الفصل السادس والثلاثون
في الساعة الثانية عشرة من النهار وقف القطار القادم من تريستا إلى فينا في غرتز، والقطار يقف في هذه المحطة نحو ثلث ساعة، بحيث يتسنَّى لمَن يشاء من الركاب أن يتناول غذاءه من المطعم الذي في المحطة.
في هذا القطار كان الماجور جوزف شندر، فلما وقف في محطة غرتز نزل جوزف منه وأسرع إلى المطعم، وفي خمس دقائق تلمظ غداءه مختصرًا وعاد إلى القطار من غير أن يلتفت إلى مَن في المحطة من الداخلين في القطار والخارجين منه أو الواقفين.
وما تحرَّكَ القطار حتى دخل إلى الغرفة التي كان فيها جوزف سيدة مقنَّعة بقناعٍ كثيف وجلست إلى جانبه، وبعد هنيهة رفعت القناع فخالسها جوزف نظرةً، فنظرت فيه وابتسمت فتبيَّنها، فقالت مبالِغةً في الابتسام: أظنني لست غلطانة، حضرتك الماجور جوزف شندر.
فحملَقَ فيها قائلًا: أجل إني خادمك، أظنني رأيت حضرتك؟
– لا أظنك تنسى اجتماعنا منذ عهد قريب في حانة هرمن؟
– أجل، أجل، أذكر أنك سميت نفسك حينذاك جوليا هرتمان، أليس كذلك؟
فضحكت قائلة: نعم نعم جوليا هرتمان، أراك وحدك هنا، فلماذا لا تكون مع المدخِّنين؟
فضحك قائلًا: آثرت عِشْرة الحسان على عِشْرة المدخنين، فقلت في نفسي يجب أن أعتزل غرف الرجال عسى أن أُرْزَقَ برفيقة حسناء، فكان حظي مضاعف السعد.
– لله من رقتك يا ماجور! لو كنت بثوبك العسكري لكنت أجذب لقلوب الحسان. تُرَى لماذا خلعت ذلك الثوب الجميل وارتديت هذا الثوب الذي لا يميزك عن عامة الناس؟
– أتأسف يا سيدتي، إني كنت أجهل هذه الحقيقة وإلا لما ارتكبت هذا الخطأ.
– أما أنا فسيان عندي، فقد عرفتك قلبًا وقالبًا، ولا يزيدني ثوبك ودًّا لك وإعجابًا بك.
– شكرًا للطفك يا مدام، عسى أن يكون حظي من هذا اللطف طويل الزمن، ومن رفقتك أيضًا.
– أتمتع بعطفك من هنا إلى فينا وبعد ذلك فتبعة الوحشة تقع عليك وحدك.
فتبسم جوزف مِلْء ثغره وقال: وإذا كنتُ أجهل عنوانك، فعلى مَن التبعة؟
فقهقت قائلة: أوه، ما دامت حانة هرمن موعودة فلا يتعذر عليك أن تعيِّنَ لي مواعيد اللقاء فيها، إلا إذا كان في شارع فرنز ما يشغلك عن لقاء أصدقائك المخلصين.
فضحك خافق الفؤاد وقال: شارع فرنز؟
– أجل، حيث يكون كنزك فهناك قلبك.
– يلوح لي أن عندك أخبارًا حسنة عن شارع فرنز يا مدام.
– عندي أخبار مهمة، ولا أدري ماذا تعني بقولك حسنة.
– أعني معلومات جديدة كانت مجهولة.
– أجل عندي كثير منها.
– بالله ما هي؟
فضحكت قائلة: ليس من السهل استخراج المجهول يا ماجور، وما يُحصَل عليه بعناء ليس رخيصًا.
– إذن تريدين أجرًا في مقابل أخبارك يا مدام؟
– لا أظنك تُنكِر عليَّ هذا الحق.
– عسى أن يكون في وسعي أن أدفع هذا الأجر.
– في وسعك دفعه من غير أن تخسر شيئًا.
– إذا كنت لا أبخل بأي أجر أستطيعه، فبالأحرى أجود بالأجر الذي لا أخسر فيه. فمُرِي يا سيدتي وأنا العبد الطائع.
– أريد قبلةً من هذا الثغر.
