الصلبان
(يُرْفع الستار عن قاعة حسنة في منزل يوسف مسرة مفعمة بالكتب، والأوراق،
خليل بك تامر يدخن بالنارجيلة، الآنسة هيلانة تطرز، يوسف مسرة يدخن لفافة).
خليل بك
(مخاطبًا يوسف مسرة)
:
قد قرأت اليوم مقالتك في الفنون الجميلة وتأثيرها على الأخلاق، وقد أعجبتني
كثيرًا، ولولا صبغتها الإفرنجية لكانت خير ما كتب في الموضوع، أنا يا مسرة أفندي من
الذين يرون أن تأثير الآداب الغربية على لغتنا من الأمور المضرة.
يوسف مسرة
(مبتسمًا)
:
قد يكون الحق معك يا صديقي، ولكن بارتدائك الملابس الإفرنجية، وبتناولك الطعام
بآنية إفرنجية، وبجلوسك على مقاعد إفرنجية، عارضت ذاتك بذاتك. وفوق كل ذلك أنت أكثر
ميلًا إلى مطالعة الكتب الإفرنجية منك إلى مطالعة الكتب العربية.
خليل بك
:
ليس لهذه الأمور السطحية من علاقة بالآداب والفنون.
يوسف مسرة
:
نعم هناك علاقة حيوية وضعية، وإذا تعمقت قليلًا في الموضوع تجد أن الفنون تلازم
العادات، والأزياء، والتقاليد الدينية، والاجتماعية، بل تلازم كل مظهر من مظاهر
حياتنا الاجتماعية.
خليل بك
:
أنا شرقي وسأبقى شرقيًا إلى آخر حياتي، وقهرًا عن بعض مظاهري الأوربية، فأنا أرجو
أن تبقى الآداب العربية طاهرةً، ونقية من جميع التأثيرات الأجنبية.
يوسف مسرة
:
إذًا أنت ترجو موت اللغة، والآداب العربية؟
خليل بك
:
وكيف ذلك؟
يوسف مسرة
:
إن الأمم المسنة، التي لا تكتسب مما تثمره الأمم الحديثة، تموت أدبيًا وتنقرض
معنويًا.
خليل بك
:
إن كلامك هذا يحتاج إلى برهان.
يوسف مسرة
:
لدي ألف برهان وبرهان.
(في هذه الدقيقة يدخل بولس الصلبان، وسليم معوض، فيقف الحاضرون لهما احترامًا).
يوسف مسرة
:
أهلًا وسهلًا بالإخوان (مخاطبًا الصلبان)
أهلًا وسهلًا ببلبل سوريا.
(الآنسة هيلانة تنظر إلى الصلبان، وقد توردت وجنتاها قليلًا، وظهرت على محياها أمارات
السرور).
سليم معوض
:
بالله عليك يا يوسف أن لا تقول كلمة حسنة لبولس.
يوسف مسرة
:
ولماذا؟
سليم معوض
(بين الجد والمزاح)
:
لأنه لا يستحق التكريم ولا المديح ولا الإطراء؛ لأنه ذو أطوار وأخلاق غريبة؛ لأنه
مجنون.
بولس الصلبان
(مخاطبًا معوض)
:
هل أحضرتك برفقتي إلى هذا المنزل لتبين عيوبي وتشرح أخلاقي؟
الآنسة هيلانة
:
ماذا جرى يا ترى؟ هل كشفت يا سليم أفندي عيوبًا جديدة في أخلاق بولس؟
سليم معوض
:
إن عيوبه القديمة ستبقى جديدة حتى يموت، ويدفن، وتتحول عظامه إلى تراب.
يوسف مسرة
:
أخبرنا، ماذا جرى؟ أخبرونا بالحكاية من أولها إلى آخرها.
سليم معوض
(مخاطبًا الصلبان)
:
هل تسمح لي أن أتكلم عن جرائمك يا بولس، أم تريد أن تعترف أنت بها؟
بولس الصلبان
:
أريد أن تبقى صامتًا كالمقبرة، هاجعًا كقلب العجوز.
سليم معوض
:
إذًا فسوف أتكلم.
