ما وراء الرداء
عندما انتصف الليل فتحت راحيل عينيها، وحدقت هنيهة بسقف الغرفة، ثم أغمضتها وتنهدت تنهدة عميقة متقطعة، وبصوت يكاد أن يكون لهاثًا قالت: «ها قد بلغ الصباح أطراف الوادي، فلنذهب إلى لقائه».
فاقترب إذ ذاك الكاهن من مضجعها، وجسَّ يدها، فوجدها باردة كالثلج، ثم وضع أصابعه بلطف فوق قلبها، فألفاه ساكنًا كالدهور، فأحنى رأسه، وارتعشت شفتاه كأنه يريد أن يلفظ كلمة علوية ترددها أشباح الليل في تلك الأودية القاصية الخالية، ثم صلب ذراعيها فوق صدرها، والتفت نحو الرجل الجالس في قرنة مظلمة من تلك الغرفة، وقال بصوت مِلْؤُه الشفقة والانعطاف: «قد ذهبت زوجتك إلى لقاء ربها، فقم يا أخي اركع بجانبي لنصلي».
فرفع الرجل رأسه، وقد تغيرت ملامحه، وكبرت عيناه كأنه رأى في فضاء الغرفة ظل إله غير معروف، ثم وقف بهدوء، وتقدم من مضجع زوجته، وركع بجانب الكاهن مصليًا منتحبًا، راسمًا بين الآونة، والأخرى إشارة الصليب على وجهه وصدره.
وانتصب الكاهن واضعًا يده على كتف الرجل قائلًا: «قم يا أخي تعال إلى الغرفة الثانية، فأنت بحاجة إلى النوم والراحة».
فلم يبد الرجل معارضة، بل وقف، وسار إلى الغرفة المحاذية، ورمى بنفسه على سرير ضيق ممددًا جسده شأن من ينهكه الهمُّ، والسهر، والانتظار.
ولم تمر بضع دقائق حتى غلب النوم أجفانه؛ فرقد كالطفل بين ذراعي أمه.
•••
أما الكاهن فظل منتصبًا كالتمثال وسط تلك الغرفة بعينين غارقتين بالدموع نحو جثة الصبية الباردة، ويلتفت كل دقيقة نحو زوجها النائم في الغرفة المحاذية.
ومرت ساعة أطول من الدهر، وأشد هولًا من الموت، والكاهن واقف بين رجلٍ، وامرأة راقدين … رجل راقد رقود حقل يحلم بمجيء الربيع، وامرأة راقدة مع الأزمنة الغابرة تحلم أحلام الأبدية.
حينئذ اقترب الكاهن من مضجع الصبية، وَجَثَا أمامها كما يجثو أمام المذبح، ثم أخذ يدها الباردة، ووضعها على شفتيه المرتجفتين، ونظر إلى وجهها المتشح بنقاب الموت، وبصوت هادئ كالليل، عميق كالبحر، مرتعش كآمال البشر قال: «يا راحيل، يا راحيل، يا أخت روحي، اسمعيني يا راحيل فأنا استطيع الآن الكلام، قد فتح الموت شفتي لأبوح لك بسر أعمق من الموت، وأطلق الألم لساني؛ لأكشف لك أمرًا أشد من الألم. اسمعي صُراخ روحي أيتها الروح المرفرفة بين الأرض واللانهاية، اسمعي الشاب الذي كان يراك راجعةً من الحقل فيتنحى محتجبًا بين الأشجار خائفًا من جمال وجهك، اسمعي الكاهن الذي يخدم الله فهو يناديك الآن بلا وجل؛ لأنك بلغت مدينة الله.
همس هذه الألفاظ، ثم انحنى فوقها، وقبَّل جبهتها، وقبل عينيها، وقبل عنقها، قبلات طويلة حارة، خرساء «علوية» تبين ما في نفسه من أسرار الحب والألم.
ثم تراجع فجأة إلى الوراء، وارتمى على الأرض مرتعشًا كأوراق الخريف، كأن ملامسة وجه المرأة المثلجة قد أيقظت في داخله عاطفة الندم، ثم انتصب جاثيًا ساترًا وجهه بيديه قائلًا في سره: «اغفر ذنبي يا رب، سامح ضعفي يا إلهي، فأنا لم أتجلد حتى النهاية، فالسر الذي أخفته الحياة في قلبي سبعة أعوام قد أباحه الموت بدقيقة واحدة، اغفر لي يا رب سامح ضعفي يا إلهي …».
وظل على هذه الحالة ينتحب، ويتوجع، ويميل برأسه ذات اليمين، وذات اليسار، ولا ينظر إلى جثة الصبية خائفًا على نفسه من خفايا نفسه حتى جاء الصباح، وألقى وشاحه الوردي على تلك الرسوم الهيولية التي تمثل الحب، والدين، والحياة، والموت.