الفصل التاسع والثلاثون
فقال: إن التي تجرأ على أن تلعب دورًا فظيعًا على جلالة الإمبراطور ليست ضعيفة، بل يجب أن تبقى رابضة في الحديد كل حياتها.
فجزعت البارونة وخافت العقبى الهائلة، ولكنها تجلدت وقالت بتوءدة: إني البارونة ليوتي، ولي معارف من النبلاء يشهدون أني حسنة السمعة، وأني …
– اعلم جيدًا أن البارونة ليوتي اليوم كانت الكونتس الما فورتن بالأمس، والله أعلم ماذا كانت قبل الأمس.
– إنك يا سيدي حاكم مستبد. هَبْ أني كما تقول، فلماذا لا تسلمني إلى دائرة البوليس والتحقيق القانوني هناك يُثبِت قولي أو قولك؟
– إني فوق كل سلطة، فإذا كان لديك ما يبرئك من التهمة فقوليه الآن.
وكان الرجل يتمشى غاضبًا فقالت له: إذا كنتَ يا سيدي حليمًا، وتمهلني حتى تسمع تاريخ حياتي تثبت لك براءتي.
– إذا كنتِ لا تقرعي أذني بقصةٍ مختلَقة، فأسمع قولك، لعل في قصتك ما يفيد.
– إني أشكر حلمك العظيم، كنتُ يا سيدي ابنةً لأبوين فاضلين متوسطي الحال، وكانا يعنيان تمام العناية بتربيتي، وكنتُ في مدرسة القديسة حنة نابغةً بين أترابي …
فاختلج الرجل عند ذلك وحملق فيها واستمرت تقول: واتفق أن عظيمًا زار مدرستنا فتلوت لديه قصيدة أُعجِب بها وكافأني عليها، وما لبثت أن علمت أن ذلك العظيم بي أُعجِبَ لا بقصيدتي …
فصاح بها: ويحك! هل تريدين أن تزعمي أنك …
– أجل، إني ماري هوتن التي اصطفاها البرنس رودلف ولي عهد النمسا خليلة له.
فانتهرها قائلًا: ويحك! ما الذي جاء بطيفك الآن من عالم الأموات، وعهدي بماري أن الأوقيانوس الأتلانتيكي قد ابتلعها، يا للهول! يا للأقدار! أين كنتِ يا شقية؟
– لقد تقمصت روحي في هذا الجسد الجديد، وعدت الآن يا برنس للدينونة، وما تقمَّصْتُ هذا التقمص إلا لكي يتناسى الناس وأهلي خاصةً ماري هوتن التي هجرها البرنس بعد أن كانت أمينة في ولائه وطائعة لأهوائه وواثقة بوفائه، ولكن واندماه! لم يَدُمْ وفاؤه أكثر مما دام حملي الأليم، فهجرني في إبَّان توجُّعي.
فقال غاضبًا: ولكنه زوَّدك بكل ما يكفل راحتك وهناءك، فهل تنكرين؟
– أَتمننى يا سيدي براحة الجسد بعد أن سُلِبْتُ راحة النفس إلى الأبد؟
– كنتِ تعلمين أكثر مما كنتُ أعلم أن تلك النهاية لا بد منها ما دمتُ أنا وليًّا للعهد وأنتِ من العامة، فلا تقدرين أن تزعمي أني خدعتك.
– هل كنتُ أعلم أني أُحرَم ثمرة أحشائي؟
– إن ثمرة قحتك حرمتك ثمرة أحشائك، ومع ذلك فأنتِ تعلمين أني كنتُ بريئًا من تُهَمك، وأني لم أكن أعرف شيئًا أكثر مما تعرفين.
– إذا كنتُ أهتم في سلامتي المستقبلة فهل أُعَدُّ وقحة؟
– لقد وعدتك بضمانتها، فلم تثقي بوعدي.
– سرعان ما علمت قيمة وعودك وعهودك.
– صه يا فتاة، بماذا وعدتك وعاهدتك؟
– هل نسيت أنك وعدت ألَّا تتركني حتى ولو تزوجت؟
– لم تصبري حتى تعلمي إنْ كنتُ أبر بوعدي، بل عمدتِ إلى الصخب والجلبة حول اسمي فجنيت ثمرة ثرثرتك.
– كنتَ تريد أن أكون عبدة لك أو آلة صماء في يدك … وهنا ذرفتْ دموعها وهي تقول مجهشة: فلا بِدْعَ أن تثقل يدي ورجلي بالحديد الآن، هذا جزاء التي خسرت مستقبلها في سبيل الحرص على راحتك، هذا جزاء التي أوهمت العالم أنها غرقت مع غرقى الباخرة داكوتا التي كانت مسافرة إلى أميركا، لكي يطمئن قلبك وقلب أبويك وذويك ولا يتهموك بالزيغان عن رغائبهم لأجلي، هذا جزاء التي خسرت عطف أهلها وحنانهم ورحمتهم، وأخيرًا خسرت اسمهم في سبيل تضحيتها نفسها لك.