الصلبان
:
يظهر لي أنك تريد أن تنغص عيشي في هذه السهرة.
سليم معوض
:
لا بل أريد أن أعرض قصتك أمام هؤلاء الأصحاب، لينظروا في أمرك.
الآنسة هيلانة
(مخاطبة معوض)
:
تكلم وأسمعنا ما جرى (للصلبان) قد تكون
الجريمة التي يريد سليم أن يظهرها إحدى فضائلك.
الصلبان
:
لم أقترف جريمة، كما أنني لم أفعل فضيلة، أما المسألة التي يشوق صاحبنا إلى
إظهارها، فهي لا تستحق الذكر، وفوق كل ذلك، فأنا لا أريدكم أن تصرفوا السهرة
بحديثي.
الآنسة هيلانة
:
حسنًا إذًا فلنسمع الخبر
سليم معوض
(يشعل لفافة، ويجلس بقرب يوسف مسرة)
:
قد سمعتم طبعًا يا سادتي بزواج ابن جلال باشا، وقد عرفتم أن والد العريس قد أقام
ليلة أمس حفلة طرب دعا إليها وجهاء المدينة وكبارها (مشيرًا إلى بولس) وقد دعا هذا الشرير، ودعيت أنا أيضًا؛ والسبب في
ذلك أن الناس يحسبونني ظلًا لبولس أسير حيث يسير، وأقوم حيث يقوم، ولأنه أدامه الله
وأبقاه، لا يحب الإنشاد إلا على نقرات عودي. بلغنا منزل جلال باشا متأخرين، وبولسنا
كالملوك لا يجيء إلا متأخرًا فوجدنا هناك الوالي، والمطران، بل وجدنا هناك الحسناء
الفاضلة، والأديب، والشاعر، والمثري والزعيم، جلسنا بين مجامر البخور، وكئوس الخمر،
والقوم ينظرون إلى بولس كأنه ملاك هبط من السماء، أما السيدات فأخذن يقدمن إليه
كؤوس الخمر، وصحف النقل، وطاقات الأزهار مثلما كانت تفعل نساء أثينا عند رجوع أحد
الأبطال من ساحات الحرب — خلاصة الكلام — أن بولسنا كان في بدء السهرة موضوعًا
للتكريم والاحتفاء، أخذت عودي، وضربت أولًا، وثانيًا، وثالثًا ففتح بولس شفتيه
المقدستين، وأنشد بيتًا … بيتًا واحدًا من قصيدة ابن الفارض:
غيري على السلوانِ قادر
وسواي في العُشاقِ غادر
فأصغى القوم، وتطاولت أعناقهم كأن الموصلي قد جاء من وراء حجب الأبدية؛ ليهمس في آذانهم
أنغامًا سحرية علوية، وبعد ذلك سكت بولس؛ فظن الحاضرون أنه سيعود إلى الإنشاد بعد أن
يشرب
كأسًا أخرى من العرق، ولكن بولس ظل ساكتًا.
بولس الصلبان
(بلهجة جدية)
:
أرجوك أن تقف عند هذا الحد، فأنا لا أقدر أن أسمع هذا الحديث البليد، وأنا لا أشك
بأن أصحابنا لا يجدون لذةً بهذه الثرثرة الخالية من المعنى.
يوسف مسرة
:
بحقك دعنا أن نسمع البقية.
بولس الصلبان
(ينهض من مكانه قائمًا)
:
الظاهر أنكم تفضلون هذا الحديث البارد على وجودي بينكم — أودعكم
الآنسة هيلانة
(تنظر إلى بولس نظرة معنوية)
:
اجلس يا بولس، ومهما كان الخبر فنحن معك.
(يجلس بولس وعلى وجهه دلائل الصبر والتجلد).
سليم معوض
(متابعًا حديثه)
:
قلت إن بولس المعطر المعظم قد أنشد بيتًا، بيتًا واحدًا من قصيدة الفارض وسكت،
أعني أنه أذاق أولئك الجياع المساكين لقمةً واحدة من طعام الآلهة، ثم رفس المائدة،
وكسر آنيتها وكؤوسها، ثم جلس ساكتًا جلوس أبي الهول على رمال النيل.