فتورَّدت وجنتا جوزف وقال متردِّدًا: أخاف أن أقول لك يا سيدتي إن هذا الثغر والقلب الذي وراءه وكل عضو من أعضاء الحب التي فيَّ، إنما هي وَقْفٌ وليس في وسع أحد التصرف في الوقف.
فابتسمت قائلة: تعني وقف على أميليا؟
فاشتد تورُّدُ جوزف وقال: لقد نطقتِ بما يكفيني مئونة التلميح إليه أو توريته.
– أوه، لا تظنني بهذا الطلب أنتهك حرمة هذا الوقف المقدس، بل بالعكس أزكي حجته؟
فتريَّبَ جوزيف وقال: عجبًا! لا أقدر أن أفهم كيف يمكن ذلك.
فتبسمت قائلة: الأمر بسيط جدًّا، وهو أن مَن يحب أميليا لا بد أن يحبني أيضًا.
– لم يزل اللغز لغزًا يا مدام.
– بعبارةٍ أخرى مَن تحبه أميليا أحبه أنا أيضًا.
– القول مفهوم، ولكن يمكن تطبيقه على فروض مختلفة.
فضحكت قائلةً: لا أقدر أن أقول من هذا القبيل أكثر مما قلتُ يا ماجور.
– لا بأس، ومن قبيل آخَر ماذا تقولين؟
فقالت مقهقهةً: الأجر الأجر أولًا.
– إني أثق بقولك يا مدام، إنَّ مَن يحب أميليا يجب أن يحبك.
وتعانقا وتلاثما، فشعر جوزف بأنفاس حرَّى لا يمكن أن تعلل حرارتها إلا بلهبات الحب الصادق، فقال: ويحك! إنك فتحتِ خزَّان الحب في صدري، فحاذري أن يتدفق.
– أما خزَّان صدري فقد تدفَّق، فبربك حاذر أن يراق ما فيه.
فنظر فيها باسمًا وقال: مدام.
– أليست أميليا تحبك؟
– أجل تحبني.
– فثِقْ إذن أني أحبك.
– إنكِ توسعين دائرة المجهول في ظني يا مدام.
– يجب أن تعلم أن المجهول أعظم جدًّا من المعلوم، وإلا خبطت على غير هدى.
فثارت بلابل جوزف في نفسه وقال: شرعت أشعر بعِظَم قدر المجهول يا سيدتي، وقد أخذت أجر المعلوم سلفًا.
فنظرت إليه وقالت: ويك تمنني؟
– معاذ الله يا سيدتي، ولكن أَلَا تشفقين أن أبقى معلَّقًا بخيطٍ ضئيل فوق هاوية المجهول؟
– ماذا تريد أن أقول؟
– أرجو أن تقولي لي ما عرفتِ عن شارع فرنز.
– سيرحل الذين فيه.
فانتفض جوزف وقال: ويحك! إلى أين؟
– إلى حيث تختفي أخبارهم.
فاكفهرَّ جوزف وقال: بربك لا تقولي هذا القول.
– أُشفِق أن أضلك بعد أن أخذت الأجر منك.
– إذن لا تمزحين.
– ربما كانت حياتي كلها مزاح إلا اليوم.
– وهل تخفى أخبارهم عني؟
– عنكَ أولًا.
– وعنكِ؟
– وأما عني فأخيرًا إذا لم أقل لك لن تختفي.
– لا أظنك تقسين عليَّ بأن تبخلي بأخبارهم.
كل شيء في الدنيا بين سبب وغاية، فإن كنتَ أحدهما كانتْ لك صلة بذلك الشيء.
– كيف يمكن أن أكون أحدهما؟
– هذا أمر من شأنك وحدك.
فتحيَّرَ جوزف وقال: كيف يمكن أن أتذرع إلى أن أكون أحدهما؟
– ربما كانت المقادير خير معلم لك.
ففكَّرَ جوزف هنيهة ثم قال: إن لحديثك هذا يا سيدتي درجة هائلة في فؤادي، إن لي حقًّا بأن أتردد فيه إذا لم تُقِيمي برهانًا عليه.
فقهقهت قائلةً: تظل تظنني مختلِقَة إلى أن يحقِّق لك فراغُ شارع فرنز صِدْقَ قولي.
– لا أقول أنك مختلِقَة، وإنما أعتقد أن معلوماتك خطأ أو هي ضئيلة.
– كأنك تستفزني إلى بسط سائر معلوماتي.
