الفصل الحادي والثلاثون
أما مدام ميزل، فدخلت إلى البهو وقالت: لا بد أن تأخذ كأسًا من الشاي وقِطَعًا من الكعك معنا.
– أشكر لطفك جدًّا يا مدام.
– إني أعد الشاي وأميليا تؤانسك في أثناء ذلك، فهل تترك قاعة الرسميات وتشرف مجلس أميليا.
فخفق فؤاد الماجور وقال: إذا كان هذا أمرك يا سيدتي، فما أشهى طاعته!
وفي الحال غلغلت مدام ميزل في المطبخ ودخل الماجور إلى غرفة أميليا، فرآها واقفةً وقد توردت وجنتاها وسطعت من شفتيها ابتسامات نورانية لا تطفأ؛ فتقدَّمَ إليها قائلًا: بربك هاتي يدك لكي ألمسها وأتأكد أني لستُ في حلم.
وتناول يدها وطبَعَ عليها قبلةً إن مُحِيت عن معصمها فلا يُمحَى أثرُها في فؤادها، وكانت تجاذب كفها من كفه وهي تقول: ويحك، هل أنت ساحر؟
– بل أنا مسحور.
– لا أفهم كيف دخلت.
– إلى المنزل؟
– بل في عقل البارونة وهي أحرص عليَّ من رئيسة الدير.
– لا أدري، ماذا لاحظت من أمر البارونة؟
– فهمت أنها معجبة بك شديد الإعجاب.
– وأنا أعبدها لأجلك، ماذا قالت لكِ عني؟
– قالت إنك الفتى الذي تبتغيه.
– لماذا تبتغيه؟
– لحراسة مَن في هذه الدار.
– إني الكلب الأمين، وأنت ماذا تقولين؟
فامتقعت الفتاة وقالت: وأنا الطير المطمئن.
– أخاف أن يكون عُمْر هذه النعمة قصيرًا يا أميليا.
– وأنا أخاف أن أُنْقَل إلى قفصٍ آخَر يا جوزف.
– ولكن البارونة وعدتْ وقالتْ إن وعد الحر دين.
– ويحك، بماذا وعدت.
– وعدت بأن آتي إلى هذا القفص حين أشاء.
– يا لله إني مدهوشة مما تقول! لأن عهدي بالبارونة أن تحرم مرور النسيم في محضري إذا كان ينقل خبري، فكيف لعبت في عقلها؟
– لا أعتقد أني لعبت في عقلها، بل هي لعبت في عقلي.
– كيف ذلك؟
– لا أفهم إني مخبول، لا أدري إلا أنها فتحت لقلبي صدرها كما فتحت لجسمي دارها.
– فتحت لك صدرها!
– أجل، أمنتني على سرٍّ خطير.
– يا لله! ما هو؟
– سر وتسأليني ما هو؟
– إذن في نفسك أمور أقرب لقلبك مني؟
– حاشا يا أميليا، وإنما أخاف أن أخسر قربك إذا أفلت سر البارونة.
– إذن السر مختص بي؟
– لا، وإنما حفظه شرط لحصولي على هذه النعمة.
– أية نعمة؟
– نعمة لقائك.
– ويحك أشغلت بالي، أكاد أثق في إخلاص البارونة لك.
– لا أدري، أخاف …
– عجبًا! لو علمت السر لاستطعت أن أحكم في قيمة وعد البارونة، ولكن لا، لا تَقُلْه إذا كان حفظه شرطًا، تُرَى مَن يهم هذا السر؟
– لا أكتم عنك أنه يهم جلالة الإمبراطورة.
– جلالة الإمبراطورة!
– أجل، ولأجلها أنا مسافر في مهمةٍ خطيرة الآن.
– إلى أين؟
– عفوك لا تسألي.
– إذا كانت مهمتك خدمة للإمبراطورة فثِقْ بوعد البارونة إذن، ولكني أعتقد أن في المهمة ما يخصني.
– ما الذي يحملك على هذا الاعتقاد يا أميليا؟
– هو التفات سمو البرنس رودلف إليَّ في هذه الأيام.
فأجفل جوزف وقال: الله! ماذا تقولين؟
– أقول إن سموه يتردد كثيرًا في هذه الأثناء إلينا ويطلب امتثالي لديه، ويلاطفني ويداعبني في دروسي ويحزرني في علومي. وهو كما لا يخفى عليك محب للعلم والأدب ومتضلع فيهما.
– أجل، ولكن لماذا يتردد سموه إلى هنا؟
– لا أدري، وإنما تردده واهتمام البارونة بأمري ولا سيما في الآونة الأخيرة، حملَاني على الظن أن هناك حركة بشأني لا أفهم ما هي.
– وهل تظنينها حركة سيئة.
– لا لا، بل بالعكس أشعر أنها حركة سارة لولا ما فيها من الغموض، ولا سيما غموض المستقبل.
– ويلتاه! أخاف أن تؤدي هذه الحركة إلى بعادك عني.
فوجفت الفتاة وقالت: معاذ الله، ولكن آه، لا أدري، كل شيء ممكن في هذه الدنيا.
– إذن ما العمل؟
– ويحك لا أدري، إني كالسابح في الأوقيانوس العظيم لا يدري أي الشواطئ أقرب إليه.
– إن أمرك لعجيب، أَلَا تدرين ما هي علاقتك بالإمبراطورة؟
– بالإمبراطورة؟
– نعم.
– لا أدري أن لي علاقة بها.
– البارونة تقول أن جلالتها المهيمن الأول عليك.