وقامت السيدات الواحدة بعد الأخرى يستعطفنه بأرق الكلام؛ لينشد أغنية أخرى، فكان يعتذر
لهن بقوله: «أنا مرشح … أشعر بألم في حنجرتي» ثم قام الوجهاء، والأغنياء يرجونه ويتذللون
أمامه، فلم يحن ولم يلن، بل بقي جامدًا، قاسيًا، متمعنًا كأن الله قد أبدل قلبه بحجر
من
الصوان، وحوَّل الأنغام في نفسه إلى الغنج والدلال، وبعد نصف الليل وقد بلغ القنوط من
الحاضرين حد الألم ناداه جلال باشا إلى غرفة محاذية، ووضع في جيبه قبضةً من الدنانير
قائلًا: «أنت تستطيع يا بولس أفندي أن تختم حفلتنا بالسرور أو بالأكدار، لذلك أرجوك أن
تقبل
مني هذه الهدية الصغيرة لا كمكافأة، بل كمظهر لشعوري نحوك فلا تخيب آمالي، وأمال الحاضرين
بك».
عند ذلك تعالت قامة بولس، وظهرت لوائح الكبرياء على وجهه، ورمى بالدنانير إلى مقعد
بجانبه
قائلًا بلهجة الملوك الفاتحين: «أنت تهينني يا جلال باشا بل أنت تحتقرني، فأنا لم أجئ
إلى
منزلك لكي أنشد، وأغني، وأبيع أنفاسي بالمال، بل جئت كأحد المهنئين».
بعد هذا فقد جلال باشا صبره وتجلده، وتلفظ ببعض كلمات خشنة جعلت بولس الحساس أن يخرج
من
المنزل لاعنًا مجدفًا، أما أنا، أنا المسكين، فقد تناولت عودي، وتبعت بولس تاركًا ورائي
الوجوه الجميلة، والقامات النحيلة، والخمور الطيبة، والمآكل الشهية، نعم قد ضحيت بكل
ذلك؛
لكي لا أفقد صداقة هذا المتصلب المتعنت، قد ضحيت بكل ذلك على مذبح هذا البعليم، وهو للآن
لم
يشكرني، ولم يمدح بسالتي، ولم يعترف بمودتي وولائي.
يوسف مسرة
(ضاحكًا)
:
هذه بالحقيقة حكاية لذيذة حرية أن تكتب بالإبر على آماق البصر.
سليم معوض
:
لم أصل للآن إلى نهاية الحكاية … أما اللذة ففي النهاية، تلك النهاية الشيطانية
التي لا يحلم بمثلها أهريمان الفرس ولا سيفا الهنود.
الصلبان
(مخاطبًا الآنسة هيلانة)
:
بقيت هنا إكرامًا لك، والآن أرجوك أن تطلبي من هذا الضفدع أن يقف عند هذا
الحد.
هيلانة
:
دعه يتكلم يا بولس، أو مهما كانت نهاية الخبر، فنحن معك قلبًا وقالبًا.