– إن بسطها ضروري لتأييد بعضها بعضًا، فهل علمتِ شيئًا عن السر المجهول الذي هو نواة الأسرار.
– تعني نسب أميليا؟ نعم، علمتُ كثيرًا.
– ماذا علمتِ؟
فابتسمت قائلة: أترى أنك تحاول أن تستخرج مكنوناتي وتستعلم مكتوماتي؟
– لا أنكر أني أتمنى ذلك، فإن كنتِ تحبينني كما تحبين أميليا فلماذا لا تقولي لي ما أتوق لمعرفته كما تتوق أميليا؟
فقهقهت قائلة: يا للسذاجة! إن ما يحظر الآن اطلاع أميليا عليه، لحري أن يحظر اطلاعك عليه.
– تقولين الآن؟
– أجل، لأن كل خفي سيُعلَن، وكل سر سيصير جهرًا.
ففكَّر جوزف برهة، ثم قال وهو يتبرم: ما دُمْتِ تكتمين يكون لي حق بالشك يا مدام، فالمعذرة إذا لم تبسطي برهانك على معرفتك المجهول.
– أوه، لي أيضًا أن أشك بعلائقك بأميليا حتى تأتي ببرهان على تلك العلائق.
فاستوى في مكانه وقال: وحق شرفي إن عندي براهين على تمكُّنِ هذه العلائق.
– وأنا عندي براهين عديدة على صحة معلوماتي.
– هاتي بعضها، وأنا أُرِيكِ بعضها.
فمدت يدها إلى صدرها وتناولت صورة فوتوغرافية وأرتها لجوزف وقالت: هل تعرف هذه الصورة؟
فلما رآها جوزف أبرقت أَسِرَّته وكادت تنبثق عيناه من وَقْبَيْهما وقال: ويحك! كيف لا أعرف معبودتي؟ أنَّى لك هذا الملاك؟
– هذا برهاني الذي أتمنى أن تدفع نصف حياتك ليكون لك مثله.
فضحك جوزف وقال: لقد دفعتُ كل حياتي يا مدام.
– ولم تحصل على مثل هذا؟
– حصلت على أكثر منه.
– لا أصدق.
– أُرِيكِ فانظري.
وأراها مجموعة الصور التي أخذها من أميليا.
فبهتت وقالت: ويحك! أنَّى لكَ ذلك؟ إنك سارق، إنك مختلس. لو كنتَ تعرف أن مثل هذا لا ينال، لَكنتَ تعرف قيمته.
وجعلت البارونة تقلِّب الصور دهشةً، وكاد جوزف يسمع خفقان قلبها تحت تموجات صدرها المصعد المصوب، ورأى مقلتيها تكادان تغرورقان وهي تقول: لا أصدق! لا أصدق أن هذه التحفة النفيسة تقع في يدك!
فقهقه جوزف وقال: إذن ماذا تقولين إذا أريتك هذا أيضًا؟
وأراها القلب المرصَّع المعلَّق في السلسلة الذهبية، فلما وقع نظرها عليه بغتت وبهتت وبقيت نحو دقيقة تنظر فيه نظرة الأخبل، ثم قالت: ويحك! هل تعلم ما في يدك الآن؟
– ماذا؟
– إن في يدك لقلبي.
– أيهما تعنين الجماد أم الحي؟
فتنهدت ملء صدرها وقالت: والهفتاه! كليهما أعني.
ومدت يدها وتناولت القلب من يد جوزف وهي تنتفض انتفاض العصفور بلَّلَه القطر، وقالت: رباه! هل حفظت لي عهدي لكي تجدِّد سعادتي، إن كنت قد أثمت فذنبي في عنق غيري، اللهم ارحمني واغفر لي وجدِّدْ سرور قلبي بنعمتك، إن عملك العجيب تمجيد لك ومسرة لعبدتك.
وكانت هذه الصلاة القصيرة تفعم قلب جوزف وقارًا وخشوعًا، وكانت حينذاك لغة الصمت أفصح بيانًا من اللسان، وكانت المرأة خاشعة مفكِّرة، وجوزف يتأمل معقود اللسان، إلى أن جعلت المرأة تذرف الدمعة إثر الدمعة، حتى أخذ التأثر من جوزف كل مأخذ، فقال بصوتٍ خافت: سيدتي، أخاف أن أكون السبب في إثارة شجونك فعفوًا.
