الفصل الأربعون
كانت الساعة الرابعة بعد الظهر حين وصل قطار قادم من نيوستاد إلى أودنبرج، فنزل منه فون درفلت، وما صار في صحن المحطة حتى التقى بالبارونة ليوتي، فقال لها: لقد أخذت تلغرافك الذي أرسلته من سينا منجر وفهمت منه أنك نجحت، فأسرعت لكي ألاقيك في نيوستاد فلم أجدك في القطار الذي انتظرت أن تكوني فيه، وسألت عنك تلفونيًّا في فينا فعلمت أنك لم تصلي بعدُ، فخفت أن يكون قد طرأ لكِ طارئ، فجئت إلى هنا.
– أجل، لقد طرأ الطارئ.
– ويحك أين العلبة؟
– اغتصبها مني مغتصِب، أخذني شرطي برتبة كبتن قسرًا وعنفًا من القطار الذي كنتَ تنتظرني فيه في هذه المحطة، وقادني إلى منزل كان ولي العهد ينتظرني فيه، فأخذ العلبة مني وأرسلها مع ذلك الشرطي ولم يطلق البرنس سراحي إلا الآن.
– أين ذهب ذلك الشرطي؟
– ركب أوتوموبيلًا، ولا بد أن يكون قد أصبح في فينا الآن أو على أبوابها.
– هل أنتِ واثقة أنه ذهب في أوتوموبيل؟
– لا شك عندي بذلك؛ لأنه قادني إلى ذلك المنزل بأتوموبيل، وبعد ما سلَّمه البرنس العلبة سمعت دوي الأوتوموبيل وهو يفارق ذلك المنزل.
– ويحك! هل عدمت حيلة للتخلص؟
– هل تنتظر من امرأة أن تقوى على رجلين ذوَيْ سلطة؟
– لا أدري ماذا أقول لك، أَمَا استطعت أن تلعبي دورًا على البرنس الفيلسوف الساذج؟
– قُضِي الأمر قبل أن أتمكن من الدهاء على البرنس.
– ففكَّرَ فون درفلت هنيهة ثم قال: عليك أن تنتظري في المحطة القطار الذي يصل الساعة الخامسة قاصدًا إلى فينا فتذهبين فيه، ويغلب أن تري فيه الكولونل هان فرنر فانتظراني أو انتظرا تلفونًا مني في محطة نيوستاد.
•••
نعود إلى الكبتن ملن الذي استلم العلبة من البرنس رودلف، فإنه ركب الأوتوموبيل قاصدًا إلى فينا، وما هي إلا ساعة من الزمن حتى وصل إلى النهر الذي يمر بنيوستاد، وهو رافد من الروافد التي تصب في نهر الدانوب، فرأى الجسر الذي يعبر عليه منسوفًا والناس حوله من هنا وهناك وهم يلغطون، فسأل عن سبب نسفه؟ فقيل له إن بعض الأشرار نسفوه لغرضٍ مجهول وفروا، فأدرك أن نسف الجسر كان بدسيسة من الخصوم.
فحار الكبتن ماذا يفعل إذ لا جسر يعبر عليه من ذلك الطريق غير ذلك الجسر، ففكَّرَ مليًّا، ثم خطر له خاطر فلجأ إلى خان قريب أودع فيه أوتوموبيله، وتأبَّطَ العلبة وعاد إلى ضفة النهر واستأجر زورقًا من الزوارق التي تُستأجَر لعبور النهر وركب فيه وهو طامع بأن يستأجر أوتوموبيلًا من نيوستاد، ولكنه ما لبث أن رأى ضابطين يتمشيان على ضفة النهر الأخرى، فأوجس منهما وأشار إلى صاحب الزورق أن ينحرف به نازلًا مع مجرى النهر إلى مكانٍ بعيد، ولكن صاحب الزورق لم يُصِخْ إلى كلامه، فأدرك أن هناك مكيدة ضده، ولطالما حذره البرنس من كيد الكائدين، فانتهر الزورقي فلم يعبأ بانتهاره، فما كان منه إلا أن قبض عليه بسرعة ورماه إلى النهر، وجذب الزورق بنفسه مبتعدًا عن الشاطئ، فأسرع بعض الزورقيين إليه وهم يتوعدونه، ولكنه ما زال مسابقًا لهم إلى أن أصبح بالقرب من الجسر الخاص بالسكة الحديدية، وكان أولئك الزوارقة قد أوشكوا أن يدركوه، فوثب من الزورق إلى الشاطئ الأول الذي كان قد تركه وصعد إلى الصقالة، فتحداه الزوارقة يريدون القبض عليه، فوثب إلى اليبس وأطلق لساقيه العنان، وأسرع إلى حيث كان أوتوموبيله فاستقله، ودرج به عائدًا في الطريق الذي جاء منه.