فتأثَّر البرنس شديد التأثر لكلامها وحلَّ الصفادة عن يدها والقيد عن قدميها، وقال: والله لولا مخافة نارك ما توقيت شرك بهذا الحديد، وإذا كنتِ قد قلتِ من فمك أنكِ عُدْتِ إلى هذا العالم لأجل الدينونة، أَفَمَا أكون معذورًا إذا أوجست منك وحسبت حساب شَرِّك.
– لم أتعرض لكَ، بل أنتَ اعترضت في سبيلي.
– إذن ما الذي دعاك إلى اختلاس العلبة يا شقية؟
– هل ينكر عليَّ أن أتجند في حرب أعدائي للانتقام ممَّن ظلموني؟ فما اكتفوا بأن حرموني إياك حتى حرموني ابنتي، آه من القساة، آه من الظلمة.
– ألهذا إذن لعبت ذلك الدور الفظيع على أمي الإمبراطورة؟
– أجل؛ ولهذا ألعب هذا الدور الهائل أيضًا على البارونة برجن التي تُنكِر على الإمبراطور علاقته مع كاترين شراط التي أنكرت على البرنس علاقته مع ماري هوتن، ولكنها لا تُنكِر الآن علاقته مع ابنة أخيها البارونة فتسيرا. الإمبراطور ملوم في حب كاترين؛ لأنه زوج امرأة، والبرنس ملوم الآن في حب ماري فتسيرا؛ لأنه زوج امرأة، ولكنه لم يكن ملومًا في حب ماري هوتن؛ إذ لم يكن مقيَّدًا بعهدٍ مع زوجة، ما زلتُ أشفق أن يتصل بك أذى يا برنس فلم أتعرض لك، مع أني عشت على مقربةٍ منك ١٢ سنة، وعشت عيشة المرأة العمومية بسببك، ولعلك رأيتني غير مرة في مراسح تريستا، وربما حدَّثتك نفسك بأن تغازلني وتحتظيني وأنت لا تدري أنك تغازل محظيتك الأولى، ولكني ابتعدت عنك حرصًّا على راحتك، مع أنه كان في وسعي أن ألعب عليك دورًا هائلًا فظيعًا جدًّا.
فرَقَّ لها البرنس وقال: إني أقَدِّر تصرفك هذا في الماضي قَدْره يا ماري، ولا أبخل بسعادتك في المستقبل يوم أكون أتم حرية وأعلى سلطانًا، فصبرًا يا ماري صبرًا، وإنما أرجو أن تبعدي من طريق المكايد التي تُكَاد الآن في البلاط.
– أبتعد، أفعل كل ما تأمرني به. اللهم إذا كنت تجدِّد عهدك، ولا أبتغي منك عربونًا على تجديد عهدك إلا أن تضع ابنتي في حجري.
– ابنتك؟
– نعم، ابنتي ابنتك.
– هل خرفت؟ مَن يستطيع أن يرد الأموات إلى عالم الأحياء؟
– إن الذي ردَّنِي من قعر الأوقانيوس الأتلانتيكي إلى بلاد النمسا يقدر أن يردَّ ابنتي إليَّ.
– أمَّا أنتِ فمكرك ردك، وأما ابنتنا …
– فمكركَ أيضًا يردها.
– كأنك تجهلين أو لا تثقين أنها ماتت في الثانية من عمرها.
– كأنك تجهل أو تتجاهل أنها لم تَمُتْ، فيا للمكر!
– ويحك! ماذا تقولين؟
– أثق بما أقول.
– بماذا تثقين؟
– أثق أن ابنتنا لم تَزَلْ حية تُرزَق، وقد صارت صبية جميلة تحت رعايتك.
– أحلف لك بعنقي وشرفي وبتاجي العتيد أني أجهل ذلك، ولا أصدق بما تقولين.
– يا لله! أحقيق أنك تجهل الحقائق في بيت مدام فرنر في شارع فرنز؟
– في بيت مدام فرنر؟
– نعم، ألَمْ تَرَ أميليا؟
فانتفض البرنس وقال: أميليا؟
– أجل، أميليا، أَلَا تعلم أنها ابنتنا؟
فبهت أشد بهتة، وصمت كالأخبل الأبله، وبعد هنيهة قال: ويحك! كدْتُ أعلق الفتاة، كدْتُ أغرم بها؛ لأنها شعلة ذكاء وشعاعة جمال.
– لا عجب أن تعجب بابنتك.
– إنك يا ماري تمكرين.
– لستُ أمكر، لماذا تذهب أنت إلى هناك؟
– أذهب لأن المنزل ملتقى لبعض أهل البلاط في غير المظاهر الرسمية.
– ولماذا يكون ذلك المنزل كذلك؟
– لأن الفتاة وأمها أو مربيتها ممَّن تعطف عليهم البارونة برجن لعلةٍ قديمة.
– أجل والإمبراطورة تُنفِق على ذلك البيت لأجل هذه العلة القديمة السرية. إن الإمبراطورة امرأة فاضلة لم تَشَأْ أن يكون مستقبل حفيدتها غير الشرعية تعسًا، فعنيت بتربيتها من وراء البارونة برجن.
