«عثمان» يرقص … ويضرب
قال «بو عمير» والسيارة تَنحدِر في بطء: هل أنت متأكِّد أنهم من أعوان «هانز»؟
أحمد: أُرجِّح ذلك … فلا أحد يَعرفنا في الجزيرة … على كل حالٍ سنُجري بعض التجارب الآن.
ودار «أحمد» بالسيارة في مُنحنًى واسع ثم أوقفها، وأشار ﻟ «بو عمير» و«عثمان» بالنزول، فنزَلا، واختار الثلاثة صخرة ضخمة اختفوا خلفها … وبعد لحظاتٍ سمعوا صوت السيارة المرسيدس مقبلة، وسارت أمامهم وقد أضاءت أنوارها. وقال «أحمد» مسرعًا: «بو عمير» رصاصة واحدة في الإطار الخلفي.
وكالبرق أخرج «بو عمير» مسدَّسه … وانطلقت الرصاصة … وسمع في الصمت صوت الإطار المنفجر، وأخذت السيارة الضخمة تترنَّح، وقائدها يحاول السيطرة عليها، وأشار «أحمد» إلى «بو عمير» و«عثمان» وانطلقوا جميعًا كالأشباح في الظلام حتى اقتربُوا من السيارة التي توقفت. ونزل ركابها الثلاثة وقد أخرجوا مسدساتهم وأخذوا يُحدِّقون في الظلام، وهز «عثمان» كرتَه الجهنمية، وأحنى «أحمد» رأسه علامةَ الموافَقة، وانطلقت الكرة كالقذيفة، وترنَّح أحد الرجال الثلاثة وسقط على الأرض، وبدا الرجلان الباقيان كأنَّهما قد فقَدا عقلَيهما؛ فقد سقط الثالث دون أن يسمعا طلقة رصاص … ودون أن يظهر أحدٌ بجوارهما على الإطلاق … ثم انحنى أحدهما على الرجل الذي سقط وأخذ يُقلِّبه كأنما يبحث عن شيء فيه … ثم تحدثا قليلًا، وبدءا يَفُكَّان الإطار المنفجر لاستبداله بعد أن وضَعا زميلهما المُغمَى عليه في السيارة.
كان أحدهما يعمل والآخر يُراقب … ومرَّت سيارة مسرعة … فتظاهرا بالانهماك في العمل.
كان «عثمان» يَرقُب كرته المطاط في الظلام … وكانت التجارب قد علَّمته أن يضع في أحد جوانبها دائرة صغيرة من الفسفور المُضيء، ليستطيع رؤيتها في الظلام … وقد استطاع أن يراها بجوار جذع شجرة … فتسلَّل بهدوء وعاد بها دون أن يحسَّ أحد، وهزَّها مرةً أخرى في يده … وأحنى «أحمد» رأسه علامة الموافقة، وانطلقت الكرة للمرَّة الثانية … وللمرة الثانية سقط الرجل الثاني على الأرض … والتفَتَ الرجل الذي كان يستبدل الإطار على صوت سقوط زميله … وأخرج مسدَّسه … ودون وعي أخذ يطلق الرصاص في كل اتجاه دون أن يرى أحدًا … وابتسم الشياطين الثلاثة … وانتظر «عثمان» حتى فرغ الرصاص من مسدس الرجل، ثم انحنى ومضى مسرعًا إلى حيث كانت كرتُه الجهنمية قد تدحرجت على سفح الجبل … وبدأ ينزل … وهوت صخرة صغيرة تحت قدمه وأحدث دويًّا في الصمت، وسمع الرجل الواقف الصوت … وأسرع في اتجاهه وقبع «عثمان» مكانه وقد اختفى لونُه الأسمر في سواد الليل والصخور … واقترب الرجل الذي أعاد حشو مسدَّسِه … وتركه «عثمان» يَقترب حتى أصبح على مسافة قريبة منه ثم قفَز كالزنبرك، ورفَع اليد المُمسكة بالمسدَّس بيده اليُسرى إلى فوق، وبيده الطليقة وجه لكمةً هائلة إلى الرجل ترنَّح على أثرها وسقط.
عندما ظهر «عثمان» بجوار الرجل … شاهد «أحمد» و«بو عمير» يُفتِّشان الرجل الواقع بجوار السيارة فأسرع إليهما، وعلى ضوء بطارية صغيرة استطاع الثلاثة أن يَعرفوا أن الرجل يُدعى «كارل» … وقال «أحمد» إنه من أعوان «هانز» ويبدو أنه لا يَثق إلا ببني جنسه من الألمان.
بو عمير: ما رأيكما أن نُجرِّدَهم من جوازات السفر، ونُقيِّدهم في داخل السيارة …؟ إنهم سيقعون في مشاكل مع سلطات قبرص تَشغلُهم عن مطاردتنا!
وافق «أحمد» … وسرعان ما كان الرجال الثلاثة مكوَّمين في السيارة، وقد رُبطُوا جميعًا في حبل واحد.
