الفصل الثالث والثلاثون
قبل أن تتم الساعة الرابعة صباحًا كان جوزف في تريستا، فإذا هي كمدينة الأموات، وندرت الحركة فيها إلا حركة المبكرين إلى أشغال تقتضي الإبكار، فتردد في أمره؛ هل يذهب إلى كاترين شراط توًّا ويوقظها، فخاف أن تنشأ الشبهة في عجلته، وخاف أيضًا أن يتيسر للكولونل أن يسبقه إذا ترك أوتوموبيله ومشى إلى أقرب محطة للسكة الحديدية، أو إذا تسنَّى له مَن يُصلِح أوتوموبيله أو مَن يؤجره أوتوموبيلًا أو … أو …
وأخيرًا قصد المنزل وتوقَّفَ على مقربةٍ منه، وبقي جالسًا يفكر، وفي برهة أصابته سِنَة الكرى، ولما شق الفجر ستار الدجى انتبه جوزف مذعورًا لقرع باب، فرأى لبَّانًا يقرع باب كاترين شراط، فترجَّل وتقدَّمَ قليلًا إلى أن رأى الباب انفتح والخادم يأخذ اللبن من البوَّاب وهَمَّ أن يقفل الباب، فتقدَّمَ إليه قائلًا: مهلًا، إني أريد مقابلة مدام كاترين شراط الآن.
فأوجس الخادم منه وقال: يا لله! هل رأيت أحدًا يُقلِق النيام في ألذِّ ساعات نومهم؟
– نعم رأيت أهل المريض يوقظون الطبيب في إبَّان نومه، واللبَّان يوقظك.
– ولكن مدام شراط لا تستقبل أحدًا قبل الساعة العاشرة.
– أما أنا فيجب أن أقابلها في هذه الدقيقة.
– لا أحد يقدر أن يوقظها الآن ويسلم من غضبها.
– إذا قلتَ لها أن رسولًا من فينا يريد مقابلتها الآن تُكافِئك على إيقاظها.
وكان الخادم قد تبيَّنَ جوزف ورآه في ثوبٍ عسكري ذي رتبة، فقال: إذن أُوقِظ الخادمة فتُوقِظ المدام.
وبقي جوزف يتمشَّى أمام المنزل، وبعد بضع دقائق رأى الشباك قد انفتح قليلًا وشعر أن شبحًا أطلَّ منه، ثم رأى نورًا سطع، وما هي إلا «لا حول ولا» حتى ناداه الخادم أن ادخل، فدخل وقاده إلى البهو، فبقي يتمشى في البهو عدة دقائق إلى أن أقبلت المدام كاترين شراط مجلببة بجلباب صفيق، فبادرها جوزف منحنيًا باحترام كلي وقائلًا: عفوًا يا مدام ومعذرة، لو لم يكن أمر جلالته أن أتشرف بين يديك حالما أصل إلى هذه المدينة، ما جسرت أن أزعج سيادتك في هذا الفجر، هذه رسالة جلالته بخط يده الكريمة. ولم يَدَعْ جوزف لها فرصةً للكلام، حتى لا تسأله عن اسمه، وما اطَّلَعَتْ على الرسالة حتى وجفت واكفهرت، ثم قالت: عجيب أن الرسالة غير مغلفة.
– عفوًا يا مولاتي، إنها شبه أمر، والأمر مكشوف كما لا يخفى على سيادتك، ومع ذلك فإن جلالته يعتبر شخصي غلافًا لهذه الرسالة.
فنظرت فيه باسمة وقالت: تريد أن تقول أن …
– إن جلالته يثق أني أتمنى أن أضحي بنفسي في سبيل طاعتي وعبوديتي له؛ ولهذا ترين يا مولاتي أني لم أَنَمْ منذ استلمت هذه الرسالة، ولن أنام حتى أَضَعَ الحلي في يد جلالته.
فازداد اضطراب كاترين شراط وقالت: هل ذكر جلالته لك الحلي التي يريدها؟
– لم يذكرها، وإنما يريد الحلي التي قامت الضجة لأجلها في مجلس النواب.
– أمس؟
– نعم، أمس ضج الاشتراكيون في مجلس النواب بأمر هذه الحلي؛ ولهذا رأت حكمة جلالته أن يستجلبها ولو لأجل حفلة هذا المساء، وربما قرأت في صحف اليوم شيئًا من هذا القبيل.
وكانت كاترين ترتجف غضبًا ولا تقدر أن تكتم غيظها، فقالت: حفلة عيد ميلاد الإمبراطورة؟
– نعم، في هذا المساء.
– ما شأن هؤلاء الاشتراكيين الوقحين؟
– إني يا مولاتي جندي خادم لإرادة جلالة مولاي الإمبراطور، ولا دَخْلَ لي في السياسة.
ففكرت كاترين شراط برهة وهي تتقلَّبُ غضبًا تقلُّب الحرباء، ثم قالت: ماذا قال لك جلالته غير مضمون هذا الأمر؟
– أوصاني أن أكون شديد الحرص على الحلي.
– هل تعلم قيمة الحلي؟
– أعلم أنها ثمينة ونفيسة جدًّا يا مولاتي؛ ولهذا اختار جلالته أصدق عبيده لنقلها.
– ومتى تعود؟
– الآن.
– عندك متسع من الوقت؟
– لا يا مولاتي، فإن الأمر يقضي بالعودة في الحال، وقد قتلت من وقتي هنا بضع دقائق وأمام منزلك ساعة؛ لأني أشفقت أن أوقظك على إثر وصولي.
– إذن لا مناص؟
– نعم يا سيدتي، لا مناص من تنفيذ أمر جلالته في هذه الدقيقة، فأرجو من فضلك ألا تحمِّليني جريمة التأخُّر.
فعادت كاترين شراط إلى غرفتها مكتئبة، وبعد عشر دقائق عادت وبين يديها صندوق، وفتحته وعرضت على جوزف شندر الحلي التي فيه قائلةً: هذه ١٢ قطعة.
– مفهوم يا مولاتي، إني أستلم الصندوق مقفلًا وأسلمه إلى جلالته الساعة العاشرة إن شاء الله مقفلًا، وداعًا الآن. إلى الملتقى إن شاء الله.
– أجل، إلى الملتقى في فينا إن شاء الله.
ثم حمل جوزف الصندوق بعد أن أودع مفتاحه في جيبه وانحنى ومضى، وكان الصباح قد اتضح قليلًا، وبقيت كاترين جالسة في غرفتها تفكِّر مكتئبة.