حور محب
مُتوسط القامة، متين البُنيان، ذو مظهر يوحي بالقوة وصِدق العزيمة، سليل أسرة كهنوتية مُتوسطة، بمنف، غنيَّة بمن عُرِف من رجالها من أطبَّاء وكهنة وضُباط، وكان أبوه أول من ارتفع من الأسرة إلى مستوى السادة لشغله وظيفة «رئيس الجياد» في بلاط أمنحتب الثالث. وهو الرجل الوحيد من رجال إخناتون الذي احتفظ بوظيفته كقائد للحرس في العهد الجديد، ووُكل إليه بمهمة القضاء على الفساد في داخل البلاد وإعادة الأمن إلى رُبوعها، فأحرز في ذلك نجاحًا مرموقًا. وقد شهِد له كاهن آمون الأكبر، وصدَّق على ذلك الحكيم آي، بأنه كان بطل اللحظة الحرِجة في مأساة العهد البائد. استقبلني في قاعة استقباله المتَّصلة بحديقة القصر، وأنشأ يحدِّثني عن «المارق» قائلًا: كان رفيق صِباي، وصديقي، قبل أن يصير مليكي، ومذ عرفته وحتى الساعة التي ودَّعته فيها إلى الأبد لم يكن له ما يشغله في هذه الدنيا سوى الدين.
راح يستجمع أفكاره مليًّا، ثم استمرَّ قائلًا: أولَيته الاحترام الذي يستحقُّه مذ عرفته؛ ذلك أني رُبِّيت على تقديس الواجب، وعلى وضع الشيء في موضعه بصرف النظر عن عواطفي الشخصية، وكان هو وليَّ العهد، وكنت أنا أحد رعاياه، فلزِمني احترامه، أما باطني فقد احتقره؛ احتقرته لضعفه والأُنوثة الضاربة في وجهه وجسده، ولم أتصوَّر أن أكون له صديقًا حقيقيًّا، غير أن الواقع أنني صِرت صديقه بكل معنى الكلمة. وإني لأتساءل: كيف كان ما كان؟! ربما لأنني عجزت عن مقاومة عواطفه الرقيقة المهذَّبة ذات السحر النافذ. كان ذا مقدرةٍ عجيبة على اصطياد القلوب وأسر النفوس. ألم يهتف له الشعب وهو يدعوه إلى الكفر بآلهة الآباء والأجداد؟! وكنَّا — هو وأنا — على طرَفَي نقيض، فلم يمنع ذلك عواطفنا من أن تتجسَّد في صورة صداقة متينة، صمدت للأعاصير حتى ارتطمت آخر الأمر بصخرة لا تُقهر. إني أسمعه وهو يقول لي باسمًا: حور محب، أيها الوحش المُتعطش للدماء، إني أُحبُّك.
وعبثًا حاولت أن أعثر على شيءٍ مشترك بيننا. دعوته كثيرًا إلى الصيد، وهو رياضتي المفضَّلة، فكان يقول لي: لا تدنِّس الحب الذي ينبض به قلب الوجود.
لم يكن يُعجَب بالزِّي العسكري، فكان يرمق سروالي القصير وقلنسوتي وسيفي، ويتساءل مُتهكمًا: أليس عجيبًا أن يُدرَّب أناسٌ مهذَّبون على القتل ليحترفوه بعد ذلك؟
حتى قلت له مرةً: تُرى ما رأي جدك العظيم تحتمس الثالث فيما تقول؟
فهتف: جدي العظيم! أقام عظمته على هرم من جُثَث المساكين. انظر إلى صورته المنقوشة في جدار المعبد وهو يقدِّم القرابين من الأسرى إلى آمون، فأي جد عظيم، وأي إله دموي …
وقلت لنفسي إنه يُقبَل كصديق رغم شذوذ آرائه، ولكن كيف يجلس بها على العرش؟! لم أستطع أبدًا أن أهضمه كفرعون من فراعين مصر، ولم أتحوَّل عن رأيي هذا في أي وقت من الأوقات، ولا أستثني من ذلك أهنأ الأوقات وأحفلها بالسرور، بل لعله تبدَّى لعيني في تلك الأيام السعيدة أوغل في البُعد من هيبة الفراعنة ومجدهم الخالد. وحدث أن انتُدبت لتأديب بعض العُصاة، في طرف من أطراف الإمبراطورية، قائدًا لأول مرة لحملةٍ عسكرية. وهناك أحرزت نصرًا حاسمًا، فرجعت بالغنائم والأسرى، ونِلت الجزاء تكريمًا نبيلًا من مولاي أمنحتب الثالث. وهنَّأني الأمير بسلامة العودة، فدعوته لمشاهدة الأسرى. استعرضهم وهم وقوفٌ شِبه عرايا يرسُفون في الأغلال. رنا إليهم طويلًا، فنظروا نحوه مُستعطفين كأنما لمسوا الضعف في أعماق نظرته. وأظلَّت وجهَه غمامةُ كآبة، وقال لهم برِقَّة: اطمئنُّوا؛ فلن يمسَّكم أذًى!
