الفصل الثلاثون
عادت البارونة برجن توًّا إلى منزل مرغريت ميزل، فوجدت فرنند فون فرغتن (زعيم الحزب الاشتراكي في مجلس النواب) ينتظرها، فقالت له: ما وراءك يا حضرة فون فرغتن؟
فقال متهللًا: هل أعجبتك ضجة اليوم يا مدام؟
– جدًّا جدًّا، ولكن يلوح لي أن الإمبراطور أوفد رسولًا إلى تريستا للإتيان بالحلي من عند كاترين شراط لكي تتحلى الإمبراطورة بها غدًا في الحفلة.
– حسنًا، وماذا ننتظر غير ذلك؟
– ننتظر أن الحلي تعود بعد غد إلى كاترين شراط.
– عجبًا! أليس في وسع الإمبراطورة أن تحتفظ بها؟
– قد لا تستطيع.
– إذا كانت الإمبراطورة ضعيفة عن حِفْظ حقوقها التي يحصلها لها الشعب، فخير لها أن …
– صه، الإمبراطورة مسالمة والإمبراطور عنيد كما تعلم، وأنا أود أن أحرم كاترين شراط من الحلي حرمانًا أبديًّا.
– حسنًا، كيف يمكنني ذلك والإمبراطورة …
– يمكن إذا كنتَ تضع تحت أمري الآن رجلًا مخلصًا قويًّا فطنًا يطيعني الطاعة العمياء، وأنا أكون مسئولة عن تنفيذه أوامري؛ فهل عندك هذا الرجل؟
ففكَّر فرنند فرغتن برهة ثم قال: ماذا تطلبين منه أن يفعل؟
– أطلب منه أن يفعل كل شيء يجوز أن يُطلَب منه أن يفعله، حتى السرقة، وحتى قطع الطرق، وإذا سار بحسب تعليماتي يغلب أن ينجح.
– إذن تريدين بطلًا مجربًا.
– نعم، فهل عندك هذا البطل؟
– أجده الليلة.
– تجده في ساعةٍ أو ساعتين؟
– أعتقد أني أجده.
– هل أعتمد عليك؟
– اعتمدي.
– إذن أنتظرك هنا، فاعجل ما استطعت.
وما مر على خروج فرغتن دقيقتان حتى نبَّه البارونةَ برجنَ من بُحْرَانها صوتٌ كأنه قرع، صوتٌ عند باب المنزل، تلاه سباب وشتم فأطلت البارونة من شباك مظلم، فإذا اثنان يتصارعان الواحد يريد أن يفلت والآخَر ممسك بتلابيبه وهو يكيل له اللطمة على خديه إثر اللطمة، إلى أن أفلت ذاك منه وأسرع مهرولًا وهو يقول له: «يا جبان، يا لص، يا نذل.» فهمست البارونة من فوقه قائلة: مَن هذا يا أيها البطل؟
– هذا لص أو جاسوس لا أدري، وإنما رأيته يتلصص حول هذا المنزل حينًا بعد آخَر.
– وأنت أين تكون حتى تراه؟
– إني مقيم في هذا المنزل المقابل لمنزلكم، فلا أدخل ولا أخرج إلا أرى هذا اللص يحوم حول منزلكم، فلم أطِقْ نذالةً كهذه فعاقبته على خسته.
– عافاك الله يا بطل يا شريف، هل تتفضل أن تدخل فنشكر لك مروءتك.
– إني يا سيدتي قد فعلتُ الواجب على كل ذي كرامة، فإذا أذنتِ لي بالدخول لكي أثبت لك إخلاصي في حراسة هذا المنزل أكون شاكرًا.
– على الرحب والسعة.
ثم أسرعت وفتحت الباب، فدخل وأوصدت وراءه ودخلت به إلى الغرفة الوسطى وهو خافق الفؤاد لا يصدق إن كان هذا القبول تعطُّفًا أو شَرَكًا؛ بيد أنه لم يبالِ بالنتيجة مهما كانت إذا كان هذا المدخل يؤدي إلى صلته بالحبيبة، ولو كانت صلة وقتية.
