الفصل الرابع
في ذات يوم تأخَّر الإمبراطور فرنز جوزف في الصيد خلافًا لعادته، فلعب الفأر في صدر إليصابات الإمبراطورة، فكانت تطوف في قاعات القصر على غير هدى وهي تلاهي نفسها هنا وهناك بما ترى وما تنظر، ولكن ثورة القلق كانت سائدة، ومتى كان القلقُ قلقَ غيرةٍ فلا ينجي منه حول ملك ولا طول دولة.
لم يَعُدِ الإمبراطور إلى القصر حتى ضحى اليوم التالي، بعد أن ورد إلى الإمبراطورة بلاغ رسمي أن الإمبراطور قضى ليلته في قصر شن برن لسبب تأخُّره في الصيد.
وبعد أن دخل الإمبراطور إلى غرفته الخاصة استلفت نظره ما صادفه من تغيُّر بعض الأشياء في مواضعها، فاستدعى إحدى الوصيفات وسألها: هل دخل أحد إلى هذه الغرفة؟
– نعم يا مولاي، جلالة الإمبراطورة أقامت فيها برهة وهي قَلِقة لطول انتظارها عودة جلالتكم.
وخرجت الوصيفة وبقى الإمبراطور يفحص ما في الغرفة، ولما أبدل ملابسه قصد إلى خدر الإمبراطورة ودخل إليها هاشًّا باشًّا، ولم تخفَ عليه آمائر كآبتها، فقال بعد أن جلس إلى جانبها: إني متأسف لاضطراري إلى التأخُّر يا إليصابات، فإن القنص كالقمار يغري، سواء في حالتي الإقبال والإدبار، ولكني توفَّقت كل التوفيق وستتغدين اليوم من صيدي.
فقالت وهي لا تزال عابسة: لا ريب عندي أنك كنتَ موفَّقًا، ولست أنتظر طعام الغداء برهانًا على توفيقك.
فقال محاولًا مضاحكتها: بالطبع، إن تأخري وحده يكفي برهانًا على توفيقي.
– لا ريب أن توفيقًا كتوفيقك يُوجِب هذا التأخر.
– أليس كذلك؟
– من غير بد.
– لو كان في وسعك أن تتحملي مشقات المطاردة يا إليصابات لكنتُ آخذك معي.
فتبرمت قائلة: إن صيدك يا سيدي لا يستلزم مطاردة، فهو موجود تحت أمرك، ولو كنتُ موجودة معك لنفر صيدك منك، فخير لك أن أبقى بعيدة عن …
فابتسم الإمبراطور مكفهرًّا قليلًا ثم قال: عمَّاذا؟
– عن حيث يوجد صيدك.
– أين؟
– في هيتزنغ.
فقال الإمبراطور مغضوضيًا: أحب الصراحة يا إمبراطورة.
فأجابت ممتقعة: وأنا أحبها أيضًا.
– إذن ماذا تعنين في هيتزنغ؟
– أعني أن مدام شراط هناك.
– وغيرها كثيرون هناك أيضًا.
– ولكنها في الصَّرْح الصغير.
– وهَبِي الأمر كذلك.
– في الصرح الذي أهديتها إياه.
– لا أرى أمرًا مستهجنًا في أن يهدي الإمبراطور هدايا ثمينة لنوابغ رعاياه تشجيعًا لهم ومكافأةً لاجتهادهم، وقد علمت أن كل أهل فينا يطنبون في تمداح الممثلة مدام شراط؛ فرأيت من الواجب أن أهديها هدية.
– ليس المستهجن أن يهدي الإمبراطور هدايا لنوابغ رعاياه، وإنما المستهجن أن يهدي الإمبراطور صرحًا لكاترين شراط مجاورًا لقصر شن برن العظيم.
– لا أرى هجنة في ذلك إذا اتفق أن الصرح قريب من القصر.
– ولا ترى هجنة في أن ينفتح بين القصر والصرح طريق خاص؟
– هذا الطريق فُتِح قبل أن يُهدَى القصر.
– نعم، ولكن فُتح بعد أن نُوِي إهداؤه.
– وما معنى كل ذلك يا إليصابات؟
– معناه أن مدام شراط تؤخِّر الإمبراطور في الصيد ليلة.
فتململ الإمبراطور وكظم غيظه وقال متضاحكًا: إنكِ تتهمين الإمبراطور تهمة تُعَاقَبين عليها.
– أود أن تكون تهمة كاذبة وأتحمل العقاب بصبر.
– إني أنكر كل ما تعزينه إليَّ، وما أكرمتُ هذه الممثلة إلا مكافأة لنبوغها بعد أن مدحها الجمهور، وصار الشعب يلومني إذا لم أتعطف عليها بهدية.
– ولكن لا تنسَ يا إمبراطور أن مدام شراط لم تَنَلْ مدح الجمهور لو لم تظهر في الملعب الإمبراطوري ممثلته الأولى، ولم تظهر فيه كذلك إلا بعد أن أمر الإمبراطور بذلك. فقد أوجدتها لكي تكافئها.
– لو لم تكن أهلة للثناء لما نالته، ولو أمر ألف إمبراطور.