سليم معوض
(يشعل لفافة ثانية ويتابع الحديث)
:
قلت إننا خرجنا من منزل جلال باشا وبولس يجدف على اسم الأغنياء والوجهاء، وأنا
أجدف على اسمه في سري، وبعد ذلك هل تظنون أنه ذهب كل منا إلى منزله؟ هل تظنون أن
ليلة أمس قد انتهت على هذه الصورة؟ اسمعوا وتعجبوا، تعلمون أن بيت حبيب سعادة
مُحَاذٍ لمنزل جلال باشا، ولا يفصلهما غير حديقة صغيرة، وأنتم تعلمون أن حبيب سعادة
من عشاق المدام، والأنغام، والأحلام، وممن يعبدون هذا البعليم (مشيرًا إلى بولس) فلما خرجنا من منزل جلال باشا وقف
بولس دقيقةً في منتصف الشارع فاركًا جبهته كأنه قائد عظيم يفكر بفتح مملكة عاصية،
ثم مشى فجأة نحو منزل حبيب سعاة، وقرع الجرس بشدة، فظهر حبيب بملابس النوم، وهو
يفرك عينيه، ويتمتم ويتثائب، ولكنه عندما رأى وجه بولس، ورآني حاملًا العود تحت
إبطي تغيرت سحنته، ولمعت عيناه كأن السماء قد انفتحت أمامه، وصرخ مسرورًا مؤهلًا
قائلًا: «ما أتى بكم في هذه الساعة المقدسة؟» فأجاب بولس قد جئنا لنحتفل بعرس ابن
جلال باشا في دارك» فقال حبيب: «هل ضاقت عليكم دار جلال باشا، فجئتم إلى هذا المنزل
الحقير؟» فأجاب بولس: «ليس لجدران بيت الباشا آذان تسمع رنات العود والأناشيد، من
أجل ذلك جئنا إليك، فهات قِنِّينَة العرق وَصَحْفَةُ المازة ولا تطل الكلام».
الخلاصة، جلسنا حول مائدة الشراب التي تطل على حديقة الباشا، ثم ناولني العود، وقال
آمرًا «هذه عصاك يا موسى فحولها إلى أفعى، ومرها أن تبتلع جميع أفاعي مصر، اضرب
النهوند، واضرب طويلًا واضرب جميلًا. فتناولت العود، وليس على العبد إلا الطاعة،
وضربت النهوند، فحول بولس وجهه نحو منزل جلال باشا، وأخذ ينشد بصوتٍ عالٍ.
(هنا يسكت سليم دقيقة، وتزول سيمياء المزاح عن وجهه، ويقول
بلهجة هادئة جدية).
أنا أعرف بولس منذ خمس عشرة سنة، أعرفه منذ كنا صبيين في المدرسة، ولقد سمعته
منشدًا في حالتي الفرح والشقاء، سمعته ينوح كالثكلى، ويترنم كالعاشق، ويهلل
كالمنتصر، سمعته يهمس في سكينة الليل وقد نامت هذه المدينة وسكانها، وسمعته بين
أودية لبنان وأجراس الكنائس البعيدة تملأ الفضاء سحرًا وهيبة، نعم لقد سمعته ألف
مرة ومرة، وكنت أتوهم أنني أعرف حركات روحه وسكناتها، ولكنني في ليلة أمس لما حول
وجهه نحو منزل جلال باشا، وأغمض عينيه وأنشد:
كلما أشكو من غرامِ قلبي
وكلما أشكوا يزيدُ الغرام
عندما أنشد هذا الدور متلاعبًا بمقاطيعه مثلما يتلاعب الهواء بأوراق الخريف، قلت
في نفسي: لا ما عرفت في الماضي من روح بولس إلا القشور، أما الآن فقد بلغت اللُباب،
لم أسمع في الماضي غير لسان بولس منشدًا، أما الآن فإني أسمع قلبه وروحه، وظل بولس
يلاحق الدور بالدور، ويتدرج من نشيدٍ إلى نشيد، حتى خُيِّلَ لي أن في الفضاء طغمة
من أرواح العشاق تحوم مرفرفةً هامسةً مناديةً مرددة تذكارات الماضي البعيد، ناشرةً
ما طوته الليالي من أماني البشر وأحلامهم، نعم يا سادتي (مشيرًا إلى بولس) إن هذا الرجل قد صعد ليلة أمس على سُلَّمِ الفن
