رحلة لم تكن على البال
كانت مفاجأةً للشياطين الستة … عم «سرور» رجل المخابرات العجوز يتدخل في الوقت المناسب … وابتسم «أحمد» … وبدت على وجوه الشياطين مشاعر اللهفة والانتظار، وقال «سرور»: هذه اللوحات رُسمَت في قبرص!
أحمد: قبرص … هل أنت متأكد؟
سرور: طبعًا … هذه القلعة القديمة من معالم ميناء القراصِنة في شمال قبرص.
ومضى «سرور» يقول: لقد عملتُ في قبرص فترةً من حياتي … وأعتقد أنني أعرف كل شارع فيها … وهذه القلعة تُوجد على قمَّة تلٍّ في قرية كيرينيا في شمال قبرص وهو ميناء صغير يُسمونه ميناء القراصنة … فقد كان مأوًى لقراصنة البحر المتوسِّط في العصور الوسطى.
أحمد: إنك رجل رائع يا عم «سرور»!
بو عمير: والآن ما هي فكرتُكَ عن هذه اللوحات؟
اعتدل «أحمد» في جلسته ثم قال: لقد قالت «زبيدة» عند زيارتها لفيللا «جوزيف سليم» إنه رسام ماهر، وروَت حديثًا جرى بينها وبين زوجة «جوزيف» عن اللوحات والرسم، وقالت الزوجة إن «جوزيف» قد توقف عن الرسم في المدة الأخيرة … أليس كذلك يا «زبيدة»؟!
زبيدة: هذا صحيح …
أحمد: وقد لاحظتُ أن «جوزيف» يوقع على اللوحات ويكتب التاريخ عليها ومعنى ذلك أننا نستطيع معرفة تواريخ زيارته للأماكن التي رسَمَها.
واقترب «أحمد» من اللوحات وقال: هذه اللوحة الأولى التي يَظهر فيها جانب من قلعة كيرينيا كما قال عم «سرور» … مكتوب عليها أنها رُسمَت عام ١٩٥١ ومعنى ذلك أن جوزيف كان يعيش في قبرص قبل حضوره إلى لبنان.
زبيدة: ولكنه قال إنه يُقيم في لبنان منذ ثلاثين سنة!
أحمد: إنَّ ذلك قد يكون للتمويه في قصة حياته، أو ربما يكون حضر أولًا إلى لبنان ثم ذهب إلى قبرص ثم عاد.
بو عمير: وماذا تتوقَّع أن نجد في كيرينيا؟
أحمد: لا أدري … قد نجد زوجة «جوزيف» … وقد نجد أدلة تعيننا على العثور عليها؛ فقد اختفَت دون أن تَترك خلفها أثرًا … و«هانز» نفسه لا يعرف مكانها.
سرور: هل أُجهِّز تذاكر السفر؟!
أحمد: نعم … لنا نحن الستة … وأرسل إلى «قيس» و«مصباح» و«رشيد» للحضور من دمشق ليتولَّوا العمل في المقر.
إلهام: سأُرسِل تقريرًا إلى رقم «صفر» بهذه التطورات ونَستأذنُه في السفر.
وقامت «إلهام» لإرسال التقرير. وانهمَكَ بقية الشياطين في إعداد أنفسهم للسفر في اليوم التالي. وذهب «أحمد» إلى غرفة التقارير، ووضَعَ ورقةً أمام «إلهام» كتب فيها: بالإضافة إلى أنني أحبُّك … أرجو إرسال تقرير إلى رقم «صفر» برقم تليفون «هانز» ليعرف مقرَّه ويُخطرَنا.
وابتسمت «إلهام» وهي تقرأ الورقة.
•••
لم تكن هناك طائرة إلى قبرص قبل المساء … وقضى الشياطين وقتهم في وضع ترتيبات العمل … ووصل «مصباح» و«قيس» و«رشيد» … وروى لهم «أحمد» بإيجاز ما توصل إليه الشياطين من معلومات، وطلب منهم مراقبة مقر «هانز» إذا استطاع رقم «صفر» الوصول إليه عن رقم التليفون.
•••
وفي المساء توجَّه الستة إلى المطار … وأقلعت الطائرة متجهة إلى قبرص … وكانت «إلهام» تجلس بجوار «أحمد» … و«هدى» بجوار «بو عمير» … و«زبيدة» بجوار «عثمان» … ودارت الأحاديث …
قالت «إلهام»: أحسُّ بأنني في نزهة أكثر من إحساسي بالمغامرة …
أحمد: هذا أفضل بالنسبة لي، فسوف أسمح لنفسي أن أُمسكَ بيدكِ هكذا.
