بك
يعيش المثال بك في جزيرةٍ نيلية على مَبعدة ميلَين جنوب طيبة، في بيتٍ أنيق صغير يقع في وسط مزرعته الصغيرة، وفي شِبه عُزلة. ورغم ما يُشهَد له به من تفوُّق في فنه إلا أنه لم يُدع للمشاركة في بناء الدولة الجديدة لما عُرِف عنه من ولائه لسيده السابق، بل ولما يُتَّهم به أحيانًا من الكفر بالآلهة القديمة. وهو اليوم يُشارف الأربعين من عمره، طويل القامة نحيلها مع قوة ونشاط، ذو سُمرةٍ داكنة ونظرةٍ ساخنة تغشاها كآبة. تبسَّم وهو يقرأ رسالة أبي، ثم نظر إليَّ قائلًا: انطفأت روح الجمال بذهابه، وغاض السرور من الألوان والنغم!
وقد عرفته وأنا صبيٌّ أتلقَّى أصول الصنعة في مدرسة أبي «من» المثال الأكبر للملك أمنحتب الثالث؛ فذات يوم زارَنا صبي محمولًا على مِحفَّة، فهمس أبي في أذني: وليُّ العهد!
رأيت صبيًّا يُماثلني في العمر، نحيلًا ضعيفًا، ذا نظرةٍ شديدة التأثير، بسيطًا بشوشًا، مُغرَمًا بلغة الأحجار المعجزة. جاء ليُشاهد ويتعلم، ويُحاور في أُلفةٍ محبَّبة سُرعان ما تُنسيك أنك تُحادث ابنًا من سلالة الآلهة. واظَب على زيارتنا في أيامٍ معيَّنة، فنشأت بينه وبيني صداقة، بارَكها أبي فخورًا، وسعدت بها أنا غاية السعادة. وجعل أبي يقول لي عنه: إنه رجلٌ ناضج ذو سنٍّ صغيرة يا بك!
أجل كان كذلك، حتى كاهن آمون الأكبر اعترف لي بنضجه المبكِّر، وإن فسَّره على هواه بأنه قوةٌ شِرِّيرة حلَّت فيه. كلَّا يا سيدي، القوة الشريرة معشِّشة في قلوب الكهنة، أما سيدي ومولاي فلم يعرف الشر قلبه، وربما كان ذلك سر مأساته. ولما تقدَّم به العمر سنواتٍ أخذ يُناقش أبي وهو مُكبٌّ على صنع تمثال لأمنحتب الثالث. قال له وهو يُتابع العمل بين أبي ومُعاونيه: لكم تقاليد يا معلِّم تخنق الأنفاس …
فقال أبي بفخار: بالتقاليد نقهر الزمن أيها الأمير.
فهتف مولاي بنشوة: مع مَولد كل شمس يولد جمالٌ جديد …
واقترب مني وهمس: يا بك، لن يكون هذا تمثالًا أمينًا لأبي، أين الحقيقة؟!
الحقيقة التي عاش من أجلها ومات في سبيلها. منذ وقت مبكِّر انثالت على روحه إلهامات الغيب، كأنما خرجت معه إلى الوجود ساعة وُجد دفقة من أنوارها.
ويومًا ما قال لي: إني أُحبُّك يا بك، أتقِنْ درسك لتكون رجلي في حقل الإبداع.
الحق يا سيدي أنني مَدِين لمولاي وسيدي بكل شيء؛ بالدين والفن معًا. إنه الذي وجَّه مداركي لدين آتون، وفتح قلبي بعد ذلك للإله الخالق الواحد الذي تجلَّى له صوته بالإيمان والحب:
وغمرني السلام، فقلت له ونحن وحيدان بين المَحجر والمدرسة: أشهد يا أميري أنني مؤمن بإلهك …
فقال بحُبور: إنك ثاني المؤمنين بعد مري رع، ولكن ما أكثر الأعداء يا بك!
وعلِمت فيما بعدُ أن نفرتيتي آمنت معنا في وقتٍ واحد وهي في قصر أبيها آي. وكان يحدِّثني في أوقاتٍ مُتباعدة عمَّا يَلقى من عناء بسبب رسالته، فكنت ألمُّ بشذراتٍ من الأحداث رغم عُزلتي في المَحجر خارج طيبة. وهداني إلى الفن الحقيقي أيضًا؛ فإن كان أبي هو الذي علَّمني الأصول فمولاي هو الذي وهبني الروح. لقد وهب ذاته للحقيقة في الوجود والفن؛ من أجل ذلك أنكره الرجال الذين يعيشون للدنيا ولا يُحسنون إلا لغتها المُبتذلة، ويُقبِلون معها ويُدبِرون معها، ويهرعون إلى أي مائدة مِثل الصقور والغِربان. مولاي نوعٌ آخر، اسمع إليه وهو يُناجي إلهه قائلًا: يا خالق الحي والجماد، خُص بصري بنورك، وصدري بسرورك، وقلبي بنبضك الكوني العذب.
