المخدرات والمباضع
•••
هذا بعض ما يقوله الناس عني وهم مصيبون، فأنا متطرف حتى الجنون، أميل إلى الهدم ميلي إلى البناء، وفي قلبي كره لما يقدسه الناس، وحب لما يأبونه، ولو كان بإمكاني استئصال عوائد البشر وعقائدهم وتقاليدهم لما ترددت دقيقة، أما قول بعضهم: إن كتاباتي «سم في دسم» فكلام يبين الحقيقة من وراء نقاب كثيف، فالحقيقة العارية هي أنني لا أمزج «السم» بالدسم؛ بل أسكبه صِرفًا … غير أنني أسكبه في كؤوس نظيفة شفافة.
أما الذين يعتذرون عني أمام نفوسهم قائلين «هو خيالي يسبح مرفرفًا بين الغيوم» فهم الذين يحدقون بلمعان تلك الكئوس الشفافة منصرفين عما في داخلها من الشراب الذي يدعونه «سُمًا» لأن معدهم الضعيفة لا تهضمه.
قد تدل هذه التَوْطِئَةَ على الوقاحة الخشنة، ولكن أليست الوقاحة بخشونتها أفضل من الخيانة بنعومتها؟ إن الوقاحة تُظْهِرُ نفسها بنفسها، أما الخيانة فترتدى بملابس فُصِلَتْ لغيرها.
يطلب الشرقيون من الكاتب أن يكون كالنحلة التي تطوف مرفرفةً في الحقول جامعة حلاوة الأزهار لتصنع أقراصًا من العسل.
إن الشرقيين يحبون العسل، ولا يستطيعون سواه مأكلًا، وقد أفرطوا بالتهامه حتى تحولت نفوسهم إلى عسل تسيل أمام النار، ولا تتجمد إلا إذا وُضِعَتْ على الثلج.
ويطلب الشرقيون من الشاعر أن يحرق نفسه بخورًا أمام سلاطينهم، وحكامهم، وبطاركتهم. وقد تلبد فضاء الشرق بغيوم البخور المتصاعدة من جوانب العروش، والمذابح، والمقابر، ولكنهم لا يكتفون؛ ففي أيامنا هذه مداحون يضارعون المتنبي، وراثون يضاهون الخنساء، ومهنئون أكثر طلاوةً من صفي الدين الحِلِّي.
ويطلب الشرقيون من العالم أن يبحث في تاريخ آبائهم، وجدودهم، متعمقًا بدرس آثارهم وعوائدهم، وتقاليدهم صارفًا أيامه، ولياليه بين مطولات لغاتهم، واشتقاقات ألفاظهم، ومباني معانيهم وبديعهم.
ويطلب الشرقيون من المفكر أن يعيد على مسامعهم ما قاله بَيْدَبَا، وابن رشد، وإفرام السرياني، ويوحنا الدمشقي، وأن لا يتعدى بكتاباته حدود الوعظ البليد، والإرشاد السقيم، وما يجيء بينهما من الحكم والآيات التي إذا ما تمشى عليها الفرد كانت حياته كالأعشاب الضئيلة التي تنبت في الظل، ونفسه كالماء الفاتر الممزوج بقليل من الأفيون.
وبالاختصار فالشرقيون يعيشون في مسارح الماضي الغابر، ويميلون إلى الأمور السلبية المسلية الفَكِهة، ويكرهون المبادئ، والتعاليم الإيجابية المجردة التي تلسعهم، وتنبههم من رُقادهم العميق المغمور بالأحلام الهادئة.
•••
إنما الشرق مريض قد تناوبته العلل، وتداولته الأوبئة حتى تعوَّدَ السَّقم، وَأَلِفَ الألم، وأصبح ينظر إلى أوصابه، وأوجاعه كصفات طبيعية؛ بل كخلال حسنة ترافق الأرواح النبيلة، والأجساد الصحيحة، فمن كان خاليًا منها عُدَّ ناقصًا محرومًا من المواهب، والكمالات العلوية.
وأطباء الشرق كثيرون يلازمون مضجعه، ويتآمرون في شأنه؛ ولكنهم لا يداوُّنه بغير المخدرات الوقتية التي تُطيل زمن العلة ولا تُبْرِئَهَا.