وهاج خاطري؛ لأنني كنت على يقين من أنهم سيلقَون ألوانًا من التأديب حتى يتعوَّدوا على النظام والعمل. ولما رجعنا معًا سألني باسمًا: أأنت فخور بما صنعت يا حور محب؟
فقلت بصراحة: إني أستحقُّ ذلك أيها الأمير.
فتمتم في غموض: يا لها من مشكلة!
ثم ضحِك قائلًا في دعابة: ما أنت إلا قاطع طريق يا حور محب!
ذلك كان وليَّ العهد المرشَّح للجلوس على العرش. على ذلك فقد شدَّني إلى صداقته وحبه، وأغراني دائمًا بمتابعة أفكاره التي لم أتأثَّر بها قط، كمن يُتابع صوتًا غريبًا لا ينتمي للبشر. وما زلت حتى الساعة أتساءل في حَيرة: كيف صادَقته، وكيف أحببته؟! وبهذه المناسبة أذكُر مناقشةً دينية جرَت بيننا أيام خلوته بحديقة القصر الملكي. سألني: لماذا تصلِّي يا حور محب في معبد آمون؟
فأُخذت للسؤال، خاصةً وأنني لم أملك إجابةً تُرضيه أو تُرضيني. ولما وجدني صامتًا سألني: هل تؤمن حقًّا بآمون وما يُقال عنه؟
فتفكَّرت قليلًا ثم قلت: لا كما يؤمن الناس به!
فقال بجدية: إيمان أو لا إيمان، ولا ثالث بينهما.
فقلت بصراحة: لا أهتمَّ بالدين إلا باعتباره من تقاليد مصر الراسخة.
فقال بثقةٍ مُثيرة: إنك تعبد ذاتك يا حور محب.
فقلت بتحدٍّ: قل إني أعبد مصر.
– ألم يُساورك إغراء لمعرفة سر الوجود؟
فقلت بمرارة: إني أعرف كيف أمحق هذا الإغراء.
– يا لَلخسارة! وماذا فعلت من أجل روحك؟
فقلت مُتبرمًا بالمطاردة: إني أقدِّس الواجب، وقد شيَّدت لي مقبرة!
فقال مُتنهدًا: أتمنَّى يومًا أن تذوق سرور القُرب.
فتساءلت في دهشة: القرب؟!
– القرب من خالق الوجود الواحد.
فتساءلت في شيء من الاستهانة: ولمَ يكون واحدًا؟
فقال بهدوء: إنه أقوى وأجلُّ من أن يوجد شريك له.
ذلك الشاب المهزول الذي يتجنَّب القصر ويَهِيم بالحديقة، المُولَع بالأزهار والغناء والطيور مِثل فتاة مهذَّبة، لمَ لَم يُخلَق أنثى؟ لقد همَّت الطبيعة بأن تفعل ذلك، ولكنها عدَلت عنه في اللحظة الأخيرة لسوء حظ مصر.
وسكت حور محب وقتًا ثم واصَل الحديث: وتوكَّد مصيره بزواجه من نفرتيتي. ظهرت لأول مرة في القصر الفرعوني في الاحتفال بمرور ثلاثين عامًا على جلوس الملك على العرش، فبهرت الأعيُن بجمالها وشخصيتها، واشتركت في الرقص مع بنات السادة، وغنَّت بصوتٍ رخيم:
ولا أشكُّ في أن آي وتي زوجته أحسنا تقديم كريمتهما، ومهَّدا لها الطريق إلى العرش. ولا تنسَ أن آي كان معلِّم الأمير ومُرشِده، فلاحت له، ولا شك، الفُرص للتأثير في شخصيةٍ ضعيفة مُتهالكة وإيقاعها في الشَّرَك. على أي حال فازت نفرتيتي في الحفل بإعجاب الأمير وأمه الملكة تيى معًا. وسُرعان ما زُفَّت نفرتيتي إلى الأمير. وأذكُر أن كاهن آمون قال لي في حفل الزفاف: لعل الزواج يُصلح ما أفسده تهوُّر الشباب.
