الفصل الثامن والثلاثون
لقد صدق ظن ذلك الرجل، فإن تلك المرأة الداهية كانت مختبئة في غرفة مرحاض من مراحيض القطار، ولما وقف القطار برزت من الغرفة وتلصَّصت على جوزف، فإذا هو في رحبة المحطة وعيناه شائحتان، فعادت إلى مخبئها، ولما تحرَّك القطار خرجت ونزلت منه. حتى متى زايل الرصيف وهي تنظر إلى شبابيكه لمحت جوزف وحيَّتْه باسمه كأنها تسخر به، ثم لمحت الرجل الآخَر يكلِّم جوزف، فأدركت أن هذا الرجل حليفه ولا بد أن يطاردها، ولا سيما إذ رأته مسرعًا نحوها، فأسرعت واختبأت في غرفة مرحاض المحطة إلى أن شعرت أن الرجل خرج. وبعد برهة نَوَتْ أن تخرج فسمعت لغطًا، فأدركت أن الرجل يسأل مَن في المحطة عنها، فكمنت إلى أن لم تَعُدْ تسمع صوتًا وهي حائرة ماذا تفعل، إلى أن مضت عدة دقائق فسمعت دوي قطار، فبرزت فإذا قطار من القطارات التي تقف في كل محطة قد وصل وهو يتبع الجهة التي برح فيها القطار السابق، فأسرعت إليه واختبأت فيه، ولم يكن مَن ينتبه إليها إلا رقيب القطار وناظر المحطة؛ لأن الذين في المحطة قليلون، وما هي إلا دقائق معدودة حتى تحرَّك هذا القطار فتنهَّدت الصعداء.
بقيت صاحبتنا جوليا هرتمن — أو البارونة ليوتي، أو نينا فرست، أو الكونتس ألما فورتن كما عرفها القارئ بهذه الأسماء — بقيت في القطار موجسة أن يداهمها أحد، ولكن وقف القطار في بضع محطات صغيرة من غير أن يتعرَّض لها أحدٌ، فاطمأنت وهي تقول في نفسها: لقد نجوت وظفرت.
ثم وقف القطار في محطة أودنبرج، فأطلَّتْ من شباك القطار عسى أن ترى أحدًا من حلفائها المنتظرين، وجعلت تنظر هنا وهناك على غير هدى، فما شعرت إلا بيدٍ تقبض على ذراعها، فالتفتت فإذا شرطي في ثوب كبتن وراءها يقول لها: هلمي يا سيدتي معي.
فجزعت وقالت: لماذا؟
– باسم جلالة الإمبراطور آمرك أن تتبعيني.
– إني عبدة جلالته وخادمته، فأود أن أعلم لماذا؟ وإلى أين؟
– عليك أن تتبعيني بلا اعتراض يا مدام، وعليَّ أن أقودك عنفًا إذا عارضتِ، ومتى بلغتُ بكِ إلى حيث أنت مطلوبة تعترضين وتستفهمين ما تشائين.
– لعلك يا سيدي تطلب غيري وعثرت عليَّ خطأ.
– لا لا، وهَبِي الأمر كما تقولين فلا ضرر عليك إذ يُطلَق سراحك في الحال إذا لم تكوني المرأة المقصودة.
فسخطت به قائلة: ويحك! حسبي ضررًا أن يسبقني القطار، وأنا مضطرة أن أصل فيه.
– تنالين التعويض الذي تعينيه في الحال.
– إن ذلك مخالف للشريعة، وأنا واثقة أنك تقبض عليَّ خطأ.
– لا إذن لي لسماع الجدال يا مدام، فإذا لم تخرجي في الحال قبل أن يتحرك القطار اضطررت أن أجرك جرًّا ولو بهوان، فالأفضل أن تنزلي معي حالًا.
ورأت صاحبتنا أن كلام الشرطي محتوم ولا مناص ولا حيلة، فانقادت صاغرة وهي تؤمل أن ترى أحدًا من أعوانها، ولكن خاب أملها؛ لأن الشرطي قادها إلى خارج المحطة بأسرع ما يمكن وهي محتفظة بالعلبة شديد الاحتفاظ، وأدخلها إلى أوتوموبيل، فدرج بهما كالبرق الخاطف، وفي دقيقتين وقف الاوتوموبيل لدى منزلٍ صغير لكنه جميل، فأدخلها الشرطي إليه ثم أدخلها إلى غرفة أنيقة الرياش بَيْدَ أنها مقفلة النوافذ؛ ولهذا كان النور فيها ضعيفًا، ثم قال لها: تفضلي يا سيدتي اجلسي، وبعد قليل يُسمَح لك أن تعترضي وتسألي ما تشائين.
وبقي الشرطي واقفًا في الباب نحو دقيقة إلى أن أقبل رجل، ففسح الشرطي له السبيل وانحنى أمامه بكل إجلالٍ، فدخل.
فلما رأته البارونة ليوتي لأول وهلة ظنَّتْ أنه الرجل الذي رأته في محطة ستينا منجر يخاطبه جوزف ويرشده إليها، ولكن كيف وصل إلى هنا؟ فلما جلس تبيَّنته جيدًا، فوجفت قليلًا ثم قالت: لا أدري سر هذه المعاملة، هل أصبح رجال البوليس قطَّاع طُرُق أيضًا؟
فقال لها باسمًا: لماذا تقولين ذلك يا مدام؟ هل أخذ الشرطي شيئًا منك؟
– لا، أَلَا يكفي أنه أخذني عنفًا من القطار وجاء بي إلى هنا؟
– وهل ترين هذه الغرفة مغارة لصوص؟
– ولا هي دائرة بوليس، فإن كنتُ متَّهَمَة ففي دائرة البوليس استجوب، وإلَّا فأنا في مغارة لصوص وأنتم قطَّاع طرق.