وأمسك بيدها فوضَعها بين راحتيه … وساد صمت عميق بينهما … كان كلٌّ منهما رغم صوت الطائرة يشعر بدقات قلب الآخر … ولكن هذا الإحساس الغامر بالحب لم يستمرَّ طويلًا … فقد طافت المضيفة بعبوات العشاء البلاستيك … وانفكَّ اشتباك الأيدي … ومضت الطائرة على ارتفاع ٣٥ ألف قدم تشقُّ السماء في الليل الذي هبَط.
بعد نصف ساعة تقريبًا بدأت المضيفة تتحدَّث في مكبر الصوت: سيداتي سادتي … نحن نقترب الآن من مطار نيكوسيا الدولي … درجة الحرارة في نيكوسيا ٢٨ … نرجو ربط الأحزمة والامتناع عن التدخين حتى تتوقَّف محرِّكات الطائرة … نرجو أن تكونوا قد استمتعتم برحلتِكم على طائراتنا … وأن نراكُم مرةً أخرى …
وبدأت الطائرة الضخمة من طراز بويج ٧٠٧ تحوم فوق المطار، ونظرت «زبيدة» من النافذة … كانت المدينة الصغيرة تَتلألأ بالأنوار … وبدأت الطائرة هبوطَها وأخذت الأنوار تكبر وتكبر. وبدا لزبيدة أن الأرض تندفع في اتجاههم … ثم دارت الطائرة دورتها الأخيرة، وأنزلَت عجلاتها … ولمست أرض المطار … ثم مضت تجري على المدرَّج الممهَّد الناعم، ودارت مرة أخرى على الأرض ثم توقفت …
وخرج الشياطين الستة إلى أرض المطار … ومن اللحظة الأولى أحسَّ الشياطين أنهم مقبلون على مغامرة مُثيرة … فقد كانت الجبال تُحيط بالمدينة الصغيرة من كل جانب غامضةً ساكنة محيرة … واستقلُّوا سيارة شركة الطيران إلى المدينة الصغيرة، وكان الطريق أطول مما تصوَّروا.
وقال «عثمان» معلقًا: إن المرور على النظام الإنجليزي … اتجاه اليسار وليس اليمين كما هو الحال عندنا … ومعنى هذا أنني لو قدت سيارة فسوف أرتكب عشرة حوادث على الأقل قبل أن أتعلَّم.
ووصلُوا إلى فندق «كارلتون» … وألقَوا حقائبهم بجوارهم، وقال «بو عمير»: ها قد وصلنا قبرص … ماذا بعد ذلك؟
أحمد: سنَبحَث عن زوجة «جوزيف».
قال «عثمان» بمرح: هل سنَسير في الشوارع نُنادي على زوجة «جوزيف»؟
أحمد: قد نُضطرُّ إلى أن نفعل ذلك.
وضحك الشياطين، ولكن «زبيدة» قالت: ما هي خطتنا القادمة؟
أحمد: السؤال عن رجل يُدعى «جوزيف سليم» كان يُقيم في كيرينيا سنة ١٩٥١.
هدى: الحقيقة إننا نبحث عن المُستحيل.
أحمد: لن نخسر شيئًا، وفي استطاعتنا أن نعود بعد يومَين ونتابع خطوات «هانز» … وإن كنت أعتقد أن «هانز» لا يعرف شيئًا بدليل ما حدث حتى الآن …
إلهام: ما رأيكم في جولة سريعة في المدينة نتعرَّف فيها على حياة الناس … ونسأل هنا وهناك.
ووافَقَ بقيَّة الشياطين على الفور … وسرعان ما كان الستَّة يَنزلون إلى الشارع الرئيسي في المدينة، وقال «أحمد» ملاحظًا: إنه يُشبه أيَّ شارع في بيروت أو الإسكندرية … المقاهي … وصوت زهر الطاولة … والضحك … والشاي.
قالت «زبيدة»: والمغامرة تُشبه أي مغامرة أخرى … فإنني أحسُّ أننا متبوعون!
قال «أحمد»: أعتقد ذلك … لقد نسينا أن «هانز» يعرف عنواننا عن طريق «كريم» ولا بد أنهم تبعونا في الطائرة.
