الفصل الحادي والأربعون
منذ الساعة الثامنة شرع المدعوون إلى الحفلة يتوافدون إلى القصر الامبراطوري الفخم، والقصر كأنه شعلة نور، وقد اشتغل المزينون أسبوعًا كاملًا في تزيينه، فظهر في حلةٍ من الزينة والزخرف لم يسبق له مثلها منذ زواج الإمبراطور.
وكان حديث بعض الناس المتهامسين: تُرَى هل تظهر الإمبراطورة بالحلي النفيسة النادرة المثال؟ وإذا لم تظهر بها فماذا يكون من سجن بعض المدعوين من الحزب المشاغب؟
أما الإمبراطور فكان لا يزال في غرفته الخاصة بحجة أنه لا يزال يرتدي ثوبه اللائق، ولكنه كان كل دقيقة يسأل عن فون درفلت وليس مَن يأتيه بخبرٍ، وكان آخِر الأخبار عنه أنه وصل إلي نيوستاد ولم يعلم ماذا كان من أمره فيها.
فخامره قلق ثم دخل إلى حجرة الإمبراطورة، فإذا هي في ثوب الحفلة ولكنها بلا حلي، فلم يستطع ان يكتم غيظه فقال: ماذا تنتظرين يا إليصابات؟
– أنتظر أوامرك يا صاحب الجلالة.
– عندي أن تتحلى بحلاك الخاصة في الفصل الأول من الحفلة، وفي الفصل الثاني تظهرين بالحلي المنتظرة.
– ليكُنْ ما تريد يا مولاي، ولكن بماذا تستطيع أن تتلافى استهجان القوم وهم ينتظرون أن يروا منذ الآن الحلي نفسها التي رأوها في الملعب، ولا يهمهم أن يروا غيرها في الفصل الثاني؟
فتأفف الإمبراطور وقال: ولكنها متأخرة.
– ننتظر.
– وهؤلاء المشاغبون لا ينتظرون، أليس من نكد الدنيا أن يضطر المرء أن يكون في بيته مداريًا لعبيده؟
– إن صاحب الحق يا مولاي سيدًا كان أو عبدًا لا يضطر أن يداري أحدًا.
فبتر الإمبراطور الحديث وخرج إلى حجرته غاضبًا، فوجد وزيره ينتظر لدى بابها، فقال له: ما وراءك يا تسزا؟
– القوم يلغطون يا مولاي، وقد استبطئوا جلالتك وجلالة الإمبراطورة.
– عُدْ وأعلن قدومي بعد قليل.
– وجلالتها؟
– لن تتأخر كثيرًا عني.
ثم سأل الإمبراطور سكرتيره الأول فون هلر عن فون درفلت، فقال: إن آخِر أخباره يا مولاي يدل على أنه لم يبرح نيوستاد بعدُ؛ لأنه لم يتوفَّق التوفيق المنتظر.
فاشتد غضبه جدًّا وقال: ويلٌ للكائدين، ماذا تعني أنه لم يتوفق التوفيق المنتظر؟ قُلْ بالصراحة ماذا ورد من أخباره؟
– إن اللص المحتال وصل إلى نيوستاد بعد مطاردةٍ طويلة واختفى فيها، وآخِر الأخبار أنهم استدلوا على وجوده في دير الراهبات العازريات.
– عجبًا! وإلى الآن لم يقبضوا عليه؟
– لا يخرج بل يتهدد بالرصاص كل مَن يُقبِل عليه، ولا يَدَعُ الراهبات يخرجن من رحبة الدير مخافةَ أن ينسفوا الدير به، فكأنه يحفظ الراهبات رهائن!
– يا لله! لا بد أن تكون نيوستاد قائمة قاعدة الآن لأجل ذلك، ولطالما أوصيت فون درفلت الغبي أن يتجنَّبَ الشغب والضوضاء حول هذه المسألة.
– إن فون درفلت يا مولاي لحكيمٌ جدًّا، وهو يستخدم الحيلة في كل أعماله، ولولا تحاشيه الضوضاء والجلبة لما عجز عن القبض على ذلك الشقي.