– فَلْنَرَ مَن هو اللص يا مدام، أنَّى لكِ هذه العلبة؟
– قلتُ إني لا أجاوب إلا في دائرة البوليس.
– هنا دائرة البوليس الخاصة بتهمتك يا مدام، فإن كنتِ بريئة من اللصوصية والسرقة أو الخطف فبَرْهِنِي لي براءتك من سرقة هذه العلبة.
– يستحيل أن أقول كلمة قبل أن أعلم صفة مَن يستجوبني، فلا أراني في دائرة بوليس، ولا في محكمة، ولا أمام ذي سلطة قانونية.
– إنك أمام ذي سلطة قانونية، إني صاحب الأمر والنهي، فما هو اسمك؟
– اسمي البارونة ليوتي.
– ما شاء الله، بارونة لصة.
– إنك يا هذا تهينني.
– هل تُنكِرين أنك سرقت هذه العلبة من فتى كان معك في الإكسبريس الذي سبق القطار الذي كنتِ فيه؟ سرقتها بين محطتي غرتز وستينا منجر.
فتبسمت البارونة قليلًا من وراء اكمداد الغضب وقالت: عجبًا! كيف تُثبِت أني كنت في ذلك القطار؟
– رأيتك بعيني قد نزلت منه.
– ولماذا لم تمسكني حينذاك؟
– سعيت إليك فاختفيت، خرجت من المحطة فلم أجدك، فسألت عنك البوليس الذي أمام المحطة فقال: إنه لم يَرَ سيدة وحدها خرجت من المحطة بعد انصراف الناس، فعُدْتُ أبحث عنك في المحطة فلم أجدك، فخفت أن تكوني قد خرجت من غير أن يلاحظك البوليس، فأوصيته أن يقبض على كل امرأة تخرج من المحطة ريثما أعود، وركبت أوتوموبيلي وطفت كل ذلك الحي المجاور للمحطة فلم أعثر عليك، فعُدْتُ إلى المحطة فأكَّد لي البوليس أنه لم تخرج سيدة وحدها من المحطة قَطُّ، فرجحت أنك لم تزالي فيها مختبئة، فسألت ناظرها فأكَّدَ لي أنه رأى سيدة في يدها علبة تركب القطار الذي جلا منذ دقيقتين، فركبت أوتوموبيلي وسبقت قطارك إلى هنا، وكان لي الحظ بلقائك يا مدام.
– ونِعْمَ اللقاء، وإنما لم أكن أنتظر أن تتنازل لأن تطارد لصة وأنت صاحب الأمر والنهي.
– إذا كانت اللصة بارونة، فيقتضي أن يطاردها أكبر من بارونة.
– إن عملكم هذا اعتداء على الحقوق الفردية، ومصادرة للحرية الشخصية، ومنافاة للشريعة بل لإرادة جلالة الإمبراطور، لا أريد أن أناقش هنا. أريد أن أُسْأَل في دائرة البوليس.
ووقفت تريد أن تخرج، فوقف الرجل وأمسك بيدها قائلًا: مكانك وإلا …
فسخطت به: ماذا تريدون مني؟
– أريد هذه العلبة.
وخطفها من يدها، وبأسرع من لمح البرق انْتَضَتْ مسدَّسًا من يدها وسددته إلى صدره وقالت: اترك العلبة حالًا، وتأكَّدَ أنه لا يستطيع أحد أن يبتعد بهذه العلبة عني قبل أن تبتعد روحه عن جسده، ردَّهَا حالًا.
فجزع الرجل واكفهرَّ وجهه وجلًا وقال: حاذري يا امرأة أن ترتكبي جناية؛ لأنه لا يستطيع أحد حتى الإمبراطور أن ينقذك من القصاص.
– اعلم يا هذا أني إذا ارتكبت جناية، فلا أبتغي نجاةً من القصاص.
– أقول لكِ ارمي مسدسكِ إلى الأرض.
– ردَّ العلبة إلى يدي.
– إنك لوقحة.
وكانت متجهة نحو الباب مخافة أن يفاجئها أحدٌ منه، وما خطر لها أن ينقض عليها من وراءها الشرطي الذي قادها؛ لأنه كان في غرفة مجاورة يسمع المناقشة، فلما سمع بذكر المسدس فتح الباب الآخَر من ورائها وانقَضَّ عليها وأمسك بذراعيها؛ فأطلقت المسدس، فأصابت الرصاصة أعلى الجدار، وفي الحال خطف المسدس منها قبل أن تنطلق رصاصة أخرى، وصرعها إلى الأرض وصفد يديها وقيَّد قدميها، والرجل الآخَر واقف. فلما أنجز الشرطي عمله، أشار إليه ذاك الرجل أن يتبعه وخرجَا معًا.
فجعلت البارونة تصيح وتصخب وهي تقول: إذا تركتماني هنا على هذه الحال أملأ الدنيا صراخًا واستصراخًا.
وأما الرجل فأوعز إلى الشرطي أن يذهب بالعلبة إلى حيث أرشده، ثم عاد إليها وقال: إذا بقيتِ تصرخين فلا تجهلين كيف أتَّقِي صراخك.
فقالت: عار على رجلين أن يقسوا هذه القسوة على امرأة ضعفية.