ولما أصبح في البهو الساطع الضياء الأنيق الرياش، لم يشكَّ أنه في حضرة البارونة برجن؛ إذ علم من السيدة التي اجتمع بها في حانة هرمن أنها هي المسيطرة على هذا المنزل، ولما استقر بها المقام قالت له: هل عرفت حضرتك هذا الشخص الدنيء الذي كان يتلصص هنا؟
– أعرفه بالوجه فقط.
– وهل دريت لماذا يتلصص؟
– لا أدري، لعله خبيث القصد غير شريفه، أو كسائر الفتيان الأدنياء الذين يضاجرون الأوانس والعقائل بأساليب غير شريفة.
وكانت البارونة تبالغ في الهشاشة له والبشاشة، فقالت: وما الذي نبَّه جنابك إلى تلصصه؟
– تكرار هذا التلصص.
– إني يا حضرة الفاضل لممتنة للطفك شديد الامتنان، وأتمنى أن تشرفني بمعرفة جنابك.
فازمهر الفتى قليلًا وقال: أُدْعَى يا سيدتي الماجور جوزف شندر.
– الماجور جوزف شندر؟ أهلًا وسهلًا، لقد روت لي مدام ميزل لطفك العظيم ليلة رافقتها والآنسة أميليا من ملعب فولكس إلى هنا، ولطالما تقت للقائك لكي أشكر لك هذه المنة.
فخفق فؤاد جوزف لهذا الحديث المطرب وقال: لقد كنت أسعد حظًّا في تلك الليلة من جميع ليالي حياتي يا سيدتي، ولطالما تمنيت أن يكون لي مثلها.
فابتسمت البارونة وقالت: إن سكوتنا عن شكرك كنود، وإننا نحمد الله لأنه قيَّض لنا هذه الفرصة السعيدة لبث امتناننا لك، يجب على مدام ميزل وعلى أميليا أن يُعرِبَا عن شكرهما بنفسهما لك.
ثم نهضت البارونة واستدعت المرأتين قائلةً: لا ريب أنه يسركما يا مرغريت ويا أميليا أن تشكرا لحضرة الماجور جوزف شندر فضله في حراستكما ليلة مجيئكما من الملعب، وقد أضاف إلى فضله فضلًا آخَر بأن طرد من حول منزلكما دخيلًا دنيئًا كان يتلصص حوله الليلة.
فدخلت المرأتان وصافحتا الماجور وأميليا تزمهر تارة وتمتقع أخرى، وقلب الماجور يخفق بين مهاب الهوى، وجرى بين الأربعة حديث لم يخرج عن حد المجاملة والملاطفة. وبعد نحو ربع ساعة أومأت البارونة من طرف خفي إلى الفتاة والمرأة أن تخرجا، فانسلت الواحدة بعد الأخرى والماجور ينتظر عودتهما؛ لأنه لم يشعر بإيماء البارونة، ولما خرجتا قالت البارونة: إن أميليا حيية وخجول جدًّا، فاعذرها إذا كانت قد قصَّرت في الإعراب عن امتنانها، على أنها شاعرة بلطفك.
– إنك يا سيدتي تبالغين في تقدير الواجب الذي عملته، حتى صرت أشعر أني كنتُ فضوليًّا في عمله، وكدت أحسب وجودي الآن هنا تطفُّلًا.
– عفوك، لست أعني إلا ما يخامر نفسي من واجب الاعتراف بفضلك والافتخار بصداقتك والسرور بتشريفك، واعلم أن هذا المنزل الذي تحرسه متبرعًا لهو كمنزلك، ولك أن تتفقده حين تشاء، وإذا لم تجد من مدام ميزل ومن أميليا على الخصوص الإكرام اللائق بك، حقَّ لك أن تتهمهما بالكنود والجحود.
فنبض فؤاد الماجور عند ذكر أميليا نبضة كادت البارونة تسمعها وقال: إنك يا مدام تحققين لي الآن حلمًا طالما حلمته في اليقظة والمنام على حدٍّ سواء، وأنا أعدُّ تحقيقَه بعيدًا عني بُعْدَ الملائكة عن البشر.
فبالغت في الابتسام قائلة: إنك لمخطئ يا سيدي؛ فإن الملائكة مخلوقون لكي يختلطوا بالبشر، ولهذا يقال إن لكل إنسان ملاكًا يقترب منه دائمًا إذا كان يسترضيه.