حتى بلغ الكواكب، ومن العجائب أنه لم يهبط على الأرض حتى الفجر، لم يسكت حتى وضع
أعدائه تحت مَوْطِئَ قدميه كما جاء في المزامير! أما ضيوف جلال باشا، فلم يسمعوا
صوته خارجًا من منزل حبيب سعادة حتى تزاحموا في النوافذ، وجلسوا نساءً، ورجالًا
يتأوهون بعد كل مقطع وكل نبرة تخرج من فمه، وقد خرج بعضهم إلى الحديقة، ووقفوا تحت
الأشجار مغبوطين متعذبين مصغين محتارين في أمر هذا البلعيم الذي ينكيهم ويهينهم،
وفي الوقت نفسه يملأ قلوبهم بخمرة علوية، وقد كان يناديه البعض مستعطفًا مترجيًا،
والبعض متوعدًا مجدفًا، وقد علمت من أحد المدعوين أن جلال باشا كان يزأر كالأسد
متنقلًا من غرفة إلى غرفة لاعنًا الصلبان، غاضبًا على ضيوفه — خصوصًا — على أولئك
الذين خرجوا إلى الحديقة حاملين كؤوس العِرْق وَصُحُفَ المازة بأيديهم، هذا ما جرى
ليلة أمس فما قولكم في هذه النابغة المجنون؟ ما رأيكم بأطوار هذا الرجل، وأخلاقه
الغريبة؟
خليل بك
:
هذه حادثة عجيبة، أما رأيي فيها فهو هذا: أنا من المعجبين بمواهب بولس أفندي، ومع
كل احترامي له أقول: إنه أخطأ ليلة أمس، فقد كان بإمكانه أن ينشد في بيت جلال باشا
كما أنشد في بيت حبيب سعادة، ويقابل استعطاف القوم بشيء من فنه «مخاطبًا يوسف مسرة»
ما رأيك يا يوسف أفندي؟
يوسف مسرة
:
أنا لا ألوم الصلبان كما أنني لا أحاول فهم أسراره، وخفاياه؛ لعلمي أن المسألة
شخصية تتعلق به دون سواه، ولعلمي أن أخلاق الفنيين، خصوصًا الموسيقيين منهم، تختلف
عن أخلاق الناس كافة، وليس من الصواب أو العدالة أن نقيس أعمالهم ومآتيهم على
المقاييس التي نستخدمها لإدراك أعمال غيرهم، إن الفني، وأعني بالفني ذلك المبدع
الذي يخلق لأفكاره، وعواطفه صورًا جديدة، هو رجل غريب بين أهله وخِلَانِهِ، وغريب
في وطنه، بل هو غريب عن هذا العالم. الفني يميل شرقًا عندما يميل الناس غربًا،
ويتأثر لعوامل باطنية لا يستطيع هو نفسه أن يبسطها، فهو تَعِسٌ بين الفرحين، فَرِحٌ
بين التعساء، ضعيف بين القادرين، قادر بين الضعفاء. الفني فوق الشريعة رَضِيَ الناس
أم غضبوا.
خليل بك
:
إن كلام هذا يا يوسف أفندي، لا يختلف بمعانيه، وَمَفَادِهِ عما جاء في مقالتك عن
الفنون الجميلة، واسمح لي أن أقول ثانية: إن الروح الغريبة، الروح الإفرنجية التي
تكرز بها ستكون سببًا لزوالنا كشعب، واضمحلالنا كأمة.
يوسف مسرة
:
هل تحسب أن ما فعله بولس أفندي ليلة أمس مظهرًا للروح الإفرنجية التي تنكرها
وتكرهها.
خليل بك
:
إني أستغرب ما فعله بولس أفندي، أقول ذلك مع الاحترام لشخصه.
يوسف مسرة
:
أو ليس للصلبان تمام الحرية أن يفعل بصوته وفنه ما يشاء ومتى يشاء؟
خليل بك
:
نعم، له تمام الحرية أن يفعل ما يشاء، ولكنني أرى أن حياتنا الاجتماعية لا تتفق
مع هذا النوع من الحرية، إن ميولنا وعاداتنا وتقاليدنا لا تسمح للفرد الواحد أن
يفعل ما فعله بولس أفندي ليلة أمس دون أن يضع نفسه في موقف حرج.
الآنسة هيلانة
:
هذه مناظرة لذيذة ومفيدة، ولكن بما أن السبب في هذه المناظرة موجود بيننا فهو
بالطبع يستطيع أن يدافع عن نفسه بنفسه.