وأصغِ إليه وهو يقول لي: احذر تعاليم الفن التي يريد أن يكبِّلنا بها الأموات، اجعل حجرك مثوًى للحقيقة!
ويقول لي أيضًا: لقد خلق الإله الأشياء فلا تعبث بها، انقلها بأمانة، أبرِزْها بتقوى، لا تُسلط عليها الخوف أو الشهوة أو الأماني الكاذبة، اعكس كل ما بي من نقص في الوجه والجسد ليتجلَّى جمالك في الحقيقة!
ذلك هو مولاي وأستاذي الذي لا يُعيد نغمةً قديمة، الذي يبهر بالجديد الحي، محطِّم الأوثان، مُقتلع التقاليد البالية من جذورها، السابح في بحر المجهول، المُنغمس في نشوة الحقيقة. ويوم اعتلى العرش أعلنت إيماني مرةً أخرى بين يدَيه، وتقلَّدت وظيفة «المثال الأكبر للملك». ويوم أمره الإله بالهجرة إلى المدينة الجديدة، ذهبت على رأس ثمانين ألفًا من العمال وأهل الصنعة لنشيِّد أجمل مدينة عرفتها الأرض؛ مدينة النور والإيمان، أخت آتون، ذات الشوارع العريضة، والقصور السامقة، والحدائق الغنَّاء، والبُحيرات المُترَعة، آية آيات الفن والجمال التي انقضَّ الحقد عليها فوقعت فريسة الكهنة والزمن.
وسكت مُرغَمًا ليجتر حزنه المُقيم على رائعة حياته التي تتهاوى ساعةً بعد أخرى، وتتفتَّت لتضيع في زحمة تراب الأرض. واحترمت سكوته حتى خرج منه قائلًا: وكان لمولاي إنجازه في الفن أيضًا فأبدع شعرًا ورسمًا، وجرَّب أصابعه الطويلة الرشيقة في مُناجاة الحجر. وإليك سرًّا لا يعرفه إلا الأقلُّون؛ فقد نحت لنفرتيتي تمثالًا نصفيًّا آيةً في الحقيقة والجمال، لعله يوجد الآن في القصر المهجور أو في قصر نفرتيتي، إن لم تكُن انتقمت منه يد التخريب. وعندما هجرته الملكة بغتةً مخلِّفةً في قلبه طعنةً لا تندمل، طمس عين التمثال اليسرى، مُعرِبًا عن خيبة أمله مع الإبقاء على بقية التمثال رمزًا لحبٍّ خالد، وإيمان راسخ لم يتزعزع إلا في لحظة يأس أخيرة. لقد كانا معًا الرمز الحي للإله الذي هو أب وأم معًا، وكان اتحادهما عن حبٍّ جليل ثبت أمام عواصف الزمن والأحداث، فكيف دهمتنا بهجر الرجل في اللحظة الأخيرة؟! لمَ لم تبقَ إلى جانبه حتى النهاية؟ لقد اتَّهمها أعداؤها بأنها هربت من السفينة الغارقة لتجد مكانًا مُناسبًا في الدولة الجديدة، ولكنها لم تخطب مودَّة أحد، ولزِمت قصرها بمحض مشيئتها قبل أن يتحول إلى سجن. كلا، لا تنتمي مولاتي إلى الانتهازيين، ولكني أعتقد أن إيمانها اهتزَّ لموقف الإله اللامُبالي من الأحداث، فهجرت العرش والعقيدة في ساعة يأس سوداء. أما مولاي فلم يتزحزح عن إصراره قيد حبَّة رمل. كيف لا وهو الذي تجلَّى الإله لروحه، وأسمعه صوته، ودعاه بابنه الحبيب؟! لم يعُد وجدانه يتَّسع لسماع صوت آخر، ولم يعُد يكترث لرأي أو نصيحة كما ينبغي لمُنغمس في الحقيقة. وهو لم ينهزم، ولكننا نحن الذين انهزمنا؛ فحتى أنا خامرتني شكوك، خاصةً بعد مطالبته بالتنازل عن العرش، وأكثر عندما قرَّر الجميع التخلِّيَ عنه، وجدته واقفًا في خلوته يرقُب ما يحدُث بعينَين طافحتين بالهدوء والصمت. ولما رآني قال: سوف تذهب معهم يا بك.