وما زال سائرًا حتى قارب أودنبرج على بُعْد بضعة أميال منها، وفيما هو ينعطف في منحنى إذ التقى فجأة بأوتوموبيل قادم عليه ورأى فيه رجلًا بثوبٍ ملكي وضابطًا، فلوى لأوتوموبيله العنان وكان الأوتوموبيل الآخَر قد أصبح على بُعْد ٢٠ مترًا منه، فسمع أحد الاثنين يصيح به أن يتوقف، فلم يعبأ بل استمر سائرًا، ولكن الأوتوموبيل الآخَر كاد يدركه وأصبح على قيد بضعة أمتار منه، فصاح به الضابط أن يتوقف، فالتفت إليه قائلًا: إني مأمور أن أستمر في سبيلي ولا أصيخ لأمر أحد.
فصاح الضابط: إني بصفتي أعلى منك في الرتبة العسكرية آمرك أن تتوقف، وإلا عوقبت عقابًا شديدًا.
– إن الذي أمرني ليس فوق سلطته سلطة، وهو يجاوب عني عند المحاكمة.
فأجابه الضابط: وإني مأمور من أعلى سلطة أن أستوقفك مهما كان آمرك عظيمًا.
– لن أتوقف.
– إذا لم تتوقف فإني مأمور بإطلاق الرصاص عليك.
– فلم يُصِخِ الكبتن له بل زاد سرعة أوتوموبيله، ولكن إلى أين؟ من الرمضاء إلى النار، من هؤلاء إلى الجسر المنسوف، وكان إلى يمينه فرع طريق يؤدي إلى مدينة راب فعطف إليه، وعند ذلك دوى الرصاص فوق رأسه، فانحنى حتى أصبح مصونًا بقفا الأوتوموبيل، فدوت بضع رصاصات فوق رأسه، ثم لم يَعُدْ يسمع لا دوي الرصاص ولا دوي الأوتوموبيل، فالتفت إلى ورائه فإذا الأوتوموبيل الذي يطارده قد توقَّفَ عند المنحنى كأن عارضًا عرض له، فاطمأن قليلًا ولكنه ما لبث أن رأى الأوتوموبيل الآخَر يتبعه عن بُعْد، فجدَّ بملء سرعة أوتوموبيله، على أنه خاف أن يدركه مطارداه، ففكَّرَ أن يجد مهربًا، وإذا بفارس مُقْبِلٌ عليه فتوقَّفَ عنده واستوقفه وقال له: إني مضطر يا هذا بأن أستخدم حصانك نصف ساعة فقط، وأترك هذا الأوتوموبيل في عُهْدتك إلى أن أعود.
فأجابه الرجل: إني مستعجل في طريقي.
فقال: باسم جلالة الإمبراطور آمرك أن تطاوعني؛ لأني مأمور بالإسراع للقبض على جانٍ، فإذا لم ترعوِ قبضتُ عليك باعتبار أنك الجاني.
فهاب الفارس الأمر وترجَّلَ عن حصانه، فامتطاه الكبتن ولوى عنانه عن طريق الأوتوموبيلات إلى طريق ضيق مطروق، وبلغ مطارداه إلى تلك النقطة حتى أصبح بعيدًا عنهما، فلا أوتوموبيلهما يستطيع اللحاق به، ولا سوقهما تستطيع أن تطارد حصانًا. على أن الرجل الفارس أخبرهما أن الطريق الذي سار الشارد فيه يؤدي إلى قريةٍ صغيرة وراء الرابية تُدعَى «شتل».
فبقي أحدهما وهو فون درفلت في أوتوموبيل يراقب الطريق لئلا يعود الكبتن إليه، والآخَر وهو الكولونل فرسن الذي اصطحبه فون درفلت من أودنبرج ركب الأوتوموبيل الآخَر واصطحب معه صاحب الحصان إلى قريته، وهي قريبة حيث استعان به على استئجار حصان وقصد إلى قرية شتل، وبحث عنه هناك فقيل له أنهم رأوا فارسًا يجد المسير إلى مدينة أودنبرج.
فعاد إلى حيث كان ينتظره فون درفلت وركبا الأوتوموبيلين قاصدين إلى أودنبرج، ولما بلغا إليها وبحثا علِمَا أن الكبتن ركب قطار المساء إلى نيوستاد، فعادا بأوتوموبيل إلى نيوستاد بعد أن تلفن فون درفلت إلى أعوانه أن يستوقفوا الكبتن فيها حال وصول القطار.