فقال الماجور متهللًا: رحماك يا سيدتي، هل يمكن أن يكون ملاكي قريبًا مني؟
– الأمر في يدك يا سيدي.
– يا سيدتي، إذا كان الأمر في يدي فأنا أعبد ملاكي.
– وملاكك لا يحتجب عنك.
– إني جندي يا مدام لا أُحْسِن الشعر، واستسهل الصراحة دون التوريات.
– ليس ما يمنعك من التصريح يا ماجور.
– أظن حضرتك مهيمنة على هذا المنزل.
– نعم، ومسئولة عنه أيضًا.
– أمام مَن؟
– أمام سلطة أعلى.
فانكمش الماجور قليلًا ووجف فؤاده وقال: يا مولاتي، إن ملاكي في هذا المنزل، وإني ضارع على الدوام، فإن كان يحتجب عني ظلَمَنِي المهيمنون عليه.
فتبسمت البارونة ملء التبسم وقالت: إن المهيمنين يتحاشون جدًّا إن يُظلِموا مَن لا يُسِيء إليهم.
– وإذا كان متطلب رضاهم يخضع لهم خضوع العبد لمولاه؟
– لا يضيعون ثوابه.
– حسنًا، لقد عرفت يا سيدتي المهيمنة المباشِرة، وإني متشرفٌ في طاعتها، فهل يمكن أن أعلم المهيمِن الأعلى لكي أعلم أيضًا لمَن أنا مدين بالطاعة والخضوع؟
فأجابت البارونة على الفور: جلالة الإمبراطورة.
فأجفل الماجور واضطرب وامتقع وقال: جلالتها؟
– نعم جلالتها، وهيمنتها سر مكتوم، فإباحته لك تؤيد عظيم ثقتي في شرفك يا ماجور.
– إني عبد جلالتها قبل كل شيء، وإذا كنتُ أضحي بحياتي لأجل جلالتها؛ فلا بِدْعَ أن أكتم سرها حتى الموت. وهل تظنين أن جلالتها ترضى بي حارسًا أمينًا لهذا المنزل؟
– إذا وصفتُ لجلالتها ما تفعله لأجلها من الخدم الدالة على عبوديتك المخلصة، فلا أظنها ألَّا تكون راضية، وجلالتها مشهورة بمعرفة الجميل.
– بربك ترشيدنني إلى الخدم التي أبرهن فيها على عبوديتي لجلالتها.
– لا أبخل عليك بهذا الإرشاد.
– شكرًا لك يا مدام، هل تسمحين لي بسؤال؟
– سَلْ.
– هل يمكن أن أعلم نسبة الآنسة أميليا إلى جلالتها؟
– نسبة المحسِن إلى المحسَن إليه.
ففكَّر الماجور هنيهة ثم قال: إذن ليس في علاقة الآنسة بجلالتها ما يحول دون …
وتوقف الماجور عن الكلام، فقالت البارونة كأنها فهمت مراده: لا أظن، ومهما كانت هذه العلاقة فجلالتها لا تَدَعْ حجابًا يحجب خدَّامها الأمناء عنها.
– إذن قد يمكن أن أكتسب رضى جلالتها كما اكتسبت رضاك.
– كذا أثق.
– إذن حبذا أن ترشيدنني إلى الخدم الجُلَّى التي أكتسِب بها رضى جلالتها.
– وعدتك بأني لا أبخل بهذا الإرشاد، ووعد الحر دين.
– تُرَى هل يمكن أن تفعلي الآن؟
فتلمظت البارونة لعابها وقالت: يمكن، ولكنني لا أدري إن كنت تستطيع أن تقوم بالخدمة التي تحتاج إليها جلالتها الليلة؟
فأبرقت أَسِرَّة الماجور وقال: الليلة؟
– نعم، الليلة، جلالتها تحتاج إلى خدمة شجاع أمين.
– إني هو العبد الأمين يا سيدتي.
– ولكن …
– حبذا أن تخبريني ماهية هذه الخدمة.
– لا أقدر أن أخبرك عنها قبل أن أثق بأنك أهلٌ لها.
– أعتقد أني أهل لكل شيء يستلزم شجاعة وأمانة يا مدام.