فقلت له ببرود: إنها كما ترى من أصلٍ شعبي، وما كانت تحلم بالعرش، ولن تُجازف أبدًا بإغضاب زوجها الملك!
وقد ساءلت نفسي: تُرى أكانت نفرتيتي ترضى بالأمير زوجًا لو لم يكن وليًّا للعهد؟! الحق أنه لا يمكن أن يكون فارس أحلام أي فتاة ولو كانت فلَّاحةً ساذجة. وقد ازداد الأمير بعد الزواج تحديًا للتقاليد. وعلِمت مُتأخرًا بعض الوقت بادعاءاته الغريبة عن تجلِّي إلهه له وسماع صوته، ورأيت المستقبل يتسربل بليلٍ بهيم. وبازدياد التوتر غضِب الملك أمنحتب الثالث وأمر بإرساله لزيارة الإمبراطورية.
•••
هنا حدَّثني بإسهاب عن مناقشاته الدينية، واتصاله بالرعايا، وتبشيره بالمساواة والحب والدين الجديد دون إضافةٍ جديدة إلى ما حدَّثني به الحكيم آي.
•••
وقال مُعلقًا على الأحداث: ولأول مرة، ورغم الصداقة والولاء، تمنَّيت أن أقتله بسيفي قبل أن يجلب علينا الخراب. والحق أني تمنَّيت قتله دون أن أُضمِر له أي شعور بالكراهية. ومات أمنحتب الثالث، واستُدعي الأمير للجلوس على عرش تحتمس الثالث. وتولَّى العرش، ودعا الرجال واحدًا في إثر واحد ليعرض عليهم دينه. ولما جاء دوري قال لي: لا بد من إعلان الإيمان بالإله الواحد لمن شاء أن يتعاون معي يا حور محب.
وبصراحتي المعهودة قلت له: مولاي، موقفي من الآلهة معروف لديكم، ولكني رجل الواجب وخادم العرش، وإني أعلن إيماني بالإله الواحد إخلاصًا لعرشك وخدمةً لوطني …
فقال باسمًا: حسبي ذلك الآن، لا أُحبُّ أن يخلوَ قصري منك يا حور محب، وسوف تتلقى رحمة الإيمان ذات يوم.
وبدأت حياةٌ جديدة في خدمة ملك جديد وإله جديد، وبإخلاصٍ كامل غريب؛ لأنه استند إلى الإيمان بالواجب وحده دون غيره. ولكن لا مفرَّ من الاعتراف بأن الملك تكشَّف عن قُوًى خفيَّة لم أعرفها فيه من قبل. رغم الضعف الجسدي والأنوثة الخلقية، انطلقت منه عزيمةٌ مُتحدية مِثل ألسنة اللهب لا تدري من أي مجهول استعارها، ناضَل بها أقوى الرجال وهم الكهنة، وحطَّم بها التقاليد العريقة الراسخة والسحر والتعاويذ. وتكشَّفت نفرتيتي عن ملكة كأنما لم تُخلَق إلا كي تكون ملكةً عُظمى مِثل تيى وحتشبسوت، فكانت هي المدبِّرة لشئون المُلك على حين تفرَّغ هو لرسالته. بيدَ أنها بدت لي — وللجميع — مؤمنةً بالدين الجديد إيمانًا فاق للأسف كل تصوُّر. والحق لقد قيل عن هذه المرأة كل ما يمكن أن يقال، وأنا أكره شخصيًّا ترديد ما يُقال عن الأمور الشخصية، ومع ذلك فإن إيمانها يبقى لغزًا يطلب حلًّا. أحيانًا لم أشكَّ في صِدقها، وأحيانًا أخرى ساوَرتني شكوك. هل تتظاهر بالإيمان محافظةً على مركزها الرفيع؟ هل تُشجعه عليه لتستأثر وحدها بشئون الأرض والرعايا؟ أكان لأبيها في ذلك دورٌ خفيٌّ لعِبه بيد ابنته؟ وقد حاوَل الكهنة أن يبصِّروها بالعواقب، ولكنها خيَّبت رجاءهم، فصبُّوا عليها مقتهم حتى هذه الساعة. إنهم آمنوا بضعف إخناتون، ولم يتصوروا به قدرةً على التحدِّي أو النِّضال أو الابتكار؛ من أجل ذلك اتَّهموا أمه تيى بأنها خالقة أفكاره، كما اتَّهموا نفرتيتي بأنها سر عناده وصلابته، وهي صورةٌ خاطئة. لك أن تدين الجميع، ولكن لا شك أن جميع الخُزعبلات قد خرجت من رأس إخناتون نفسه. وبالانتقال إلى العاصمة الجديدة أخت آتون أعلن الملك حربه على جميع الآلهة، وانغمس في التبشير لدينه في جميع الأقاليم. وهادَنتنا أيام نصر وسعادة ورخاء حتى خُيِّل إليَّ أن هذا الشاب المُتهافت قد قُيِّض له أن يقوِّض بُنيان الدنيا، وأنه يُعيد بناءه من جديد على مثال من صنعه وتخطيطه. تابَعت غزواته للأقاليم، واستقبال الجموع له بانبهار. آنست في الجو قوةً من نوعٍ جديد تُمارَس بجدارةٍ مُذهلة، ولكنني لم أخلُ أبدًا من شك في العالم الجديد الذي يتخلق فيما يُشبه الاكتساح. أيصمد هذا العالم للزمن؟ هل يمكن أن تتوازن الأمور على سنة الحب والسلام والسرور؟! وأين تذهب حقائق الحياة وتجارِبها؟ وقالت لي نفرتيتي مرةً وهي قارئة للأفكار: إنه مُلهَم، ولن يخذله إلهه الذي أغدق عليه حبه، وسيكون النصر لنا …
وانفردت يومًا بالوزير ناخت في مجلس صفو وشراب، وكنت وما زِلت مؤمنًا بمقدرته السياسية، فسألته: أتؤمن حقًّا بالإله الواحد؛ إله الحب والسلام؟
فقال بهدوء: نعم، ولكني لست مع مصادرة الآلهة الأخرى.
فقلت بارتياح: حلٌّ وسط، ألم تُشِر عليه به؟
– بلى، ولكنه يعتبره كفرًا.
– ونفرتيتي؟
فقال بأسف: إنها تتكلم بلغته …
•••
ومضى يحكي لي في إسهابٍ كيف انقلبت الأمور في الداخل والخارج دون إضافة جديدة لما قاله الكاهن الأكبر لآمون أو الحكيم آي.
•••
ثم قال: وعند ذاك نصحته قائلًا: «علينا أن نغيِّر من سياستنا.» ولكنه كان يتصدَّى لأي خطوة توحي بالتراجع، وينتشي بالحماس، فقال لي: يجب المُضيُّ في المعركة الإلهية حتى نهايتها، ولن يكون لها إلا نهايةٌ واحدة هي النصر!
وربَّت على منكبي بعطف، ثم واصَل: لا تُشارك التُّعساء إصرارهم على حب التعاسة!
ولما ازدادت الحال سوءًا تمنَّيت مرةً أخرى أن أقتله بسيفي وأُنقذ البلاد من جنونه، وتمنَّيت أن أقتله باسم الحب والولاء. وتبيَّن لي أن ما حسِبته قوةً جبَّارةً تنطلق من أعماق هيكله الضعيف ما هي إلا جنونٌ أهوج يجب حصره وشكمه. وعند ذروة الأزمة زارتنا الملكة الوالدة تيى، واستدعتني إلى لقاء بقصرها جنوب أخت آتون، وقالت لي: سيكون لي حديثٌ طويل مع الملك.
فقلت لها بكل إخلاص: لعلك تُوفَّقين فيما فشلنا فيه.
فرمَقتني بنظرةٍ كنت خبيرًا بعمقها، وسألتني: هل دفعتك الأحداث إلى مصارحته برأيٍ جديد في الموقف؟
فأجبتها من فوري لسابق علمي بتأويلاتها للتردُّد الذي قد يسبق الإجابة: اقترحت يا مولاتي تغيير السياسة في الداخل والخارج.
فقالت بارتياح: هذا ما يُنتظر من المُخلِصين أمثالك.