– ويلاه لا أدري شيئًا من ذلك، ولا أعلم بمسيطر عليَّ قبل البارونة وبعدها.
– عجبًا إنك لا تدرين شيئًا عن نسبك.
– إني متألمة لجهلي هذا السر، وليس في وسعي البحث عنه، إني كالعصفور السجين في القفص.
فقال جوزف باسمًا في إبَّان انشغاله بالحديث: ولا ذنب لهذا العصفور إلا جماله وتغريده.
فتوردت قائلة: آه، بئس المحاسن إذا كانت علة لاسترقاق ذويها.
– عجبًا أن تشكي يا أميليا ونِعَم الإمبراطورة تحف بك.
– لست أشكو إلا من غموض أمري الذي أشعرني بأن عناية البارونة بي قيد لحريتي، ولا سبيل لي وأنا في قيدي هذا إلى كشف الستار عن تاريخ حياتي الأولى، لم أعِ إلا وأنا في الدير ثم انتقلت من الدير إلى دير أضيق دائرة وإن كان أجمل زخرفًا وأنفس رياشًا.
– عجبًا ورئيسة الدير لم تَقُلْ لك شيئًا عن ذويك؟
– لم تَقُلْ ولا تقول.
عند ذلك سمِعَا مدام ميزل تدعوهما لتناول الشاي في المائدة، فقالت أميليا: ها نحن وافيناك.
وقال جوزف: إني مبارح في هذه الساعة على أمل أن أعود إليك غدًا، فهاتي قبلة من يدك أتزود بها حياة إلى الغد.
وتناول كفها وقبَّلها قبلة طويلة، وهي تقول: صه، مه، أخاف أن ترانا مرغريت.
– صلِّي لأجلي يا أميليا لكي أعود سالمًا، إني معرَّض للأخطار.
– ويلاه! لا تترك في قلبي قلقًا عليك.
– لا تخافي إني أقاوم الأخطار حرصًا على حياتي التي وقفتها على عبادتك.
– رباه! أخاف عليك من طوارئ الحَدَثَان.
– أَلَا تسلِّحيني بتعويذة ضد هذه الطوارئ؟
وكانت عيناه تتجاولان حول صدرها وعنقها، وكان في عنقها سلسلة ذهبية عُلِّق فيه قلب ذهبي مرصَّع، فخلعت السلسلة من عنقها وقالت: هذا قلب فيه صورة سيدتنا مريم عليها السلام، فاحفظه تعويذةً لك والعذراء تحرسك.
– إنه لحرز نفيس جدًّا يا أميليا، لعل مهديه لك يُنكِر عليكِ التخلِّي عنه ولو يومًا.
– لقد أعطتنيه رئيسة الدير يومَ وداعي ديرها، فلا حرج في أن تحرص عليه يومًا لتحرسك صاحبة الصورة.
– هذا هو رمز القلب يا أميليا، فأين رمز الجسم الذي يعي القلب؟
فضحكت قائلة: ويلاه! أخاف أن أعطيك رسمي فيقع في يد سواك.
– إن كنتِ تحبينني يا أميليا فلا تخافي شيئًا، إن كل أثر منك أعز عندي من حياتي.
وتقدَّمت إلى مكتبها وتناولت مثل كُتَيِّب صغير وقالت: هذه مجموعة رسومي منذ كنتُ طفلةً إلى هذا العام.
ففتحه جوزف وقلَّبَه قائلًا: رسوم؟
– أجل، رسم كل عامين.
فوضع القلب ومجموعة الرسوم في جيبه إلى جنب قلبه وقال: أحمي هذه الذخائر ما دمت أحمي قلبي.
فابتسمت أميليا وقالت: أليس لي أنا ما أحميه وأحرص عليه.
– قلبي في يدك يا أميليا، فلك أن تفعلي فيه ما تشائين.
– ذاك في يدي فأود شيئًا لعيني.
فضحك قائلًا: هذه صورتي في غيابي.
وتناول من جيبه رسمًا فوتوغرافيًّا صغيرًا ودفعه إليها، عند ذلك قالت مرغريت من الخارج: «يكاد الشاي يبرد.» فخرجا إلى المائدة، وما انتهى الثلاثة من تناول الشاي حتى جاءت البارونة مرثا برجن وهي تتهلل بشرًا وقالت: إليَّ يا حضرة الماجور شندر.
فتبعها إلى البهو، فقالت له: هل أنت على عزمك؟
– إن عزمي الآن أشد منه قبلًا يا مدام إذا كان فيه إرضاء لجلالتها ولسيادتك.
– بورك فيك، هل تعرف تريستا؟
– إني مولود فيها.
– حسنًا جدًّا، ولكني أخاف أن تشغل نفسك بزيارة صحبك هناك يا سيدي.
– إن قلبي باقٍ هنا ولا أقدر أن أعيش بدونه أكثر من عشرين ساعة، فسأكون في تريستا غريبًا ولا صحب لي ولا أهل.
– وهل تعرف فندق امبريال؟
– طالما قابلت أصحابي فيه.
– إلى جانبه الأيمن منزل هو منزل كاترين شراط، الأوتوموبيل ينتظرك في أول ساحة إرلند اليسرى. هذه حقيبة صغيرة فيها زاد الطريق على الطائر الميمون، اذكر يا جوزف أنك تسترضي جلالة الإمبراطورة، الكولونل فرنر سبقك بساعة فقط.
فودَّعها جوزف ثم ودَّع مرغريت وأميليا متهللًا ومضى.