الفصل السادس
وفي هذه اللحظة لا يكون أحد غيره من الخدم موجودًا في الصرح؛ بل يُطلَق الخدم بعد أن يكونوا قد أعدُّوا كل ما هو لازم قبيل أن تطأ أقدام جلالته القصر.
في تلك الساعة كان فرنز جوزف مورد الوجنتين تحت فعل الكحل، ومزمهر العينين تحت فعل الغرام، وكاترينا تساقيه وتغازله وقد خف ثقل الجلالة فوق بخار الراح، ونزل عرش الصولة وارتفع عرش الصبابة، فألقت كاترين ذراعها العاجية حوق عنق فرانز، وقبَّلته قائلة: «دع العذول ده من فكرك.»
فقبَّل ثغرها وقال: «كدنا العذول ولا نلشي مرام».
فلثَّمته وقالت: الفؤاد مخلوق لحبك.
فلثَّمها وقال: والعيون على شان تراك.
فقالت: والنفوس تحيا بقربك.
فقال: والملوك تطلب رضاك.
ثم ضمَّها إلى صدره وقبَّلها في عنقها، فقالت: إن هذه القبلة في عنقي لأثمن عندي من العقد الموعود له.
فنظر فيها وابتسم قائلًا: تعنين أنك تستغنين عن العقد؟
– إني أستغني عن كل شيء ما دام فرنز إلى جانبي.
– إذن لا تأسفين إذا لم تحصلي على العقد؟
– بالطبع لا، وإنما آسف لأمر واحد.
– وهو؟
– أن الملك ليس أوفى من وعد.
– سآتيك بسواه.
– والعقد نفسه؟
– أخذته الإمبراطورة.
– مبارَكٌ عليها، فلها العقد ولي أنت، ولكن …
– أخذته هدية عيد ميلادها.
– ولكنك قلت لي أنك هيَّأت لها مادليونًا نفيسًا جدًّا ونقشت فيه عبارة الهدية.
– أجل ولقد أخذته بدل مادليون العقد.
ولم يخفَ على فرنز جوزف اضطراب مُقْلَتَيْ كاترينا شراط في محجريهما، فقال لها: لقد علمت أنها اكتشفت العقد في درج مكتبي الخاص، فلِكَيْ أدفع شبهتها نزعت مادليونه وعلقت فيه المادليون المعَدَّ لها، ولما جاءت بي إلى المكتب لتحجني وتريني برهانًا على علاقتي بك كُسِفت؛ إذ وجدت أن العقد مهيَّأ لها لا لك، وهكذا قطعت لسانها فالعقد لها وأنا لك.
– إني راضية بهذه القسمة.
– أَلَا تطلبين ترضيةً مقابل خلف الوعد بالعقد يا كاترين؟
– ترضية؟
– نعم، ترضية علاوة على العقد الذي وعدتك به الآن بدلًا من ذاك.
– لا أطلب من مليكي ترضية بل فضلًا، فإذا كان قد اضطر أن يخلف وعده في مسألة العقد، فلا يضطر أن يخلفه إذا وعد بتعيين الفون در فلت ثاني سكرتير البلاط.
– الفون در فلت؟
– نعم، فإن لهذا الفتى الغيور فضلًا عليَّ أود أن أكافئه عليه، وهو أصدق مَن يخدمني، ولا غنى لي عن فتيان مثله يقومون ببعض مهامي.
فارتبك الإمبراطور وقال: عجبًا! إن مطالبك ومطالب الإمبراطورة متصادمة دائمًا؛ فقد طلبت مني قبلك مثل هذا الطلب لشخصٍ آخَر.
– الأمر لك يا مولاي، بَيْدَ أني ألتمس أن أقول أنك وعدتني قبلها بالعقد وأخلفت وعدك لي؛ فليس عظيمًا أن تخلف وعدك لها بأمرٍ صغيرٍ كهذا.
– ليكن ما تريدي يا كاترين، فلا تستائي.
ثم تعانقا، وفي إبَّان عناقهما نُقِر الباب، فأجفل الإمبراطور وقال: هل يجسر الزنجي أن …
– إن في الأمر دسيسة، دَعْنِي أرى.
ثم نهضت وخرجت فتلقَّاها ألماس أغا الزنجي الخادم، وقال بالإفرنسية السقيمة لأنه لا يعرف غيرها إلا التركية: مولاتي، هو ذا رجل في باب الصرح يلح في مقابلتك الآن، بالرغم من تأكيدي له أن الأمر مستحيل.
– يا لله! من هو هذا الوقح، اطرده وإن دعت الحالة فاصفعه، لن أقابل أحدًا.
– لا قِبَل لي على طرده إلا إذا أذنت لي باستدعاء البوليس تلفونيًّا والاستعانة به على طرده.
– عجبًا ألم يقل اسمه؟
– لا.
– اذهب واحتَلْ عليه أن يخرج، فإن لم تستطع إخراجه فسَلْه ما اسمه.
فعاد الماس أغا وعادت كاترين تقص على الإمبراطور الحديث، وما هي إلا هنيهة حتى عاد الزنجي فاستقبلته كاترين خارجًا، فقال: إن الرجل يصر على مقابلتكِ وهاك بطاقته.
فتناولت كاترين البطاقة وقرأت: «البارون الدر فون كيس».
فامتقع لونها قليلًا وفكَّرت مليًّا، ثم دخلت وقالت للإمبراطور: زوجي الفون كيس يريد مقابلتي، يلوح لي أن هذا في حاجة إلى النقود، تبًّا له من خسيس يعيش بما يبتز من امرأة.
– المسألة بسيطة أعطيه واصرفيه.
فخرجت كاترين وقالت لألماس: أدخله إلى البهو، وها أنا ذاهبة إليه.