– إنه مليكي وصديقي كما تعلمين يا مولاتي …
فواجَهتني بنظرةٍ صريحة وسألتني: هل تعِدني يا حور محب بالمحافظة على الولاء له في جميع الظروف والأحوال؟
فقلت وعقلي يعمل بسرعةٍ فائقة: أعِدك بالولاء له مهما تكُن الظروف والأحوال.
فقالت بارتياحٍ غير خافٍ: إنهم يُطالبون برأسه، وإنك رجل القوة التي تُحافظ عليه، وربما سعَوا إلى استقطابك عاجلًا أو آجلًا.
فكرَّرت وعدي بالصدق والإخلاص. وقد حافظت على عهدي عندما اقتنعت بأن خير وسيلة للدفاع عنه هي التخلِّي عنه. وفشلت تيى في مَسعاها رغم ما عُرِف عنها من سيطرةٍ كاملة عليه، وغادرت أخت آتون لتموت في حسرةٍ أبدية. وضُيِّق الخناق علينا في مدينة الإله الجديد، وتوكَّد لديَّ أن الإله الجديد عاجزٌ عن الدفاع عن نفسه فضلًا عن محبوبه المختار. وذُقنا الحرمان، وتهدَّدنا الموت من الشمال والجنوب، ولم يُضعف ذلك من مقاومته، بل لعله زاده إصرارًا وعنادًا، ولم تنطفئ نشوته الدينية، فكان يقول لمحدِّثه: لن يخذلني إلهي يا ضعيف الإيمان.
وكلما رأيت وجهه المتألِّق بالنشوة والثقة، أيقنت أكثر وأكثر من جنونه. لم تكُن معركةً دينية كما تجري في الظاهر، ولكنها كانت فوضى جنونيةً تحتدم في رأس رجل وُلِد في هالة من الشذوذ. ثم كانت زيارة كاهن آمون لنا وتوجيه إنذاره الأخير إلينا، وقد قبض على يديَّ بقوة وقال لي: إنك رجل الواجب والقوة يا حور محب، فأنقِذْ ضميرك بفعل ما يُرجى منك.
والحقُّ أني أكبرت في الرجل ارتفاعه عن التشفِّي والانتقام، وسعيه إلى تجنيب البلاد ويلات المزيد من الخراب. وطلبنا المقابلة. كانت عسيرة وأليمة وحزينة. كنا ننفض عنا الولاء نحو الرجل الذي لم يكُن لشيءٍ سوى الحب الذي صوَّر له جنونه حِلمًا عجيبًا أراد لنا أن نُشاركه في سعادته الوهمية. واقترحت عليه إعلان حرية الأديان، والدفاع الفوري عن الإمبراطورية. ولما رفض اقترحت عليه أن يتخلى عن العرش ويتفرغ لنشر دينه. وغادَرناه ليُعيد النظر في الموقف كله، وقد أشرك سمنخ رع في عرشه على حين هجرته نفرتيتي، ولكنه لم يتراجع خطوةً عن إصراره. وقرَّرنا التخلِّيَ عنه والانضمام إلى الجانب الآخر لتعود الوحدة للوطن، بعد الاتفاق على ألا يتعرض له أحد — ولا لزوجه — بأذًى. وأقسمت يمين الولاء للملك الجديد توت عنخ آمون، فأُسدِل الظلام على أكبر مأساة تقطَّع لها قلب مصر، فانظر إلى ما صنع الجنون بمجد أرض مجيدة عريقة!
وشمِلنا صمت الختام، فأخذت أنسِّق أوراقي تأهُّبًا للذهاب. غير أنني سألته: وكيف تفسِّر هجر نفرتيتي له؟
فأجاب دون تردُّد: لقد أدركت ولا شك أن جنونه جاوَز خط الأمان، فهجرت قصره محافظةً على حياتها!
– ولمَ لم تهجر المدينة معكم؟
فقال بازدراء: كانت على يقين من أن الكهنة يعتبرونها الفاعل الأصلي في الجريمة الكبرى!
فسألته وأنا أحيِّيه مودِّعًا: وكيف مات؟
– عجز ضعفه عن احتمال الهزيمة، واهتزَّ إيمانه ولا شك بتخلِّي إلهه عنه، فمرِض أيامًا قليلة ثم مات.
فسألته بعد شيء من التردد: كيف تلقَّيت خبر موته يا سيدي القائد؟
فأجابني مُتجهمًا: لقد قلت كل شيء!