فقلت بغضب: لم يجرؤ أحد على مخاطبتي في ذلك يا مولاي.
فقال باسمًا: ولكنك ستذهب يا بك.
فقلت بحماس: سأبقى إلى جانب مولاي إلى الأبد.
فقال برِقَّة: تذهب مُختارًا أو مُكرَهًا …
ولُذت بالصمت، فخامَرني الشك من جديد، فسألته: مولاي، أيمكن أن ينتصر الشر؟
فرأيته يغيب ثم يرجع ليقول لي: الخير لا ينهزم، والشر لا ينتصر، ولكننا لا نشهد من الزمان إلا اللحظة العابرة، والعجز والموت يحولان بيننا وبين رؤية الحقيقة.
وراح يترنَّم بصوتٍ عذب:
وكما أنه لم يتخلَّ عن إيمانه لحظةً فلم يفرِّط أبدًا في ناموسه الأسمى وهو الحب؛ فحتى في تلك الساعة التي رأى فيها الهرم الذي شيَّده يتهاوى حجرًا في إثر حجر، ورجاله ينضمُّون إلى أعدائه، وزوجته المحبوبة تهجره دون كلمة وداع، حتى في تلك الساعة المنحوسة لم يعرف قلبه الكراهية أو الحقد، ذلك الرجل الذي ترفَّع حتى عن العِقاب المشروع الذي هام بالإنسان والحيوان والجماد. انظر يا سيدي، لقد تولَّى الملك في عصر الرخاء، دانت له إمبراطوريةٌ مُترامية وشعبٌ مُحبٌّ مُطيع، ولو شاء أن ينعم بالسعادة والجلال والنساء والراحة لما عزَّت عليه، ولكنه أعرض عن ذلك كله، واهبًا ذاته للحقيقة، مُتحديًا قُوى الشر والأنانية والطمع، فضحَّى بكل شيء وهو يبتسم. وقد سألته يومًا بعد أن ذرت قرون الشر والهمجية: مولاي، لمَ لا تلجأ إلى القوة دفاعًا عن الحب والسلام؟
فقال لي باسمًا: لا يتردد المُجرمون عن انتحال الأعذار لإشباع الرغبة الآثمة في البطش وسفك الدماء، ولست منهم يا بك.
ولن أنسى عطفه على شخصي حينما آنس مني ميلًا إلى «موت نجمت» أخت زوجته، فسعى إلى تزويجي منها، وكيف واساني عندما أبت الزواج مني قائلًا: إنها مِثل الحِدأة تنتظر فرصتها!
واستفسرت عما يعنيه قوله، ولكنه لم يزد. وقد صمَّمت على البقاء بجانبه رغم فزع المدينة كلها للهجرة، ووجدت رفيقًا مُصممًا في كاهن الإله الواحد مري رع، ولكن الحكيم آي قابلني وقال لي: إننا نُهاجر لصدِّ هجوم لا قِبل لنا به دفاعًا عن حياته، ولو جاز لإنسانٍ أن يبقى إلى جانبه لكنت ذلك الإنسان؛ فإني حموه ومعلِّمه!
فقلت: أيها الحكيم، إن بقائي لن يغيِّر من الأمر شيئًا.
فقال: ينصُّ الاتفاق بيننا وبين الكهنة على ألا يُمَس الملك بأذًى تحت شرط ألا يبقى أحد من أتباعه في المدينة سوى نفر من الخدم.
هكذا اضطررت إلى الانضمام إلى القافلة وقلبي يتمزَّق، وما زال يتمزق حتى الساعة. وما زال الشك ينخر في إيماني رغم قول مولاي الحكيم، فأحيانًا أصلِّي للإله وأحيانًا أُضرب عن الصلاة. ولما بلَغني نبأ وفاته تجدَّدت أحزاني، وبكيت حتى صفَّيت ماء عيني. وقد حدَّثني قلبي بأنه لم يمت، ولكنهم قتلوه بالسحر أو بوسيلةٍ غادرة. وها أنا أعيش بلا هدف أو سرور في انتظار الموت مِثل مدينتي الرائعة الواقعة تحت رحمة الكهنة والزمن.