بولس الصلبان
(بعد سكوت طويل)
:
كنت أتمنى لو لم يفتح سليم هذا الحديث، بل كنت أود أن يزول ما جرى ليلة أمس مع
ليلة أمس، ولكن بما أنني في مركز حرج كما يقول حضرة البك، فأنا لا أرى بدًا من
إظهار أفكاري في هذا الموضوع، أنتم تعلمون وأنا أعلم أيضًا أن أكثر من يعرفني
ينتقدني، هذا يقول إنني مغنج، وذلك أنني أعوج، وهنالك فئة تقول إنني لئيم، وليس
للئيم كرامة، وما هو السبب يا ترى في هذه الانتقادات الجارحة؟ إن السبب في أخلاقي،
نعم في أخلاقي التي لا أقدر أن أغيرها، ولو قدرت لما أردت، ولماذا يا ترى يهتم
الناس بي وبأخلاقي؟ أليس بإمكانهم أن يتناسوا كياني؟ في هذه المدينة كثير من
المغنين، والمنشدين، والموسيقيين، وكثير من الشعراء والمُقْرِظِيْنَ، وكثير من
المبخرين، والشحاذين الذين يبيعون أصواتهم، وأفكارهم وعواطفهم، بل ويبيعون نفوسهم
بدينار، أو بعلفة، أو بِقَنِيْنَةٍ من الخمر، وقد عرف أغنياؤنا ووجهاؤنا هذا السر،
لذلك تراهم يبتاعون أبناء الفن، والأدب بأبخس الأثمان، ويعرضونهم في منازلهم،
وقصورهم، كما يعرضون خيولهم، ومركباتهم في الساحات، والطرق، نعم أيها السادة، إن
المغنين، والشعراء في الشرق هم حملة المباخر، بل هم العبيد، وقد فُرِضَ عليهم أن
ينشدوا في الأعراس، ويترنموا في الحفلات، ويندبوا في المآتم، ويرثوا في المقابر؛ هم
الآلات التي تدار في أيام الحزن، وليالي الأفراح، فإذا لم يكن من داعٍ للحزن، أو
الفرح طُرحوا جانبًا كأنهم سلع لا قيمة لها، وأنا لا ألوم الوجهاء والأغنياء، بل
ألوم المغنين والشعراء والأدباء الذين لا يحترمون نفوسهم، ولا يضنون بماء وجوههم،
ألومهم لأنهم لا يترفعون عن الصغائر والتوافه، ألومهم لأنهم لا يفضلون الموت على
الخضوع والتذلل.
خليل بك
(متهيجًا)
:
إن القوم كانوا يستعطفونك ليلة أمس، ويحاولون بكل وسيلة لديهم أن يسترضوك، لتتكرم
عليهم بأغنية أو نشيد، فهل تحسب إنشادك في بيت جلال باشا نوعًا من الخضوع
والتذلل؟
بولس الصلبان
:
لو استطعت الإنشاد في منزل جلال باشا لفعلت، ولكنني نظرت حولي فلم أجد بين
الحاضرين غير المُوسرين الذين لا يسمعون من الأصوات إلا رنات الدنانير، والوجهاء
الذين لا يفهمون من الحياة إلا ما يرفعهم ويخفض سواهم، نظرت حولي فلم أجد من يميز
النهاوند عن الرصد، أو العشاق عن الأصفهان، لذلك لم أستطع أن أفتح صدري أمام
العميان، أو أعرض أسرار قلبي أمام الطرشان، إنما الموسيقى لغة الأرواح، هي سيال خفي
يتموج بين روح المنشد وأرواح السامعين، فإذا لم يكن هناك من أرواح تسمع وتفهم ما
تسمع، فالمنشد يفقد ذلك الميل إلى البيان، ويفقد ذلك الشوق إلى إظهار ما في أعماقه
من الحركات والسكنات. والموسيقى مثل قيثارة ذات أوتار مشدودة حساسة، فإذا تراخت تلك
الأوتار فقدت خاصتها وأصبحت كخيوط من الكتان «يقف ويسير بضع خطوات، ثم يقول ببطء».
