الفصل السابع والثلاثون
ما هي إلا دقائقٍ معدودة بعد أن كلَّ جوزف من البحث حتى وقف القطار في محطة ستينا منجر، فنزل من القطار وأسرع إلى مكان يرقب منه مخرج المحطة، حيث لا ينتبه إليه أحد، وجعل يراقب الخارجين منها عسى أن يرى السيدة تخرج، وكان الركاب قليلين فخرجوا جميعًا في دقيقة ولم يَرَ السيدة بينهم، فقال في نفسه: لم تزل هذه الداهية في القطار إذن، إلا إذا كانت قد تجنحت وطارت قبل أن يقف القطار.
فعاد إلى القطار غاضبًا، فرأى رقيب القطار يخاطب رجلًا ويومئ إليه (إلى جوزف) إيماءً لطيفًا، فتقدَّمَ إليهما وهو يرمقهمها، فترك الرجل رقيب القطار ومال إلى جوزف وحيَّاه قائلًا: عفوًا يا سيدي، هل أنت من الركَّاب؟
فأجابه جوزف متبيِّنًا أمره: نعم.
– أما صادفت بين الركاب ضابطًا برتبة ماجور؟
– لا، مع أني رأيت كل الركاب.
– إن رقيب القطار يقول إنه ليس بين الركاب ضابط البتة.
– لعل الضابط في ثوب ملكي يا سيدي، أَفَلَا تعرف اسمه؟
فتردد الرجل وقال: ربما كان في ثوب ملكي، وإنما من علاماته أن معه علبة صغيرة، ربما لم يكن معه غيرها.
– هل قال رقيب القطار إنه رأى راكبًا من الركاب ذا علبة صغيرة؟
– نعم قال.
– أين هو؟
– هو أنت الذي دلَّني عليه، فهل تشرفني باسمك الكريم؟
– بل ما هو اسم الرجل الذي تبحث عنه؟
– كأنك هو؟
– ربما كنتُ إياه.
– هل اسم حضرتك الماجور جوزف شندر؟
– لماذا تبحث عنه؟
– إذا لم تكن إياه فما الفائدة من الحديث؟
– هَبْ أني هو.
– إني مرسلٌ لخفارته.
– مَن أرسلك؟
– الذين أرسلوك.
– مَن أرسلني؟
– الذين تركت صورتك عندهم أمس.
فخفق فؤاد جوزف وقال: مَن قال لكَ إني تركت صورتي عندهم.
فتناول الرجل صورةً من جيبه وأراها لجوزف قائلًا: أليست هذه صورتك؟ إن أنكرتها فهي تثبت عليك ولا تقدر أن تنكر أن بيت الشعر هذا مكتوب تحتها بخط يدك.
– الله! كيف اتصلت إليك؟
– أعطيتها علامةً لتثق بي.
فهمس جوزف قائلًا: هل أرسلتك البارونة؟
– والإمبراطورة أيضًا، فأين العلبة؟
– رحماك، سُرِقت بحيلةٍ شيطانية.
– ويحك!
– سرقتها امرأة داهية وأنا أبحث عنها كالمجنون.
– يا للدهاء! أين هي؟
– لا أدري، إني واثق أنها لم تخرج من هذه المحطة؛ لأني راقبت جميع الخارجين منها فلم تكن بينهم، فلم تَزَلْ في القطار إلا إذا كانت قد تجنَّحَتْ وطارت منه قبل أن يقف.
– وهل تختفي في القطار؟
– لا أدري بحثت في كل غرفة فيه قبل أن يقف، فلم أجدها.
– هل تعرفها؟
– عرفتها مرة في فينا، ولكني إلى الآن لم أعرف اسمها الحقيقي؛ لأنها توارت وراء اسم جوليا هارتمان.
– يا لله! أين هي؟ هل فتشت في غرف مراحيض القطار؟
– لا، لم يخطر لي ذلك.
– ولا في القاطرة، لعلها متواطئة مع مَن فيها وهي مخبوءة هناك.
– لم أبحث هناك.
– إذن عُدْ إلى القطار وابقَ فيه وابحث في المراحيض، وأنا أذهب إلى القاطرة. راقِبْ رحبة المحطة قبل أن يسير القطار.
فدخل جوزف إلى القطار ووقف في الشباك يراقب الرحبة، وذلك الرجل أسرع إلى القاطرة وصعد إليها، وعند ذلك قُرِع الجرس ونُفِخ بوق القطار، وما كاد القطار يجلو من المحطة حتى رأى جوزف المرأة في صحن المحطة وقد وقع نظرها على نظره، فرفعت يدها وألاحت منديلها كأنها تودعه مسافرًا وهي تبتسم، فأسرع إلى باب القطار وفتحه يريد الوثوب، فرأى الرجل الذي كان يخاطبه أمامه وقد نزل من القاطرة على إثر تحرك القطار، فانتهره هذا لئلا يعطب إذا وثب؛ فامتنع جوزف عن الوثوب وصاح له: ويحك! تلك هي في صحن المحطة، أسرِعْ إليها قبل أن تفلت، إن العلبة في يدها.
وكان القطار قد ابتعد والرجل أسرع إلى صحن المحطة وقد لمح المرأة تخرج، ولكنه لما خرج من المحطة لم يَرَ للمرأة أثَرًا فضلًا عن عين.