كانوا يتحدثون وهم يسيرون كأنهم لا يلاحظون شيئًا، وفجأةً توقف «أحمد» أمام محل لبيع الساعات والمجوهرات … وكانت فترينتُه الزجاجية اللامعة تَعكِس ما في الشارع من حركة … وعرف الشياطين ما يقصده «أحمد» … فتركوا فراغًا بينهم يَسمح لمن خلفهم أن يظهر. وفعلًا انعكست صورة رجل يقف على مبعدة متظاهرًا بإشعال سيجارة.
قال «أحمد»: نريد استئجار سيارة فورًا!
واستوقف «أحمد» أحد المارة وسأله عن مكان لتأجير سيارة … وبعد أن دلَّه الرجل قال «أحمد»: سنَنقسم إلى قسمين … أنا و«بو عمير» و«عثمان» … و«هدى» و«إلهام» و«زبيدة» … سنركب نحن السيارة واستمرُّوا أنتنَّ في تجولكن.
عثمان: ماذا تَنوي أن تفعل؟
أحمد: سنقوم ببعض الألعاب البهلوانية.
إلهام: سنعود بعد العشاء إلى الفندق، فسوف نتعشَّى في الخارج.
أحمد: عظيم … وسنعود إليكنَّ بعد ساعتَين على الأكثر … فإذا تأخَّرنا حتى الصباح. فاتصلن بالمقر، واطلُبوا حضور بقية الشياطين.
ووصلوا إلى محلِّ تأجير السيارات … واختار «أحمد» سيارة خفيفة من طراز «أوبل»، ثم قفز إليها ومعه «عثمان» و«بو عمير» … وقال «أحمد»: هل مع أحدكما سلاح؟
هز «عثمان» كرته المطاط، وربت «بو عمير» على جانب بطنه حيث كان يضع مسدَّسًا أتوماتيكيًّا سريع الطلقات.
انطلق «أحمد» بالسيارة … كانت القيادة على الجانب الأيسر من الطريق مشكلةً صعبة في البداية، ولكن بعد مسيرة فترة كان كلُّ شيء على ما يُرام، وكان «بو عمير» يجلس في المقعد الخلفي، مُلقيًا بصره إلى الخلف، وسرعان ما قال: سيارة مرسيدس بيضاء تتبعُنا فيها ثلاثة رجال …
هز «عثمان» كرته المطاط وقال: واحد فقط لي … هذا لا يكفي!
كان «أحمد» يقود السيارة بسرعة على الطريق من نيكوسيا العاصمة إلى البحر. وكانت المسافة لا تزيد عن خمسة عشرة كيلومترًا … وسرعان ما شمُّوا رائحة البحر … ثم لمعت الأمواج تحت النجوم.
اختار «أحمد» ركنًا قصيًّا من الشاطئ … ثم أوقف السيارة في مواجهة البحر، وقال «بو عمير»: لقد توقفت المرسيدس البيضاء أيضًا، ولكنَّهم أخفوها خلف تلٍّ مُرتفع …
وجلس «أحمد» في السيارة هادئًا لحظات ثم ابتسم، وأضاء نور السيارة، ثم أخذ يضيئه ويُطفئه بين لحظة وأخرى … وبعد أن كرر العملية تسع مرات، التفت إلى «بو عمير» وقال: أريد طلقة مسدس في الفضاء.
بو عمير: قد تَلفِت الأنظار!
أحمد: لا تخف … نحن بعيدُون عن العمران، ثم إننا سنبتعد بعد قليل.
أخرج «بو عمير» مسدَّسه، ثم رفعه إلى فوق وأطلق رصاصة دوت في الصمت وبعدها انطلقوا بالسيارة مسرعين.
قال «عثمان»: إنني لا أفهم … ماذا تفعل يا «أحمد»؟!
قال «أحمد» مبتسمًا: بعض الألعاب البهلوانية كما قلت لك!
عثمان: نريد أن نشتبك معهم، ودعْكَ من البهلوانية …
أحمد: إننا نُريد أن نُدوِّخ الفأر قبل أن يقع في المصيدة …
واندفع «أحمد» بالسيارة مسرعًا على طول الشاطئ … ومن بعيد بدت السيارة المرسيدس قادمة خلفهم … وفجأةً صعد «أحمد» في الجبل بالسيارة. ودار دورة واسعة، ثم أوقف المحرِّك على منحدَر، وترك السيارة تَسير بقوة الاندفاع دون أن يَصدُر عنها أي صوت.
