الجبابرة
ليس من يكتب بالحبر، كمن يكتب بدم القلب، وليس السكوت الذي يحدثه الملل، كالسكوت الذي يوجده الألم.
أما أنا فقد سكت، لأن آذان العالم قد انصرفتْ عن همس الضعفاء، وأنينهم إلى عويل الهاوية وضجتها، ومن الحكمة أن يسكت الضعيف عندما تتكلم القوى الكامنة في ضمير الوجود تلك القوى التي لا ترضى بغير المدافع ألسنة، ولا تقنع بسوى القنابل ألفاظًا.
نحن الآن في زمن أصغر صغائره أكبر من كبائر ما تقدمه، فالأمور التي كانت تشغل أفكارنا، وأميالنا قد انزوت في الظل، والمسائل، والمشاكل التي كانت تتلاعب بآرائنا، ومبادئنا قد توارت وراء نقاب من الإهمال، أما الأحلام المستحبة، والأشباح الجميلة التي كانت تَمِيْسُ متنقلةً على مسارح وجداننا، فقد تبددت كالضباب، وحلَّ محلها جبابرة تسير كالعواصف، وتتمايل كالبحار وتتنفس كالبراكين.
وما عسى أن يصير إليه العالم بعد أن تنتهي الجبابرة من صراعها؟
هل يعود القروي إلى حقله فيلقي البذور حيث زرع الموت جماجم القتلى؟
هل يقود الراعي مواشيه إلى مروج مزقت أديمها السيوف، ويوردها مناهل يمتزج ماؤها بنجيع الدماء؟
هل يركع العابد في هيكل رقصت فيه الشياطين، ويردد الشاعر قصائده أمام كواكب حُجِبَتْ بالدخان، وينغم المنشد أغانيه في ليل عانقت سكينته الأهوال؟
هل تجلس الأم بجانب سرير رضيعها مرتلةً بالهدوء أغاني النوم، وهي لا ترتجف وَجَلًا مما سيجلبه الغد؟
هل يلتقي الحبيب بحبيبته ويتبادلان القبل حيث التقى العدو بعدوه وتبادلا القذائف؟
وهل يعود نيسان إلى الأرض، ويستر بقميصه أعضائها المكلومة؟
ليت شعري! هل يعود نيسان إلى الحقول؟
•••
وماذا عسى تصير إليه بلادكم وبلادي؟ وأي من الجبابرة يضع يده على تلك التلال والهضبات التي أنبتتنا، وصيرتنا رجالًا، ونساء أمام وجه الشمس؟
هل تبقى سورية مطروحةً بين مغائر الذئاب، وحظائر الخنازير، أو يا ترى تنتقل مع العاصفة إلى عرين الأسد، أو ذروات النسر؟
وهل يطلع الفجر فوق قمم لبنان؟
كلما خلوت بنفسي أطرح عليها هذه السؤالات، غير أن النفس كالقضاء تبصر، ولا تتكلم وتسير، ولكنها لا تلتفت، فهي ذات عيون تتجلى، وأقدام تتسارع، أما لسانها فثقيل.
ومن منكم أيها الناس، لم يسأل نفسه في كل يوم وليلة عن مصير الأرض، وسكانها بعد أن تختمر الجبابرة من دموع الأرامل والأيتام؟
أنا من القائلين بسنة النشوء والارتقاء، وفي عرفي أن هذه السنة تتناول بمفاعيلها الكيانات المعنوية بتناولها الكائنات المحسوسة، فتنتقل بالأديان، والحكومات من الحسن إلى الأحسن، انتقالها بالمخلوقات كافة من المناسب إلى الأنسب، فلا رجوع إلى الوراء إلا في الظاهر، ولا انحطاط إلا في السطحي.
ولسنة الارتقاء سبل متشعبة يتفرع بعضها من بعض، ولكنها متلازمة الأصول، ومظاهر قاسية ظالمة مظلمة تنكرها الأفكار المحدودة، وتتمرد عليها القلوب الضعيفة، أما خفاياها فعادلة منيرة متمسكة بحق أسمى من حقوق الأفراد، مُحْدِقَةً بغرض أعلى من مرام الجماعة، مُصغيةً إلى صوت يغمر بهوله، وعذوبته تنهدات المنكوبين، وغصَّات المتوجعين.
حولي بكل مكان أقزام يرون عن بعد أشباح الجبابرة متناضلين، ويسمعون في المنام صدى تهاليلهم، فيضجعون كالضفادع قائلين: قد رجع العالم في فطرية الوضيعه، فما بنتهُ الأجيال بالعلم والفن قد هدمه الإنسان الوحشي بالطمع والأنانية، فحالنا اليوم حال سكان الكهوف، ولا يميزنا عنهم سوى آلات نبتدعها للدمار، وحين نستخدمها للهلاك؟
هذا ما يقوله هؤلاء الذين يقيسون ضمير العالم بمقياس ضمائرهم، ويحللون مراد الوجود بالفكرة القصيرة التي يستخدمونها؛ لحفظ وجودهم الفردي، فكأن الشمس لم تكن إلا لتدفئتهم، وكأن البحر لم يوجد إلا لغسل أرجلهم.
•••
من أحشاء الحياة، من وراء المرئيات، من أعماق السكون المدبر حيث تصان أسرار الكون المدبر، قد انبثق الجبابرة كالريح، وتصاعدوا كالغيوم، ثم تلاقوا كالجبال، وهم الآن يتصارعون ليحلوا مشكلة في الأرض لا يحلها غير الصراع.
أما البشر وكل ما في رؤوسهم من المدارك، والمعارف، وما في قلوبهم من المحبة والبغضاء، وما يعانق نفوسهم من الصبر، والجزع، والأوجاع، فآلات يتناولها الجبابرة، ويديرونها توصلًا إلى غاية عُلوية لابد من بلوغها.
أما الدماء التي أُهْرِقَت فسوف تجري أنهارًا كوثرية، وأما الدموع التي نُثِرَت، فستنبت أزهارًا زكية، وأما الأرواح التي فاضت فسوف تجتمع، وتأتلف، وتتطلع من وراء الأفق الجديد صباحًا جديدًا، فيعلم الناس بأنهم قد ابتاعوا الحق في سوق البؤس، وأن من ينفق في سبيل الحق لم يخسر.