أما تلك المخدرات المعنوية، فكثيرة الأنواع متعددة الأشكال متباينة الألوان، وقد تولد بعضها عن بعض مثلما تناسخت الأمراض والعاهات عن بعضها بعضًا، وكلما ظهر في الشرق مرض جديد يكتشف له أطباء الشرق مخدرًا جديدًا.
وأما الأسباب التي آلت إلى وجود المخدرات، فعديدة أهمها: استسلام العليل إلى فلسفة القضاء والقدر المشهورة، وجبانة الأطباء، وخوفهم من تهييج الألم الذي تحدثه الأدوية الناجعة.
وإليك أمثلة من تلك المخدرات، والمسكنات التي يتخذها الأطباء الشرقيون؛ لمعالجة الأمراض العائلية، والوطنية، والدينية.
ينفر الرجل من زوجته، والمرأة من بعلها؛ لأسباب وضعية حيوية، فيتخاصمان، ويتضاربان ويتباعدان، ولكن لا يمر يوم وليلة حتى يجتمع أهل الرجل بأهل زوجته، فيتبادلوا الآراء المزخرفة والأفكار المرصعة، ثم يتفقوا على إيجاد السلام بين الزوجين، فيأتون بالمرأة ويستهوُّن عواطفها بالمواعظ الملفقة التي تخجلها ولا تقنعها، ثم يستدعوا الرجل يغمروا رأسه بالأقوال، والأمثال المزركشة التي تلين بأفكاره ولا تغيرها، وهكذا يتم الصلح — الصلح الوقتي — بين الزوجين المتنافرين بالروح فيعودا قهرًا عن إرادتهما إلى السكنى تحت سقف واحد حتى «يبوخ» الطلاء ويزول تاثير المخدر الذي استخدمه الأهل، والأنسباء؛ فيعود الرجل إلى إظهار نفوره، ومقته، والمرأة إلى إزالة النقاب عن تعاستها. غير إن الذين أوجدوا الصلح في المرأة الأولى يوجدونه ثانية ومن يرتشف جرعة من المخدرات لا يأبى شرب كأس دِهَاقْ.
يتمرد قوم على حكومة جائرة، أو على نظام قديم، فيؤلفون «جمعية إصلاحية» ترمي إلى النهوض والانعتاق، فيخطبون بشجاعة، ويكتبون بحماسة وينشرون «اللوائح والبرامج» ويبعثون «الوفود والممثلين» ولكن لا يمر شهر، أو شهران حتى نسمع بأن الحكومة قد سجنت رئيس الجمعية، أو عَهِدَتْ إليه بوظيفة، أما الجمعية «الإصلاحية» فلا نعود نسمع عنها شيئًا لأن أفرادها قد تجرعوا قليلًا من المخدرات المعهودة، وعادوا إلى السكينة والاستسلام.
تتمرد طائفة على رئيس دينها، لأمور أولية، فتنتقد شخصه، وتنكر أعماله، وتتبرم من مآتيه، ثم تهدده باعتناقها مذهبًا آخر أقرب إلى العقل، وأبعد عن الأوهام والخرافات، ولكن لا يمر رِدْحٌ من الزمن حتى نسمع بأن عقلاء البلاد قد أزالوا الخلاف بين الراعي ورعيته، وأرجعوا بفضل المخدرات السحرية الهيبة إلى شخص الرئيس، والطاعة العمياء إلى نفوس المرؤسين العقوقين.
يتظلم مغلوب ضعيف من ظالم قوي، فيقول له جاره: «اسكت فالعين التي تعاند السهم تُفْقَأُ».
يشك القروي بتقى الرهبان وإخلاصهم، فيقول له زميله: «اصمت فقد جاء في الكتاب اسمعوا أقوالهم ولا تفعلوا أفعالهم».
يُعْرِضُ التلميذ عن استظهار مباحث البصريين، والكوفيين اللغوية، فيقول له أستاذه إن الكسالى والمتوانين يختلقون لنفوسهم أعذارًا أقبح من الذنوب».