– أين ولي العهد، ألم يأتِ بعدُ؟
– كلا يا مولاي، ولا ظهر في القصر إلى الآن، والبرنسس زوجته قلقة جدًّا.
– عجبًا! عجبًا!
عند ذلك أطل الوزير تسزا وقال: مولاي إن تأخُّر جلالتكم دقيقة أخرى غير محمود العقبى، إن بعض المشاغبين شرعوا يغلظون ويتقولون.
– ها أنا قادم، أعلن دخولي إلى البهو يا فون هتلر.
ثم مشى الإمبراطور إلى البهو وهو يجاهد في إخفاء اضطرابه، وتقدَّمَه الفون هتلر وصاح بملء صوته: جلالة الإمبراطور.
وساد السكوت في البهو لحظة، ولكنه سمع مَن يهمس قائلًا: «وجلالة الإمبراطورة!»
ثم دخل الإمبراطور وطاف بين الجمع والفون هتلر يقدِّم له بعضَ مَن يكون في سبيله، وما هي إلا لحظة حتى التقى بالفون فرغتن، فانحنى له هذا بكل إجلالٍ، فتعمل الإمبراطور الابتسام له قائلًا: عسى أن تكون مسرورًا يا فون فرغتن ببهاء هذه الحفلة.
– ليعش جلالة الإمبراطور، إن الحفلة لبهية باهرة، وإنما ينقصها بهاء تشريف جلالة الإمبراطورة.
– إن جلالتها تعبت من إتقان التبرج، فشاءت أن ترتاح قليلًا قبل أن تدخل إلى البهو لكي تسترد قوتها ونشاطها وبهجتها.
– لا بِدْعَ أن تتعب جلالتها من ثِقَل الحلي النفيسة التي ستقر بها عيون شعبها الليلة.
فلم يستطع الإمبراطور أن يتمالك غيظه، فتركه وأشغل نفسه بغيره، على أنه ما لبث أن صار يسمع من اللاغطين تهامسهم: «أين الإمبراطورة؟ الحلي لم تصل. الحلي مفقودة.» فلم يَعُدْ يستطيع صبرًا ولا كظمًا لغيظه، فخرج من البهو ودخل إلى غرفة الإمبراطورة، فرأى البارونة برجن واقفة بين يدي جلالة الإمبراطور، فاشتد تغيظه ولم يستطع السكوت فقال: هل وصلت الحلي؟
فقالت الإمبراطورة: تسألني يا مولاي؟
– بل اسأل وصيفتك البارونة برجن.
فاكفهرت البارونة قليلًا وقالت: كيف أدري يا مولاي؟
– كيف تدرين؟ هل تنكرين أنك احتلتِ حيلةً هائلةً حتى حصلت على الأمر بطلب الحلي؟
– عفو مولاي، لم أحْتَلْ قَطُّ.
فسخط بها قائلًا: عجبًا! أَمَا أخذت الأمر من رئيسة دير الراعي الصالح؟
– لا أنكر أني أخذته منها.
– ما شأنك حتى تأخذيه؟
– كنتُ يا مولاي بالصدفة زائرةً لها، فورد لها كتاب من جلالتكم، ولما لم تفهم المقصود منه عرضَتْه عليَّ لكي أفسره لها، فقلتُ لها إني أعود إلى جلالتكم به.
– حسنًا، ولكنك لم تأتِ به إليَّ.
– ذلك لأني فهمت أنه أمر لشخص آخَر، وقد أُرسِل خطأً إلى رئيسة الدير، ولكي لا يفوت الوقت أرسلته إلى مَن قصدتم جلالتكم أن يُرسَل إليه مع رسولٍ لا يقل طاعة وأمانة لجلالتكم عن الرسول الأول.
فقدح الشرر من عيني الإمبراطور وقال: أصبحتِ الإمبراطور الأول في البلاط تمضين وتقضين وتأمرين!
– كلا يا مولاي، بل أنا منفذة أمر جلالتكم.