عاد الشياطين الثلاثة إلى سياراتهم … وانطلقت بهم وقال «عثمان»: ماذا كنت تقصد من إشارات النور على الشاطئ … وطلقة المسدس؟
أحمد: كنتُ أريدُهم أن يعتقدوا أن لنا أعوانًا في البحر. فإن ذلك سيُشتِّت جهودهم!
عثمان: والآن؟!
أحمد: أعتقد أنهم سيعودون إلى وَعيهم قبل الصباح … وأنهم سيُخبرُون «هانز» بما حدث … وسوف يَرتبِك ولا يدري ماذا يفعل … ولعله يَضع رقابة محكمة على الشاطئ.
بو عمير: عندي فكرة … إننا الآن غير مُراقبين، وهي فرصتنا للذهاب إلى كيرينيا لنُلقيَ نظرة على المكان الذي جئنا من أجله.
أحمد: موافق … إنه اقتراح عملي للغاية … وإن كان الوقت متأخِّرًا ولن نجد من نسأله عن «جوزيف».
بو عمير: المُهم أن نُلقيَ نظرة على ميدان الصراع ونحن غير مراقَبين.
زاد «أحمد» من سرعة السيارة، وبدأ يتجه شمالًا إلى كيرينيا … ميناء قبرص القديم حيث كان القراصنة يَجدون مأوًى بعيدًا عن العيون.
استمرت الرحلة نحو ساعة ونصف، وأشرفوا في النهاية على الجبل المرتفع الذي يَحتضِن الميناء الصغير … ورغم أن الساعة كانت قد أشرفت على منتصف الليل، فقد شاهَدُوا أنوار بعض المقاهي والكازينوهات الساهرة، وقال «أحمد»: إن قبرص جزيرة سياحية ومن المؤكد أننا سنَجدُ مَن نتحدَّث إليه.
ومضَتِ السيارة منحدرةً إلى حيث الميناء … وركن «أحمد» السيارة قرب كازينو كانت تتصاعد منه موسيقى راقصة … ودخل الثلاثة … كان أسعدهم «عثمان» عندما شاهَدَ حلقة رقص قد انهمك فيها عدد من الشبَّان والفتيات.
اختار الثلاثة مائدة قريبة من حلقة الرقص، وجلسوا، وسرعان ما جاء الجرسون فطلبوا بعض المشروبات … وأخذوا يتأمَّلون الكازينو من الداخل … كان معدًّا على شكل سفينة … والموائد على شكل براميل … وكل شيء فيه يُوحي بالجو القديم للقراصنة …
شعر الشياطين الثلاثة بسعادة غامرة في هذا الجو … ولكن هذه السعادة لم تستمرَّ طويلًا … فقد اختار «عثمان» فتاة شقراء ليَرقُص معها … وكان «عثمان» راقصًا ماهرًا … سرعان ما أوسع له بقية الراقصين مكانًا بينهم … وشيئًا فشيئًا سيطر على حلقة الرقص …
ولكن فجأةً اندفع من بين الجالسين شابٌّ ضخم الجثة … كان واضحًا أنه ليس في حالة طبيعية، واقترب من «عثمان» سريعًا، ثم جذبه من كتفه بخشونة واضحة … وتوقف بقية الراقصين … بينما استمرَّت الموسيقى تَعزف … واستدار «عثمان» للشاب الذي جذب الفتاة بشدة … ومدَّت الفتاة يدها تستغيث ﺑ «عثمان» … فقال «عثمان»: أرجو أن تهدأ.
وبدلًا من أن يهدأ الشاب أو يتحدَّث إلى «عثمان»، وجه إلى وجه «عثمان» لكمةً هائلة … ولكن «عثمان» انحنى يسارًا … فطاشت الضربة وترنَّح الشاب وكاد يسقط … فمدَّ «عثمان» يده ليُسنده … وبدلًا من أن يتوقف الشاب الهائج عند هذا الحد، مدَّ يده إلى خصره وأخرج خنجرًا لامعًا وهجم على «عثمان»، ولكن «عثمان» انحرف مرة أخرى … ووقف الاثنان، «عثمان» الأعزل … والشاب بخنجره … ومال «بو عمير» على «أحمد» قائلًا: هل نتدخَّل؟
أحمد: انتظر قليلًا، واترك فرصة ﻟ «عثمان» ليتدرَّب مع هذا الثور الهائج.
وقف «عثمان» والشاب وجهًا لوجه، وقد أحنى كلٌّ منهما رأسه كأنَّهما ديكان يتصارعان وتوقَّفَت الموسيقى … وران على المكان صمت عميق … وفجأةً قفَز الشاب محاولًا إصابة «عثمان» … ولكن «عثمان» غيَّر مكانه بسرعة ثم قفَز إلى فوق. وطارت قدمُه في ضربة موجعة أصابت الشابَّ في بطنِه … وقبل أن يَتمكَّن من استعادة توازنِه كان «عثمان» قد انقضَّ عليه وأمسك يده التي كانت تقبض على الخنجر، ولوى ذراعَه إلى الخلف، ثم ضربه بقدمه في ظهره، فسقط على الأرض، وطار الخنجر بعيدًا … وبدأ الشاب يُحاول الوقوف.
