قريب من السر … وبعيد عنه
بهدوء … اتجه «أحمد» إلى اللوحة فأخرجها من خلف الفستان … كانت تُؤلِّف مشهدًا طبيعيًّا لقمة بنجاريا والثلوج تحيط بها، وكان لها نفس الطابع الذي لبقية اللوحات.
وكالمعتاد كان هناك تاريخ اللوحة … ١٩٥١، ولكن الاسم الذي كان عليها لم يكن «جوزيف سليم» … كان اسمًا مختلفًا، تأمله «أحمد» واستطاع أن يقرأه … «فالتر» … مرةً أخرى اسم ألماني صميم.
والتفَتَ «أحمد» إلى «باتساليدس» قائلًا: قمة بنجاريا.
باتساليدس: نعم … كما كانت من عشرين سنة أو أكثر.
أحمد: لم تتغيَّر كثيرًا.
باتساليدس: الطبيعة لا تتغيَّر … ربما تتغير ببطء.
أحمد: رسَّام لا بأس به.
باتساليدس: كان هاويًا فقط … فلم يكن محتاجًا، وكان يقضي أغلب وقته منفردًا أو مع صديقه ساكن القلعة.
ولم يُكمل «باتساليدس» جملته، فقد دقَّ جرس التليفون، وأسرع «باتساليدس» يرد … لاحظ «أحمد» على الفور تغيير ملامح «باتساليدس» بعد كل كلمة … ولاحظ الشياطين أنه وهو يتحدث ينظر إليهم. ولم يشكُّوا لحظة واحدة أن المكالمة كانت تدور حولهم. فمن المتحدث؟ انتهى «باتساليدس» من المكالمة ووضع السماعة. وانقلب الرجل المرح المُجامِل إلى رجل آخر … ولكن «أحمد» حاول أن يستمر في المناقشة التي قطعتْها المكالمة التليفونية.
أحمد: كنتَ تُحدثنا عن هذه اللوحة.
باتساليدس بجمود: اللوحة … نعم … إنها لا قيمة لها!
أحمد: وصاحبُها وصديقه ساكن القلعة؟
قال «باتساليدس» وهو يمدُّ يده إلى اللوحة ويضعها جانبًا: آسف جدًّا … إنني مرتبط بموعد مهم … وسأُغلِق المحل الآن … ويمكنكم العودة في وقت آخر.
تبادل الشياطين الستة النظرات … كان في إمكانهم أن يستخدموا الخشونة مع التاجر وأن يحملوه على الحديث … ولكنَّهم كانوا يكرهون أن يخوضوا صراعًا ضد رجل وحيد عجوز … قد تكون عنده أسباب قوية للصمت!
قال «أحمد» موجهًا حديثه إلى «باتساليدس»: ساكن القلعة هو الذي كان يُحدثك؟ لم يردَّ «باتساليدس»، ولكن الشحوب الذي غطَّى وجهه كان ردًّا كافيًا على سؤال «أحمد».
غادر «باتساليدس» المحل مُسرعًا … وخرج خلفه الشياطين الستة، واتجهوا إلى سيارتهم، ثم وقفوا حولها يتحدثون فقالت «إلهام»: من المؤكَّد أننا نسير في الطريق الصحيح … لقد كانت ملاحظة «أحمد» حول اللوحات الخمس صحيحة … المهم الآن أن نعرف ما هي القلعة، ومن هو ساكنها المخيف؟
بو عمير: من الواضح أن القلعة هي قلعة كيرينيا التي صوَّرَها جوزيف في لوحاته … أما من هو ساكنها الذي يخشاه «باتساليدس» فهذا ما يجب أن نعرفه.
أحمد: بالمناسبة إن «جوزيف» له اسم آخر … اسم ألماني صميم … «فالتر»!
زبيدة: هذا معقول جدًّا … ألم يكن أحدَ بحَّارة الغواصة الألمانية التي نُسفَت عند شاطئ عدن؟ إنه ألماني بالطبع … ولستُ أستبعد أن يكون ساكنُ القلعة رجلًا ألمانيًّا آخر.
هدى: الرجل الثالث؟
كان هذا السؤال قد خطر على بال الشياطين الستة في نفس الوقت … فلم يردَّ أحد منهم … كان احتمالًا قويًّا … ولكن هل هذا مُمكن؟ هل يكون الرجل الثالث في قبرص … في قلعة كيرينيا؟
بو عمير: ولكن كيف عرف ساكن القلعة هذا أننا نبحث عن «جوزيف سليم»؟ أو الرجل الثالث؟
عثمان: ليس هناك سوى احتمال واحد أن يكون سائق التاكسي الثرثار قد عاد إلى كيرينيا وروى حديثنا معه … ووصل الكلام إلى ساكن القلعة وعرف أننا سنذهب إلى «باتساليدس»، فاتصل به ليحجب معلوماته عنا.