لقد تراخت أوتار روحي في منزل جلال باشا عندما تفرست في الحاضرين نساء ورجالًا، ولم
أر بينهم غير المتكلف والمتصنعة، والمتقلد، والبليدة، والعقيم، والمتعجرفة، أما
استعطافهم إياي فلم يكن ناتجًا إلا عن تمنعي وسكوتي، ولو كنت كالكثيرين من ضفادع
المنشدين لما اهتم أحد بي.
خليل بك
(يقاطعه مداعبًا)
:
وبعد ذلك ذهبت إلى منزل حبيب سعادة، وللنكاية — وللنكاية فقط — جلست منشدًا حتى
الصباح!
بولس الصلبان
:
جلست منشدًا حتى الصباح؛ لأني أردت أن أفرغ مكنونات قلبي؛ لأنني أردت أن ألقي
حملًا ثقيلًا عن عاتقي؛ لأني أردت أن أعاتب الليل، والحياة، والدهر؛ لأنني شعرت
بحاجة ماسة إلى شد تلك الأوتار التي تراخت في منزل الباشا. أما إذا كنت تظن يا خليل
بك أنني أردت النكاية فلك الحق أن تفتكر بما تريد، إن الفن طائر حر يسبح محلقًا
عندما يشاء، ويهبط إلى الأرض عندما يشاء، وليس من قوة في هذا العالم تستطيع تقييده
أو تغييره، الفن روح سام لا يباع ولا يشترى، وعلى الشرقيين أن يعرفوا هذه الحقيقة
المطلقة، أما الفنيون بيننا، وهم أندر من الكِبْرِيْتِ الأحمر، فعليهم أن يكرموا
نفوسهم؛ لأنهم الإناء الذي يملأه الله خمرة علوية.
يوسف مسرة
:
إني متفق معك يا بولس، ولقد أبنت أفكاري في هذا الموضوع بصورة لا أستطيع أنا
إظهارها، أنت ابن الفن أما أنا فباحث بالفنون، والفرق بيننا هو كالفرق الكائن بين
العنب الحامض، والخمرة المُعَتَقَةِ.
سليم معوض
:
الصلبان يتكلم مثلما ينشد، وليس على سامعه إلا الاقتناع والإذعان.
خليل بك
:
لم أقتنع بعد ولن أقتنع، وما فلسفتكم هذه إلا إحدى تلك العلل المتسربة إلينا من
بلاد الإفرنج.
يوسف مسرة
:
لو سمعت الصلبان منشدًا يا حضرة البك لاقتنعت ونسيت الفلسفة (في هذه الدقيقة تدخل الخادمة، وتخاطب الآنسة هيلانة قائلةً:
يا معلمتي قد جاءت الكنافة من الفرن فوضعتها على المائدة).
يوسف مسرة
(ينتصب مخاطبًا الجميع)
:
تفضلوا أيها الإخوان فقد هيأنا لكم أكلة لذيذة، لذيذة جدًا وتكاد أن تكون صلبانية
بنكهتها وحلاوتها!
(يقف الجميع ثم يخرج يوسف مسرة، وخليل بك، وسليم معوض، أما الصلبان،
والآنسة هيلانة، فيظلان واقفين في وسط القاعة، وكل يحدق بوجه الآخر، وفي عينيهما أشعة
لا توصف).
هيلانة
(هامسة)
:
هل علمت أنني كنت مُصْغِيَةً إليك ليلة أمس؟
الصلبان
(مستغربًا)
:
ماذا تعنين يا هيلانة قلبي؟
هيلانة
(بخجل ووجل)
:
كنت أمس في بيت شقيقتي مريم، ذهبت لأنام عندها؛ لأن زوجها متغيب وهي تخاف
لوحدها.
الصلبان
:
أَوَبيت صهرك على طريق الحرج؟
هيلانة
:
ولا يفصله عن بيت حبيب سعادة غير زقاق ضيق.
الصلبان
:
وهل سمعتيني منشدًا؟
هيلانة
:
سمعت نداء روحك من نصف الليل حتى الفجر، سمعتك حتى سمعت الله متكلمًا.
(يسمع صوت يوسف مسرة آتيًا من الغرفة المحاذية قائلًا: تفضل يا بولس
فقد بردت الكنافة).
(يخرج بولس وهيلانة الستار).