– يا لله! أحقيقة ما تقولين يا ماري؟
– أجل، إني علمت كل مكايد البارونة منذ جعلت تعمل على اغتيالي إلى أن أَخْفَتِ ابنتي عني، حتى لا تكون حجتي وذريعتي ووسيلتي إليك، إلى أن ادَّعَتْ موتها لكي تموت تلك الحجة والوسيلة.
– كأنك تكلمينني في حلم يا ماري.
– بل في اليقظة، وأنت في ملء بصيرتك وبصرك، انظر هذه الصورة.
وتناولت من صدرها صورة أميليا وأرته إياها، فقال: أجل، هذه صورة الفتاة أميليا.
– ولا تقول إنها صورة ابنتك! انظر القلب المرصَّع المعلَّق في عُنُقها، ما أظهر شكله.
– أراه جيدًا.
– أَلَا تذكر أنك علَّقته بيدك في صدرها على إثر ولادتها.
– أذكر ولم أَنْسَ.
– هذا هو.
وتناولت من صدرها ذلك القلب ودفعته إليه قائلةً: تأمَّلْه جيدًا.
فتأمَّلَه ثم قال: عجبًا! إني لم أَرَه في صدر الفتاة ولا مرة.
– بالطبع لا تراه إذا كانت البارونة برجن لا تريد أن تعرف أن أميليا ابنتك، فهي توصي الفتاة أن تنزعه من عنقها حين تستقبلك.
فقبَّل البرنس القلب ثم قبَّل الصورة وقال: واحناناه! واحنواه! واعطفتاه! سأجعلك يا أميليا سعيدة وأنتِ ثمرة الحب الأول.
– إذن تعترف بحقي أن أملك ابنتي.
– لا أضن عليك بهذا الحق يا ماري، وإنما أرجو منك الصبر والإمهال.
فتنهدت المرأة وقالت: واحر قلباه، لم يَبْقَ في قوس الصبر منزع يا برنس، أخاف أن تكون وعودك الآن كوعودك الماضية.
– لا لا، سترين.
فتدللت عليه قائلة: إذن قبِّلني قبلة جديدة يا فريدريك، وطمئني أنك ستكون لي في المستقبل كما كنتَ في الماضي.
– مه، هل نسيت أني زوج امرأة فاضلة الآن؟
فأجفلت قائلة: لا لم أَنْسَ، ولم أَنْسَ أيضًا أن البارونة ماري فتسيرا تقاسِم زوجتك عِشْرتك أيضًا.
– ابتعدي عن هذا الموضوع يا ماري، فما علاقتي بالبارونة فتسيرا إلا علاقة عِلْم وأدب.
فتبسمت له سائلةً: ولا تُنكِر يا برنس أن لها نصيبًا من قلبك كنصيب زوجتك.
– ربما كان لها ذلك جزاء عِلْمها وأدبها.
– تُرَى ما هو نصيبي منك يا برنس؟
– لك نصيب تعرفينه يا ماري وستحققه لك الأيام المقبلة، فلا تتسرعي، دعيني الآن في مشاغلي.
فانكمشت المرأة إذ شعرت أن البرنس يعدها لكي يسكتها فقط وقالت: لقد انتهت مشاغلك منذ صباح اليوم يا برنس.
فأجفل وحملق فيها قائلًا: ماذا تعنين؟
– أعلم أن مشاغلك محصورة في البارونة فتسيرا.
– أجل.
– البارونة نُفِيت اليوم نفيًا أبديًّا من كل النمسا، وحُرِّمَ عليكما أن تجتمعا حتى في الحلم بعد الآن.
فامتقع البرنس وقال: تكذبين.
– هذه هي البينة الساطعة لصِدْق قولي يا برنس.
ودفعت إليه أمر الإمبراطور بنفي البارونة فتسيرا وقالت: اقرأ أمر الإمبراطور وشاهد بعينك إمضاء البارونة فتسيرا عليه الدال على أنها اطَّلَعَتْ عليه ونفَّذته.
فانتفض البرنس نفضة المصروع وصاح بها: ويحك! إنها لمكيدة هائلة يا شيطانة.
– لا تسخط بي، إني بريئة.
– كيف وصلت يدك إلى هذا الأمر الهائل؟
– المقادير يا برنس، المقادير.
– والمكيدة يا شقية؟
– المكيدة مكيدة ماري فتسيرا نفسها، إن الإمبراطور ينقم على كلِّ مَن يشترك في مكيدة ضده، ومتى صرت إمبراطورًا تفعل كذلك.
– وماري؟
– برحت فينا قبل الظهر، ولا أظنها تقف إلا في أميركا الجنوبية، أو في الصين، أو في الهند.
فاشتدَّ غضب البرنس ولطم صدغيه بكفيه، وصاح: الويل للعاتي الظالم، الويل للباغي.
واشتدَّ انفعاله حتى انقلب مغمًى عليه.