تمتنع الصبية عن اتباع عوائد العجائز، فتقول لها والدتها «ليست الابنة أفضل من أمها، فالطريق التي سلكتها تسلكينها أنت أيضًا».
يسأل الشباب مستفسرًا معاني الزوائد الدينية، فيقول له الكاهن «من لا ينظر بعين الإيمان، لا يرى في هذا العالم سوى الضباب والدُخَانِ».
وهكذا تمر الأيام إثر الليالي، والشرقي مضطجعٌ على فراشه الناعم، يستيقظ دقيقة عندما تلسعه البراغيث، ثم يعود ويهجع جيلًا بحكم المخدرات التي تمازج دمه وتسير في عروقه، فإذا ما قام رجل، وصرخ بالنائمين، وملأ منازلهم ومعابدهم ومحاكمهم بالضجيج، يفتحون أجفانهم المُطْبَقَةَ بالنعاس الأبدي، ثم يقولون متثائبين: «ما أخشنه فتىً لا ينام، ولا يدع الناس أن يناموا» ثم يغمضون عيونهم، ويهمسون في آذان أرواحهم «هو كافر ملحد يفسد أخلاق الناشئة، ويهدم مباني الأجيال، ويرشق الإنسانية بالسهام السامة».
قد سألت نفسي مرات إذا كنت من المستيقظين المتمردين الذين يأبون شرب المخدرات، والمسكنات، فكانت نفسي تجيبني بكلمات مبهمة ملتبسة، ولكنني لما سمعت الناس يجدفون على اسمي، ويتأففون من مبادئي، أيقنت بحقيقة يقظتي، وعلمتُ أنني لست من المستسلمين إلى الأحلام اللذيذة، والخيالات المستحبة، بل من أولئك المستوحدين الذين تُسيرهم الحياة على سبل ضيقة مغروسة بالأشواك، والأزهار محفوفة بالذئاب الخاطفة، والبلابل المترنمة.
ولو كانت اليقظة فضيلة لمنعني الاحتشام عن ادعائها، ولكنها ليست بفضيلة، بل حقيقة غريبة تظهر على حين غفلة للأفراد المستوحدين، وتُسير أمامها، فيتبعونها قسر إرادتهم، مجذوبين بأسلاكها الخفية محدقين بمعانيها المهيبة.
وعندي أن الاحتشام في إظهار الحقائق الشخصية؛ هو نوع من الرياء الأبيض المعروف عند الشرقيين باسم التهذيب.
•••
غدًا يقرأ «الأدباء المفكرون» ما تقدم، فيقولون متضجرين «هو متطرف ينظر إلى الحياة من الوجهة المظلمة، فلا يرى غير الظلام، وقد طالما وقف فينا نادبًا، نائحًا، باكيًا، علينا، متأوهًا لحالنا».
فلهؤلاء الأدباء المفكرين أقول — أنا أندب الشرق؛ لأن الرقص أمام نعش الميت جنون مُطْبِق.
أنا أبكي على الشرقيين؛ لأن الضحك على الأمراض جهل مركب.
أنا أنوح على تلك البلاد المحبوبة؛ لأن الغناء أمام المصيبة العمياء غباوة عمياء.
أنا متطرف؛ لأن من يعتدل بإظهار الحق يبين نصف الحق، ويبقى نصفه الآخر محجوبًا وراء خوفه ظنون الناس وتقولاتهم.
أنا أرى الجيفة المنتنة، فتشمئز نفسي، وتضطرب أحشائي، ولا أستطيع أن أجلس قبالتها وفي يميني كأس من الشراب، وفي شمالي قطعة من الحلوى.
فإن كان هناك من يريد أن يبدل نَوْحِيَ بالضحك، ويحول اشمئزازي إلى الانعطاف، وتطرفي إلى الاعتدال، فعليه أن يُريني بين الشرقيين حاكمًا، عادلًا، ومتشرعًا، مستقيمًا، ورئيس دين يعمل بما يعلم، وزوجًا ينظر إلى امرأته بالعين التي يرى بها نفسه.
إن كان هناك من يريد أن يشاهدني راقصًا، ويسمعني متطبلًا، ومزمرًا فعليه أن يدعوني إلى بيت العريس لا أن يوقفني بين المقابر.