– ما أنت إلا رسول السلام لقلبي يا سيدي، فشكرًا للقدر الذي جمعني بك.
فانحلت عقدة لسانه وقال: يلوح لي يا سيدتي أن لهذا القلب الذهبي تاريخًا تعرفينه جيدًا.
– ربما انحصرت معرفة تاريخه بي.
– عجبًا! والذين تناقلوه؟ أَلَا يعرفون تاريخه؟
– قد لا يعرفون بدء تأريخه.
– تعنين أنه شيء أثري؟
فتنهدت وقالت: يا له من أثرٍ هائل!
– أشفق أن أستزيدك بيانًا بتاريخ هذا القلب يا مدام لئلا تشتدَّ ثورة أشجانك.
– لعلك تعرف شيئًا من تاريخه.
– أعرف أنه كان في عنق أميليا.
– آه أميليا حشاشتي … أوه، والهفتاه! والوعتاه!
وهطلت الدموع من عيني المرأة، فوجم جوزف وبعد قليل قالت المرأة مجهشة: وهل تعرف مع مَن كان قبلًا؟
– لا، ربما كان أمانةً مع رئيسة دير الراعي الصالح.
– أجل، وقبل ذلك كان معي، كان في عنقي تعويذة حب ووفاء، آه واحر قلباه.
فتردد جوزف في الكلام ثم قال متلجلجًا: هل تريدين يا سيدتي أن تقولي أنك … أو أن أميليا …
– آه أميليا ابنتي من لحمي ودمي، وقد فقدتها كل سني عمرها والآن وجدتها، آه من جور مَن سلب مني ابنتي.
– إنْ كنتِ يا سيدتي تقدرين أن تُثبِتي أمومتك لها، فلا قوة في الكون تستطيع أن تمنع ابنتك عنك.
فاجهشت المرأة ثانيةً وقالت: أليس من الظلم أن يضطر المرء أن يُبرهِن ملكيته لحشاشته.
فتأثَّر جوزف من انفعال المرأة شديد التأثر، وأدرك أن بدء تاريخ أميليا محاط بأسرارٍ هائلة، فقال: لستِ وحدك يا سيدتي ذات الحق في ملكية ابنتك.
فحملقت فيه قائلة: ويحك! من شريكي في هذا الحق؟
– عفوًا يا سيدتي، أعني أباها، أليس لها أب الآن؟
فذُعِر جوزف إذ صرخت المرأة صرخة كادت تنبِّه سائرَ مَن في الغرفة الأخرى من المركبة وقالت: أبوها، الويل لأبيها الويل لذويها، آه واحرباه وغضباه! آه. أواه. ويلتاه!
وسردت مثل هذه المترادفات التي انتهت باغماء المرأة حتى استلقت على المقعد ضائعة الصواب، فذعر جوزف إذ رآها على هذه الحالة واشتدَّ تأثُّرُه من أمرها، وجعل يعالجها عسى أن تستفيق، ولكن انفعال المرأة كان شديدًا حتى كانت كمَن أصيب بصرعٍ شديد، وما فتحت عينيها إلا بعد برهة طويلة، فقالت بصوتٍ متهدج: عفوك يا حبيبي وعذرًا، إن الصدمة كانت هائلة.
ثم أغمضت عينيها كأن ملاك الموت يرفرف فوقها، فجزع الفتى وأمسك بذراعيها وهزها، فتنهدت ملء صدرها وفتحت عينيها، فقال لها: فديتك يا حبيبتي، هل أبحث لك عن طبيب؟
– لا، يكفي كأس كنياك إن استطعت.
– أستطيع. فمهلًا دقيقة.
وخرج جوزف وقصد إلى مطعم القطار وابتاع زجاجة كنياك وعاد، وكانت دهشته عظيمة إذ لم يجد السيدة ولا العلبة ولا القلب المرصَّع، فعضَّ أصبعه وقال: يا لها من ممثلة داهية!
ثم خرج من الغرفة كالمجنون، وجعل يطوف في القطار من أوله إلى آخِره يبحث ويسأل، فلم يصادف إلا أجوبة الاستهجان تارةً والهزء أخرى، كانت البارونة حصاة ملح فذابت.
ربما كان جوزف أشد تغيُّظًا لأجل القلب المرصَّع منه لأجل العلبة، والله أعلم.