أصل الحكاية
وُلِدت الرغبة في أعقاب نظرة مُفعَمة بالإثارة، والسفينة تشقُّ طريقها ضد التيَّار الهادئ القوي في أواخر فصل الفيضان. بدأت الرحلة من مدينتنا سايس ماضيةً جنوبًا إلى بانوبوليس لزيارة أختي التي استقرَّ بها الزواج هناك. وذات أصيلٍ مرَرنا بمدينةٍ غريبة، مدينة تُطلُّ من أركانها عظمةٌ غابرة، ويزحف الفناء بنهَمٍ على جنَباتها وأشيائها، مُترامية بين النيل غربًا ومِحراب الجبل شرقًا، مُتعرية الأشجار، خالية الطُّرقات، مُغلَقة الأبواب والنوافذ كالجفون المُسدَلة، لا تنبض بها حياة ولا تندُّ عنها حركة، يجثم فوقها الصمت، وتخيِّم عليها الكآبة، وتلوح في قسَماتها أمارات الموت. أجَلتُ فيها البصر فانقبض صدري، وهرعت إلى أبي حيث يسترخي على أريكةٍ فوق المِنصَّة مجلَّلًا بشيخوخته، وسألته: ما شأن هذه المدينة يا أبي؟
فأجاب دون تأثُّر: مدينة المارق، المدينة الكافرة الملعونة، يا مري مون …
فرجع البصر إليها بانفعالٍ مُضاعَف وذكرياتٍ مُنثالة، ثم سألت: ألا يوجد بها حي؟
فأجاب أبي باقتضاب: ما زالت المرأة المارقة تتنفَّس في قصرها، أو سجنها، وهو الأصح، كما يوجد بعض الحُراس بلا ريب …
فغَمغَمت مُتذكرًا: نفرتيتي!
تُرى كيف تُعاني وَحدتها وذِكرياتها؟! وسُرعان ما استعدت ذكريات صِباي في قصر أبي بسايس، وحِوار الكِبار المحموم حول الإعصار الذي أطاح بأرض مصر، والإمبراطورية، وما سمَّوه بحرب الآلهة، وفرعون الشاب الذي مزَّق التُّراث والتقاليد، وتحدَّى الكهَنة والقدَر. أجل، تذكَّرت تلك الأيام المنسيَّة، وما قيل عن دينٍ جديد، وتمزُّق الناس بين الإيمان والولاء، والجدل حول الحقائق الغامضة، والهزائم المريرة، والنصر المُقترن بالحزن. ها هي مدينة العجائب مُستسلمة للموت، ها هي سيِّدتها سجينةٌ تتجرَّع الألم في وَحدة، ها هو قلبي الشابُّ يدقُّ بعنف طامحًا لمعرفة كل شيء. وقلت لأبي: لن ترميَني بحب الدَّعة بعد اليوم يا أبي، إن رغبةً مقدَّسةً تغزوني مِثل ريح الشمال كي أعرف الحقيقة وأسجِّلها كما كنت تفعل في صدر شبابك يا أبي …
فرمَقني أبي بعينَيه الكليلتين وتساءل: ماذا تريد يا مري مون؟
– أريد أن أعرف كل شيء عن هذه المدينة وصاحبها، عن المأساة التي مزَّقت الوطن وضيَّعت الإمبراطورية …
فقال بجِدِّية: ولكنك سمِعت كل شيء في المَعبد.
فقلت بحماس: قال الحكيم قاقمنا: «لا تحكم على قضية حتى تسمع الطرفَين!»
– الحقيقة هنا واضحة، فضلًا عن أن الطرَف الآخر، المارق، قد مات … فقلت بحماسٍ مُتصاعد: أكثر الذين عاصَروه ما زالوا أحياءً يا أبي، وجميعهم أقران لك وأصدقاء؛ فأي توصية منك لهم خليقة بأن تفتح لي مغاليق الأبواب ومكنون الأسرار؛ بذلك أُحيط بجوانب الحقيقة قبل أن يأتيَ عليها الزمن كما أتى على المدينة …
وواصلت إلحاحي عليه حتى استجاب لرغبتي، بل لعله تحمَّس لها في باطنه لسابق ولعه بتسجيل الحقائق، ولرسوخه في العلم الذي جعل من قصرنا منتدًى لرجال الدين والدنيا؛ حتى عُرِف بين صحبه ﺑ «صاحب الأرض الطيِّبة والحكمة النادرة»، كما عُرِف قصره بالندوات تُروى بها الحكايات، وتُردَّد الأشعار، وتمتدُّ بها موائد البط والنبيذ.
وحرَّر لي رسائل توصية للكِبار الذين عاصَروا الأحداث، من شارَك فيها من قريب أو بعيد، من ذاق حُلوها ثم مُرها، ومن ذاق مُرها ثم حُلوها. وقال لي: اخترتَ سبيلك بنفسك يا مري مون، فاذهب في رعاية الآلهة، أجدادك ذهبوا للحرب أو السياسة أو التجارة، أما أنت فتُريد الحقيقة، وكلٌّ على قدر هِمَّته، ولكن احذر أن تَستفزَّ صاحب سلطان أو تشمت بساقط في النسيان، كُن كالتاريخ يفتح أُذنَيه لكل قائل ولا ينحاز لأحد، ثم يُسلِّم الحقيقة ناصعةً هبةً للمُتأمِّلين …
وسعِدت جدًّا بالخلاص من الخمول، والتوجُّه إلى تيَّار التاريخ الذي لا تُعرَف له بداية، ولن يتوقَّف عند نهاية، ويُضيف كل ذي شأن إلى مَجراه موجةً مستمدَّة من حب الحقيقة الأبدية …