أحمد: تمامًا ليس هناك سوى هذا الاحتمال!
هدى: يجب أن نتَّجه الآن رأسًا إلى كيرينيا ونرى من هو ساكن القلعة قبل أن يختفي إلى الأبد.
أحمد: معك حق … ولكن يجب ألا ننسى أننا الآن نُواجه ثلاث مجموعات من الأعداء … «هانز» وعصابته … و«بوز» وزملاؤه … ساكن القلعة ومن يُمكن أن يكون معه من أعوان، وذلك يستدعي قدرًا من التنسيق في تحركاتنا.
إلهام: إن «بوز» هذا يَعرفكم أنتم ولا يعرفنا، لهذا فمِن المُمكن أن نذهب أنا و«زبيدة» و«هدى» إلى كيرينيا دون التعرُّض لمخاطر «بوز» وزملائه، وعليكم أنتم إبعاد «هانز» وعصابته.
أحمد: موافق … سنذهب إلى منتصف الطريق بين نيكوسيا وكيرينيا، ثم ننقسم إلى مجموعتين الفتيات الثلاث إلى كيرينيا، ونحن إلى نيكوسيا.
وسرعان ما قفز الشياطين الستة إلى السيارة البونتياك الكبيرة، وقادها «عثمان» ببراعة عبر ممرات الجبال.
عند منتصف الطريق بين نيكوسيا وكيرينيا افترق الشياطين، ونزل الشبان الثلاثة ووقفوا في انتظار سيارة تحملهم إلى نيكوسيا، بينما قادت «إلهام» السيارة في اتجاه كيرينيا.
مضت البونتياك القوية تصعد الجبال وتنزل بسرعة … وقد أعدَّت الفتيات في حقائبهن الصغيرة المسدَّسات الأوتوماتيكية للإطلاق … فقد يكون ساكن القلعة قد حصل على معلومات عنهن … وقد يواجهن في وضح النهار هجومًا غير متوقَّع.
وصلت السيارة إلى كيرينيا، وركنتها «إلهام» قرب الكازينو … ثم نزلت الفتيات الثلاث واتجهن إلى الشاطئ حيث كانت القلعة المُستطيلة ذات الأبراج المستديرة تقف صامتة في مواجهة البحر … وأمامها ميناء صغير قد انتشرت فيه سفن الصيد الصغيرة وقوارب النزهة.
مشت الفتيات يتضاحكْن كأنهنَّ خاليات البال … ولكن عيونهن كانت ترمق كل شيء وتفحص كل شيء … وقالت «زبيدة»: هذا إذن ميناء القراصنة.
إلهام: نعم … ويبدو أن القراصنة لم يعيشوا في الماضي فقط … فما زال هناك قراصنة مثل ساكن القلعة.
واقتربت الفتيات من بعض الصيادين الذين كانوا يُصلحون شباكهم وقالت «إلهام»: نريد قاربًا للنزهة.
وفي هذه اللحظة انشقت الأرض وظهر «بوز» … عرفتْه «إلهام» فورًا من الوصف الذي سمعتْه من «أحمد» … القوام الفارع … والقوة الظاهرة … والوجه المشاكس … وقال «بوز» مكشرًا عن ابتسامة سخيفة: إنني في الخدمة … وسأضع تحت تصرُّفكِ أجمل قاربٍ بخاري في كيرينيا!
وأشار بإصبعه … ونظرت الفتيات الثلاث … كان قاربًا أنيقًا حقًّا يلمع تحت ضوء الشمس، صاعدًا هابطًا مع الأمواج الخفيفة.
أحست «إلهام» بالتحدِّي يسري إلى عروقها … إن «بوز» يعتقد أنه ملك الجزيرة … وقد آنَ الأوان ليتعلم فقالت: كم الأجر في الساعة؟
رد «بوز»: لا تَحملي همَّ النفقات … إنني أدعوكنَّ جميعًا للنزهة على حسابي.
ابتسمت له «إلهام» ابتسامة ساحرة … وسِرنَ خلفه حتى القارب، وسرعان ما كان يغادر الميناء الصغير متجهًا إلى البحر … وقالت «إلهام» مشيرة إلى القلعة: شيء مُثير هذه القلعة!
