الأمم وذواتها
الأمة: مجموع أفراد متبايني الأخلاق، والمشارب، والآراء تضمهم رابطة معنوية أقوى من الأخلاق، وأعمق من المشارب، وأعم من الآراء.
وقد تكون الوحدة الدينية بعض خيوط هذه الرابطة، غير أن الخلاف في العقيدة لا يحل الروابط الأممية، إلا إذا كانت ضعيفة واهية كما هي معنوية أقوى من الأخلاق في البلاد الشرقية.
وقد تكون وحدة اللغة سببًا أساسيًا لإيجاد هذه الرابطة، ولكن هناك شعوب كثيرة تتكلم لغةً واحدة مع أنها في خلاف مستمر من حيث السياسة، والإدارة، والنظريات الاجتماعية.
وقد تكون الوحدة الدموية أساسًا لهذه الرابطة، ولكن في التاريخ أمثلة عديدة نستدل منها على أن أفخاذ عنصر واحد انشقت بعضها على بعض، وكان ذلك الانشقاق مجلبةً للتطاحن والتباغض ثم الاضمحلال.
وقد تكون المصلحة المادية نَوْلًا تُحَاكُ عليه تلك الرابطة، ولكن شعوب عديدة لم تُحِك مصلحتهم المادية سوى المنافسة والمناقشة.
إذن ما هي تلك الرابطة الاجتماعية؟ وما هي التربة التي تنبت فيها أنصاب الأمم؟
لي رأي في الرابطة الأممية قد يحسبه بعض المفكرين غريبًا، لأن أصوله ونتائجه ليست من الأمور المحسوسة.
أما رأيي فهو هذا:
لكل شعب ذاتٌ عامة تشابه بجوهرها، وطبيعتها ذات الفرد، ومع أن هذه الذات العامة تستمد كيانها من أفراد الشعب، كما تستمد الشجرة حياتها من الماء، والتراب، والنور، والحرارة فهي مستقلة عن الشعب، ولها حياة خاصة وإرادة منفردة، وكما يصعب عليَّ تحديد وتعيين الزمن الذي تتولد فيه ذات الفرد الواحد، هكذا يصعب علىَّ تعيين وتحديد الزمن الذي تتولد فيه الذات العامة، غير أنني أشعر أن الذات المصرية — مثلًا — قد تبلورت قبل ظهور الدولة الأولى على ضفاف النيل بزمن لا يقل عن خمسمائة سنة، ومن تلك الذات العامة قد استمدت مصر مظاهرها الفنية، والدينية، والاجتماعية، وما أقوله عن مصر يصح في آشور، وفارس، واليونان، ورومة والعرب، وغيرها من الأمم الحديثةن أعني تلك التي ظهرت بعد انقضاء الأجيال المتوسطة.
قلت: إن للذات العامة حياة خاصة، نعم، ولما كان لكل حي عمرٌ محدود كان لتلك الذات العامة أجل محدود لا تتجاوزه، ومثلما يسير الكيان الفردي من الطفولة، إلى الشبيبة، إلى الكهولة، إلى الشيخوخة هكذا يتدرج كيان الذات العامة من يقظة الفجر الموحشة بنقاب النوم، إلى يقظة الظهر المتجلية بنور الشمس، إلى يقظة الليل المغمورة بالنُّعاس، إلى سُبَاتٍ عميق.
إن الذات اليونانية قد استيقظت في القرن العاشر قبل المسيح، ومشت بعزمٍ وجلالٍ في القرن الخامس قبل المسيح، ولما بلغت عهد الناصري كانت قد ملَّت أحلام اليقظة، فنامت على مضجع الأبدية، لتعانق أحلام الأبدية.
أما الذات العربية: فقد تجوهرت، وشعرت بكيانها الشخصي في القرن الثالث قبل الإسلام، ولم تتمخض بالنبي محمد حتى انتصبت كالجبار، وثارت كالعاصفة متغلبة على كل ما يقف في سبيلها، ولما بلغت العباسيين تربعتْ على عرش منتصب فوق قواعد لاعداد لها: أولها في الهند، وآخرها في الأندلس، ولما بلغت عَصَارِىَّ نهارها، وكانت الذات المغولية قد أخذت تنمو وتمتد من الشرق إلى الغرب، كرهتْ الذات العربية يقظتها فنامت، ولكن نومًا خفيفًا متقطعًا، وقد تعود وَتُفِيْقُ ثانيةً، لتبين ما بقي خفيًا في نفسها، كما عادت الذات الرومانية في زمن النهضة الإيطالية المعروفة بالرنسانس، وأكملت في البندقية، وفلورنسا، وميلان ما ابتدأت به قبل أن تُبَاغِتَهَا الشعوب التوتونية في بدء الأجيال المظلمة.
وأغرب الذوات العامة في التاريخ، هي الذات الفرنساوية، فها قد عاشت ألفي سنة أمام وجه الشمس، ولم تزل في شبيبة النضرة، وهي اليوم أدق فكرًا، وَأَحَدُّ نظرًا وأوسع فنًا وعلمًا مما كانت في أي زمن من تاريخها المجيد.
فرودان، وكارير، وشيتان، وهوغو، ورينان، وساسه، وسيمون، وجميعهم من أبناء القرن التاسع عشر كانوا أعظم رجال العالم فنًا، وأكثرهم علمًا، وأبعدهم خيالًا، الأمر الذي يدلنا على أن لبعض الذوات العامة أعمارًا أطول من الأخرى، فالذات المصرية عاشت ثلاثة آلاف سنة، أما الذات اليونانية فلم تعش أكثر من ألف سنة، وقد تكون الأسباب في طول آجال الذوات العامة أو قصرها شبيهة بأسباب قصر أعمار الأفراد أو طولها.
وماذا يا تُرى يحل بالذات العامة بعد ن تلعب دورها على مسرح الوجود؟
هل تموت وتفنى بدورها غير تاركة ورائها سوى الذكرى لمن يجيء بعدها؟ هل تضمحل أمام الأيام، والليالي كأنها لم تكن مظهرًا لليالي والأيام؟
في عقيدتي أن الكيان المعنوي يتغير، ولكنه لا ولن يضمحل، فهو كالكيان المادي يتحول من شكل إلى شكل، ومن صورة إلى صورة، أما دقائقه وذراته الوضعية فباقية ببقاء الزمن، فذات الأمة العامة تنام، ولكن نوم الأزاهر بعد أن تلقي بذورها في تربة الأرض، أما عطرها فيتصاعد إلى عالم الخلود، وعندي أن العطر في الأمة، أو في الزهرة، هو الحقيقة المجردة، هو الجوهر المطلق، فعطر ثيب، وبابل، ونينوى، وأثينا، وبغداد موجود الآن في الغلاف الأَثِيْرِي المحيط بالأرض، بل هو موجود في أعماق أرواحنا، ونحن — أفرادًا وجماعات — ورثة كل الذوات العامة التي وجدت على سطح الأرض.
غير أن ذاك الإرث العلوي لا يتخذ له صورًا محسوسة في الفرد، أو الجماعات حتى تتبلور الأمة التي ينتسب الأفراد، والجماعات إليها، وتصير ذاتًا لها حياة خاصة، وإرادة منفردة.