتهى الفصل الأول تنحَّى الإمبراطور إلى القاعة الإمبراطورية المختصة بالتدخين، حيث مثل لديه بعض كبار حكومته؛ أما الإمبراطورة فبقيت في المقصورة بالرغم من إلحاح الإمبراطور عليها أن تتنحي إلى القاعة الأخرى، ثم أمرت أحد الحارسين في باب المقصورة أن يستدعي مدير الملعب، فلبَّى المدير الأمر في الحال، وراعه ما رآه من عبوسة الإمبراطورة، ولا سيما لأنها لم تأمره بالجلوس، بل بقي ماثلًا لديها مثول العبد أمام سيده، فقالت: أرى كل شيء جديدًا الليلة.
– نعم يا صاحبة الجلالة، فإننا نبذل ما في الوسع لجعل الملعب الإمبراطوري في مقدمة ملاعب أوروبا، فالرواية جديدة وبعض الممثلين جُدُد أيضًا.
– والملابس جديدة أيضًا؟
– نعم، فعسى أن تكون جلالة الإمبراطورة راضية عن اعتنائنا بإتقان كل شيء.
وكانت الإمبراطورة تزداد تقطيبًا فقالت: مَن صنَعَ ملابس الممثِّلة مدام شراط؟
فاختلج مدير الملعب إذ أدرك النقطة التي تسدد إليها غضب الإمبراطورة وقال: صُنِعت يا مولاتي في المصنع الإمبراطوري.
– حيث تُصنَع ملابس الإمبراطورة؟
فاختبل الرجل وحار فيما يجيب، واستأنفت الإمبراطورة الكلام قائلة: لم يَبْقَ إلا أن تأتوا بالإمبراطورة نفسها وببطانتها إلى الملعب لكي تسروا الشعب.
فانحنى الرجل وكاد يجثو على الأرض وهو يقول: يا صاحبة الجلالة، لو لم يكن جلالة الإمبراطور قد أَذِن بأن تُصنَع ملابس الممثلة مدام شراط في المصنع الإمبراطوري، لكنتُ ألغي هذه الملابس في الحال.
– وقد بلغت القحة منكم أن تستأذنوا جلالة الإمبراطور في أمرٍ لا يدري من شئونه شيئًا؛ لأنه من خصائصي.
– عفوك يا مولاتي يا ذات الجلالة، إني أستأذن جلالته في إبدال الملابس.
فتغيظت الإمبراطورة شديد التغيظ وقالت: أَلَا تزال تزجُّ جلالة الإمبراطور في هذه المسألة بعد أن صرَّحت لك عن إرادتي؟
– ليكن ما تشائين يا جلالة الملكة.
– كفى كفى.
فانحنى الرجل أمامها وخرج مرتبكًا، وذهب توًّا إلى داخل المسرح واستدعى مدام شراط قائلًا: انزعي ملابسك حالًا والبسي ما تشائين من ملابس الملعب الأخرى.
فذعرت المرأة قائلة: لماذا لماذا؟
– جلالة الإمبراطورة غير راضية.
فاكفهرت مدام شراط وارتبكت في الأمر وترددت قائلة: ماذا تقول؟ جلالة الإمبراطورة؟
– لا وقت الآن لِقَصِّ التفاصيل، يكفي أن أقول لك اخلعي هذه الملابس إرضاءً لجلالتها.
– هل درى جلالة الإمبراطور بذلك؟
– ليس ذلك من شأن جلالته.
فتقطبت مدام شراط قائلة: ليس من شأن جلالته؟ إذن من شأن مَن هذا؟ لا نعلم بسلطة فوق سلطة جلالة الإمبراطور، يجب أن نستأذن جلالته في نقض إذنه، وإلا فتتحمل وحدك تبعة هذا النقض.
فتحيَّرَ المدير واشتد ارتباكه، ثم خرج وأوعز إلى كبير أمناء الإمبراطور أن يستأذن له في مقابلة خاصة قبل رفع الستار عن الفصل الثاني، وفي دقيقة كان المدير في حضرة الإمبراطور وحده فقال: إن جلالة الإمبراطورة غاضبة لظهور مدام شراط بملابس من صُنْع المصنع الإمبراطوري الخاص، ويصعب جدًّا إبدال الملابس في أثناء التمثيل. فإذا كانت جلالتها تأذن بتأجيل إبدال الملابس منذ الليلة القادمة نمنع القال والقيل بشأن إبدالها النهائي.
فعبس الإمبراطور وفكَّر هنيهة ثم ابتسم وقال: استمروا في شغلكم وجلالة الإمبرطورة ترضى بما يرضى به الإمبراطور.
فانحنى مدير الملعب وخرج متنفسًا الصعداء. وأما الإمبراطور فعاد إلى المقصورة وجلس إلى جانب الإمبراطورة، ولم تخفَ عليه كآبتها، وما هي إلا دقائق قليلة حتى ارتفع الستار عن الفصل الثاني واستُؤْنِفَ التمثيل، ولو كان الإمبراطور إلى يسار الإمبراطورة لسمع ضربات قلبها وهي تنتظر ظهور مدام شراط.
وما طال الوقت حتى ظهرت مدام شراط بالثوب عينه الذي ظهرت فيه في الفصل الأول، فما كان من الإمبراطورة إلا أن نهضت على قدميها كأن قوة غير منظورة أوقفتها، وقالت: أود أن أرتاح في غرفتي يا سيدي.
– عجبًا!
– إني تعبة غير مسرورة، إذا شِئْتَ يا سيدي أن تبقى فأذهب وحدي في حاشيتي.
وما تمهلت لحظة بل خرجت على الأثر حتى ارتبك الحرس، فخرج الإمبراطور آخِذًا بيدها وقال: الحرس إلى القصر.
فأسرع الحرَّاس الذين عند باب المقصورة وأرسلوا الأمر إلى الحرَّاس المنتظرين في الإيوان الخاص بهم، فركب هؤلاء في الحال وحفُّوا بالمَرْكَبة الإمبراطورية التي درجت في الحال بالإمبراطور والإمبراطورة إلى القصر.
وما أشارت الإمبراطورة إلى سر تغيظها حتى أقنعها الإمبراطور بأن الملعب إمبراطوري؛ فلا حرج أن يكون فيه كلُّ ما يليق بالإمبراطورية، ولم تجسر الإمبراطورة أن تمس الموضوع الذي كان يلعب بظنونها.
وقد مرت أيام فصل التمثيل ومدام شراط تظهر بالثوب الذي كان قذى في عيني اليصابت بنت دوق بافاريا وملكة النمسا.