في هذه اللحظة اقتحم المكان رجلان من رجال الشرطة، فأفسح لهما الجميع طريقًا، وقال أحدهما وهو يُنهِض الشاب: هذا يكفي يا «بوز»! ولكن «بوز» — وهو اسم الشاب — أزاح يد الشرطي بعيدًا، وأخذ ينظر إلى «عثمان» نظرات يَتطايَر منها الشرر.
وجاء صاحب الكازينو وطلب من الشرطيين إبعاد «بوز» وقال: إنه يُسبِّب له المتاعب كل ليلة!
وكان واضحًا من الحديث أن «بوز» يتمتَّع بحماية ما، وأنه لا يخشى شيئًا.
نادى «أحمد» «عثمان» فعاد إلى مقعدِه، وعادت الموسيقى للعزف، وجلس «بوز» في آخر الكازينو ومعه بعض رفاقه، وبدا واضحًا أن الليلة لن تمرَّ بخير، وأن «بوز» ومجموعته ينوون الانتقام من «عثمان».
لم يكن الشياطين الثلاثة يَخافون الاصطدام ﺑ «بوز» ومن معه … ولكنهم لم يكونوا على استعداد لإضاعة وقتهم في صراعٍ ليس له أهمية، ولا يخدم الغرض الذي جاءوا من أجله.
عادت الموسيقى ترتفع، والرقص يدور، وكان الشياطين الثلاثة يُتابعون الرقص وهم يَبتسمُون، ولكن «أحمد» كان يفكر في طريقة للخلاص من «بوز» هذا، وبدا له الاسم غريبًا، وأغرب منه هذا الاستهتار الذي أبداه «بوز» لرجلَي الشرطة.
ومال «أحمد» على «بو عمير» وقال: سنُحاول الانسحاب بهدوء.
بو عمير: وإذا حاول هذا اﻟ «بوز» ومن معه الاشتباك معنا؟
أحمد: لن يكون أمامنا إلا تأديبهم بشدة!
ودفع «أحمد» الحساب، واجتاز الشياطين الثلاثة صفوف الجالسين الذين كانوا ينظرون إليهم بمزيد من الاحترام والأسى، ولاحَظَ «أحمد» النظرات، وأدرك أنهم يُواجهون خصمًا طاغية.
خرج الثلاثة إلى هواء الليل البارد وبدءوا سَيرهم ناحية سيارتهم. وبعد أن ساروا قليلًا أحسُّوا بأصوات أقدام تتبعُهم … لم يكن هناك أحد سائرًا على الشاطئ الصَّخري في هذه الساعة المتأخِّرة من الليل … وكان تفكير «أحمد» أن يكون الصراع بينهم وبين «بوز» ومن معه بالاشتباك بالأيدي … وليس بطلقات الرصاص، فلم تكن معهم أسلحة كافية من ناحية ومن ناحية أخرى لم يكن يُريد أن يتورَّط في قتل أحد … أو يفقد أحد الشياطين.
قال «أحمد» فجأةً: أمامنا صخرة، سنلفُّ حولها، ونقف!
وتقدموا وأصوات الأقدام ترتفع خلفهم، واستدارُوا خلف الصخرة، وألقى «أحمد» نظرة سريعة على القادِمين كانوا خمسة … وتوقَّف الشياطين الثلاثة خلف الصخرة، وقال «أحمد» ﻟ «بو عمير»: أسرع أنت إلى السيارة، أدر المحرِّك ثم اقترب منا.
وأسرع «بو عمير» لتنفيذ ما قاله «أحمد»، وفي هذه اللحظة وصل الخمسة إلى الصخرة، وقف «بوز» في وسطهم وقد وضع قدمه على نتوء بارز، ووضع يدَيه حول خصره … كانت وقفة تحدٍّ واضح فقال «أحمد» بهدوء: أنصحك يا «بوز» أن تعود أنت ومن معك … لا داعي لإثارة المتاعب.
قال «بوز»: أريد هذا الولد … لقد أهانني … قال هذا وهو يُشير إلى «عثمان» … فقال «أحمد» وهو ما زال متمالكًا لأعصابه: إن صديقي يُدعى «عثمان» … ولا داعيَ لأن تُهينه؛ فقد يُضطر إلى وضع أنفك في التراب.
كان «عثمان» يهزُّ كرته المطاط الجهنمية في يده … وكان يدرك أن ضربة منها على مسافة قريبة في رأس «بوز» سوف يبقى بعدها طريح الفراش أيامًا طويلة … وربما لن يستعيد توازنه بعدها أبدًا …
وبدأ الخمسة يقتربون من «عثمان» و«أحمد» أكثر …