– هل تقدر أن تسافر الليلة كل الليل؟
– ما أسهل ذلك!
– وهل تقدر أن تدفع مَن يهاجمك؟
– إني جندي مخلوق للحرب يا مدام.
– حسنًا، وهل تُحسِن الحيلة إذا اقتضت.
– الموقف الحرج يفتق الحيلة يا مدام.
– ربما تعرضت لخطرٍ ما.
– لا أعدُّ خطرًا إلا غضب جلالة الإمبراطورة.
– إذن هل أنت مستعد الآن للقيام بهذه الخدمة العظمى؟
– مستعد.
– اعلم يا ماجور، إذا نجحت بهذه الخدمة تحقَّقت كل أحلامك.
– بربك أنت تأمرين وأنا البرق سرعة في الائتمار.
– حسنًا، اسمع إذن، هذا أمر من جلالة الملك نفسه إلى كاترين شراط يقضي بأن تسلِّم هذه المرأة الحلي التي عندنا لناقل هذا الأمر، فهل تريد أن تكون ناقل هذا الأمر؟
وأخذت من جيبها أمر الملك الذي أخذته من رئيسة الدير ودفعته إليه.
فتأمله الماجور مبهوتًا وقال: إني أرى المهمة أسهل جدًّا مما هوَّلْتِ يا مدام.
– ربما كانت سهلة جدًّا، ولكن قد يعرض ما يُصَعِّبها.
– ماذا؟
– قد تجد مسابقين لأخذ هذه الحلي من كاترين شراط.
– وأمر الإمبراطور الذي في يدي؟
– قد يطرأ نقيض له.
– إذن؟
– عليك بالإسراع حتى تكون السابق.
– أطير في الأوتوموبيل.
– حسنًا، وقد تصادف مَن يحاول اختلاس الأمر أو الحلي منك.
– أحرص عليها حرص الكلب على الدار.
– قد تجد مَن يغتصبها منك.
– لا أترك شيئًا قبل أن تترك روحي جسدي.
– قد يهاجمك رهط من المغتصبين.
– أحتال لكي أفر منهم إذا لم أنجح في الابتعاد عن طريقهم.
– قد تُؤخَذ الحلي منك.
– أقاتل أو أتحايل حتى أستردها.
– قد تأباها عليك كاترين شراط.
– هل تعصي أمر جلالته؟
– ربما عدَّتِ الأمر مزوَّرًا.
– أقنعها بأني استلمته من يد الإمبراطور.
– بورك فيك … وإن الإمبراطورة لا علم لها بهذا الأمر، وإنك لا تعرف مَن في هذا المنزل.
فقال باسمًا: وإني لم أجتمع قَطُّ بالبارونة برجن، ولا … ولا …
– حسنًا جدًّا، لقد سبقك في هذه المهمة الكولونل هان فرنر، فهل تعرفه؟
– أعرفه، ولكنه لا يعرفني على الأرجح أو لا يتذكرني جيدًا.
– إذ سبقك فقد لا يظفر بطائلٍ؛ لأنه لا يحمل الأمر، وهو يظن أنه يحمله ولا يدري مضمون الأمر.
– إذن أكون الظافر على كل حال.
– كلا، قد يكون سبقه لك سببًا في استرداد الأمر منك، أو في نشوء الشك في صحة الأمر الذي في يدك.
– إذن أُسرِع حتى أسبقه.
– وإنْ سبقك؟
– لا أدري، بَيْدَ أني أسطو على الحلي أينما كانت وأغتصبها، لا أعود إلا بالحلي.
– حسنًا، وإلى أين تعود بها؟
– إلى هنا.
– إذن بعد ربع ساعة يكون أوتوموبيل فخم تحت أمرك.
– مهلًا مولاتي! لعل هذه الحلي هي التي …
– نعم، هي التي ضجَّ بها مجلس النواب اليوم كما ضجَّ من مدةٍ.
– فهمت، فهمت، وقد قرأت تلميح الصحف هذا المساء.
– لله من ذكائك! انتظرني إذن حتى أعود.
ثم دخلت البارونة إلى غرفة مدام ميزل، وهمست في أذنها بعض الكلام وخرجت.