رد «بوز» بكلمة واحدة: نعم.
ولكن «إلهام» لم تيئس وقالت: هل هي ملك لشخص؟
بوز: لا طبعًا … إنها ملك للحكومة القبرصية.
إلهام: ولكنَّني سمعت أنَّ ثمة شخصًا يسكنها.
تغيَّر وجه «بوز» وقال: سمعتِ … من الذي قال لك؟
إلهام: لا أذكر بالضبط … ولكنه شيء مُثير أن تكون في هذه القلعة القديمة حياة … لا بد أنه قرصانٌ من طراز جديد.
عاد «بوز» إلى الابتسام وقال: إنها فكرة ظريفة … ولكن الحقيقة ليست هكذا.
وأخذ القارب يشق طريقه في الماء مبتعدًا عن ميناء القراصنة حتى أصبح شريطًا رفيعًا عند الأفق، ونظرت «زبيدة» إلى «إلهام» … ووجدتْها شديدة الاطمئنان كأن لا شيء يشغل بالها.
وكان الحديث يتصل بين الفتيات الثلاث وبين «بوز» أحيانًا ثم ينقطع … وأخيرًا نظرت «إلهام» إلى ساعتها وقالت: لقد تجاوزتِ الساعة الثانية بعد الظهر … وآن الأوان لنعود لتناول طعام الغداء.
قال «بوز»: غداء؟! إن ثلاجة القارب فيها كل شيء … وفي إمكانكنَّ إعداد غداء شهي لنا.
إلهام: فكرة جميلة أن نتغدى هنا … هيا يا «زبيدة»!
وقامت «إلهام» و«زبيدة»، إلى بطن القارب، وبدأتا الحديث على الفور وهما تعدان الطعام.
قالت «زبيدة»: إلى متى ستُجارين هذا الذئب التافه؟
إلهام: حتى تتلاشى ريبتُه فينا … من المؤكد أن مثل هذا الشاب يعرف الكثير عن القلعة وساكنها المزعوم.
زبيدة: هل تتوقَّعين أن يقول لنا ما يعرفه؟
إلهام: اتركي الأمر لي.
كانت «هدى» تجلس قريبًا من «بوز» … ولاحظت أنه يَميل على ما يشبه جهاز الراديو بجواره ويستمع … وأدركت على الفور أنَّ أي حديث دار بين «زبيدة» و«إلهام» قد سمعه «بوز» … وتظاهرت أنها لم تلاحظ ما حدث … وقالت وهي تقف: سأَنزل لمساعدتهما.
قال «بوز» بهدوء غريب: لا داعيَ لذلك … إنهما يمكن أن يقوما بالعمل وحدهما.
أدركت «هدى» أن «إلهام» و«زبيدة» تحدَّثتا معًا عن القلعة … وأن «بوز» قد سمع حديثهما، وتوقعت المتاعب … ولكنها كانت مطمئنة تمامًا على أن في إمكانهنَّ التغلب على «بوز» ببساطة مهما كانت قدرته.
وعندما ظهرت «إلهام» و«زبيدة» وهما تَحملان أطباق الطعام، أوقف «بوز» القارب مكانه، وأسرع كشابٍّ مهذب يُساعدهما … وبعد أن وضعت جميع الأطباق بدأ الأربعة يتناولون غداءهم. كان «بوز» يتظاهر بالمرح الشديد … ولكن «هدى» استطاعت بنظراتها أن تنقل إلى «زبيدة» و«إلهام» رسالة تحذير … ومضى الوقت في حديثٍ مَرِح وطعام شهي.
بعد الطعام تناولوا عصير الليمون المثلج، وبدت الرحلة جميلة رغم كل شيء حتى إن «هدى» ظنَّت أنها واهمة … وقام «بوز» إلى الموتور يُديره … ولكن الموتور لم يَدُر، وأخذ يحاول ويحاول عبثًا، ثم نزل إلى قلب القارب، وأسرعت «هدى» تقول: أظنُّ أنه استمع إليكما.
وخرج «بوز» على الفور وقال: لقد طلبتُ نجدة.
وبعد فترة ظهر يخت كبير قادم من كيرينيا … وأحست «إلهام» أن الأمور لا تسير على ما يرام … واقترب اليخت الضخم مُسرعًا … وبعد أقل من نصف ساعة كان يقف بجوارهم وقد أطلت منه خمسة وجوه شرِّيرة … وبدت من جوانبه المدافع الرشاشة وقال «بوز»: والآن سنُحقِّق لكنَّ الحلم … وستشاهدن ماذا يدور في القلعة.