وكاد الإمبراطور يرتجف من الحنق فقال: حسنًا، وأين رسولك الطائع الأمين الآن؟
– إن أهل المكايد والدسائس في البلاط راموا يا مولاي أن يشوهوا أمانته ويقاوموا طاعته، فجعلوا يطاردونه من مكانٍ إلى مكان، وهو لا يسلم الأمانة إلا بعد تسليم روحه، فما الذنب ذنبه ولا ذنبي يا مولاي، وإنما هو ذنب ذوي المكايد في هذا البلاط.
– صه. مه. لا أعرف كائدًا ودسَّاسًا في البلاط سواك.
– ربما كنتُ كما تقول جلالتكم.
– إذن تعترفين!
– إذا كان جلالة الإمبراطور يغمض جفنه عن الدسائس التي تُدَسُّ والمكايد التي تُكَاد ضد الإمبراطورة، فلا حيلة لوقاية جلالتها من هذه المكايد والدسائس إلا بمكائد ودسائس مثلها.
– صمتًا، لا أحد يجسر أن يكيد لجلالتها.
– إن الذين يطاردون الآن الرسول الأمين هم أنفسهم الذين كادوا لجلالتها تلك المكيدة الفظيعة التي سيقت بها جلالتها إلى دائرة البوليس كمجرمة، وهم أصحاب الحول والطول في البلاط الآن.
– ويحك ماذا تقولين!
– أقول يا مولاي إن المدعوة البارونة ليوتي التي تستأمن على أسرار جلالتكم هي نفسها الكونتيس ألما فورتن التي خدعت جلالتها وقادتها إلى المكان الدنس، وهي نفسها نينا فرون الممثلة وزميلة كاترين.
– صه. وما شأن نينا هذه بالبلاط؟
– هي يا مولاي صديقة الفون درفلت وشريكته في المكائد.
فتجهم الإمبراطور وانقلبت سحنته وقال: ويحك يا امرأة! غدًا تُستجوَبين عن كل هذه الأقوال، وغدًا أقيم ميزان الدينونة، وغدًا أعاقب كل ذي مكيدة شر عقاب.
– إن غدًا ليوم سعيد في تاريخ البلاط يا مولاي؛ إذ يتطهر البلاط فيه من أهل المكر والخديعة، وتستقل جلالة الملكة في عرشها. فأهلًا بالغد.
عند ذلك وافت إحدى الوصيفات تقول: إن الوزير تسزا يرجو الامتثال لدى جلالة الإمبراطور في الحال.
فاستقبله الإمبراطور في غرفته، فقال الوزير: إن الجمع ضج من غياب جلالتكم ومن تأخُّر جلالتها.
فسخط به الإمبراطور قائلًا: ويحك! هل انعقد لسانك؟ أليس لك منطق يُسكِت الجمع؟
– إن ظهور جلالتكم في البهو لأفصح من منطقي يا مولاي.
فذهب الإمبراطور إلى البهو ووقف في وسطه، فسكت الجمع في الحال، فقال الإمبراطور: إن جلالة الملكة تشعر بصداعٍ شديد وقد أصابها إغماء، وذلك نتيجة الجهد في الاستعداد لهذه الحفلة، وليس في وسعها أن تحضرها.
فسرى في القوم همس كأنه الريح في الغابة، فحواه «ذلك القول إفك وبهتان»، فأتم الإمبراطور كلامه بقوله: «الآن، وستبذل جهدها في أن تظهر في الحفلة ولو دقائق قليلة إن استطاعت.»
فسمع من ورائه مَن يقول: تستطيع إذا شاءت.
فلم يستطع الإمبراطور أن يكتم غيظه فاستمر يقول: وإذا لم تستطع، فتلتمس من شعبها المحبوب عذرًا وتَعِدُ أن تقيم حفلة أخرى.
عند ذلك وقعت عينه على فون درفلت مطلًّا من باب البهو الداخلي الذي وفد منه الإمبراطور أولًا، ورأى في وجهه إشراقًا، وفي عينيه غمزة، فاستتم خطابه قائلًا: على أني أثق أن جلالتها ستنتعش حالًا وتبتهج بمرأى شعبها المخلص.
فدوى المكان بالتصفيق الحاد، وعلى إثره خرج الإمبراطور من البهو توًّا إلى غرفته الخاصة، فرأى العلبة بين يدي فون درفلت وهو متهلل.