فابتسمت قليلًا ثم قالت: عسى أن يكون كلامي افتراء، ولكن ما معنى إهداء الصرح بعد إهداء الوفير من الحلي.
– كل تلك الحلي التي أهديتها لمدام شراط لا تليق بأن تكون هدية إمبراطور النمسا لنابغة ممثلاتها.
– حسنًا، وهل الصرح لائق بذلك؟
– بالطبع.
– والعقد؟
– أي عقد؟
– عقد اللؤلؤ النفيس الذي لم تُهْدَ الإمبراطورة مثله حتى ولا يوم عرسها.
– ما شأنه؟
– هدية لمدام شراط أيضًا؟
فازمهرت عينا الإمبراطور قليلًا ثم قال: لا عِلْمَ لي بهذي الهدية.
– عجبًا أتُنْكِر؟
– لم أهدها عقدًا قَطُّ، ولا عِلْمَ لي بعقدٍ لمدام شراط.
– لم تهدها إياه بعدُ، ولكنك لا تنكر أنك أعددته هدية لها.
– وبهذا تفترين عليَّ أيضًا يا إليصابات.
– عجبًا هل تريد أن أقنعك بالمحسوس؟
– نعم.
– إذن قُمْ معي.
وأمسكت بيده فتبعها، حتى دخلت إلى غرفته وتقدَّمت توًّا إلى مكتبه، وأخذت المفتاح من المكان الذي كان مخبَّئًا فيه، وفتحت الدرج وقالت: انظر هذه العلبة.
– نظرتها؟
– العقد فيها، أليس العقد فيها؟ لعلك أخفيته. ثم تناولت العلبة وفتحتها فظهر فيها عقد من اللؤلؤ يساوي عشرة آلاف جنيه، وقالت: هذا العقد لمدام شراط أيضًا.
فقال: مَن قال لك أنه لها؟
– إذن لمَن هو؟
– اقرئي ما كُتِب على المادليون الألماسي الذي عُلِّق فيه.
هدية من الإمبراطور فرنز جوزف إلى زوجته الإمبراطورة اليصابت تذكارًا لعيد ميلادها.
ثم التفتت إليه مبهوتةً وقالت: عجيب، تأمَّلت هذا العقد جيدًا، ونظرت في هذا المادليون فلم أَرَ فيه هذه الكتابة، بل لم أَرَ فيه هذا البهاء الباهر، فكأنه غير ما رأيته.
فابتسم الإمبراطور وقال: لا بدع أن لا ترى هذا المادليون كما رأيتيه الآن يا مدام؛ لأن وساوس صدرك أظلمت بصرك، ولو كنت تنفين هذه الوساوس من نفسك لكنتِ ترين الإمبراطور كما هو لك.
فابتسمت وقالت: أحقيق أن ما في صدري وساوس لا حقائق يا فرنز؟ أتمنى أن أكون مخطئة وألتمس منك الصفح، إن هذه الهدية ثمينة يا فرنز ولكن إخلاصك عندي أثمن جدًّا.
ثم ارتمت عليه وقبَّلته، فقبَّلها وهي تقول له: سامحني يا فرنز سامحني.
فقال: إني أسامح سوء ظنك، ولكني لا أغفر لك بحثك في غرفتي واطِّلَاعك على دخائلي الخصوصية.
– أما أنا، فأسمح لك أن تطَّلِع على كل شيء في غرفتي الخاصة، فلا تجد إلا كل برهان على إخلاصي لك.
فقال باسمًا: أجل، ولكن لا يخفى عليك أن هذه الغرفة غرفة رئيس المملكة كلها، وأما غرفتك فغرفة ربة القصر فقط.
– إذن هلمَّ بنا إلى غرفتي حيث أكون صاحبة الأمر والنهي.
– سمعًا وطاعة يا ذات الجلالة.
ومشى معها إلى غرفتها وهي تبالغ في ملاطفته، ثم جلسا فقالت: «أود أن أفعل في مملكتي الصغيرة هذه ما يسرك، فقُلْ ماذا تريد أن أفعل؟»
– أريد أن تأمري وتنهي.
– إذن نشرب كأسًا معًا.
– نشرب.
فأوعزت إليصابات في إحضار المشروب وتساقَيَا برهة وهما يتنقلان في أحاديثٍ مختلفة، ثم قال: إذا كانت أوامرك ونواهيك قد انتهت فاسمحي لي أن أعود إلى مكتبي، حيث أرى بعض أشغال المملكة.
– لكَ ذلك يا عزيزي.
– أليس لكِ أمرٌ آخَر؟
ففكَّرت إليصابات هنيهة ثم قالت: نعم، نعم، لي رجاء لا أمرٌ، وهو أن تعيِّن البارون هرمن برجن ابن مربيتي مرثا في سكرتيرية البلاط.
ففكَّر الإمبراطور هنيهة ثم قال: سأنظر في الأمر يا عزيزتي.
– ما كنت أظن الأمر يحتمل نظرًا.
– سأفعل ما يسرك.
– إذن قبِّلْني قبل أن تخرج.