عبد الحميد في سجن الآستانة
المشهد الأول
يرفع الستار عن جماعة من السجناء وبينهم خورشيد وسليمان وفهيم،
بعضهم يلعب بالورق والآخرون يتحدثون ويضحكون، وهنا أحدهم مستلق على ظهره، وهناك آخر
جالس وحده يتأمل يديه، وفي مؤخر المسرح حيدر باشا يتمشى والهموم تثقل جبينه، ثم يجلس
في
الزاوية معتزلًا.
(يدخل محمود.)
محمود
:
أعلمتم أيها الإخوان أن الاتحاديين خلعوا السلطان؟
خورشيد
:
عبد الحميد خان؟
محمود
:
نعم خان!
سليمان
:
ولماذا خلعوه؟
محمود
:
يا غليظ، أما سمعتني أقول: إنه خان؟ خان الأمة، خان الدين، خان الوطن.
خورشيد
:
حسنًا يفعلون، ولكننا نحن المجرمين لا نخلعه؛ فهو سلطاننا إلى الأبد.
محمود
:
أي نعم، سلطان المجرمين.
الكل
:
إي والله هو سلطان المجرمين.
خورشيد
:
وأين هو الآن؟
محمود
:
قيل إنه نقل إلى قصر في سالونيك.
خورشيد
:
ولمَ لمْ ينقلوه إلى قصرنا هنا؟
محمود
:
وهل يقيم السلطان ورعيته في بيت واحد؟
خورشيد
:
ولكن في قصرنا هذا الفخم غرفًا كثيرة.
سليمان
:
وما ضره لو أقام معنا وعاش مثلنا وأكل من أكلنا؟ أللسلطان معدتان يا
ترى؟
محمود
:
يا لك من أرعن جاهل! ألا تعلم أن من يقتل البشر بالمئات تعد له الأمة القصور
الفخمة، تهابه وتكرمه، ومن يقتل الناس بالألوف تمجده وتنصب له التماثيل؟ فمن
أنت بالنسبة إلى هؤلاء السفاكين الكبار والفاتحين العظام ليخطر في بالك الإقامة
معهم؟ كم مخلوقًا قتلت في حياتك؟
سليمان
:
واحدًا فقط.
محمود
:
اسكت إذن؛ فإنك لا تستحق أكثر من ست أقدام مربعة في هذا السجن، وكسرة من
الخبز في قليل من الماء الفاتر المالح كل يوم.
سليمان
:
آه! أين الإنصاف أيها الناس؟ وإنني أحلف أمامكم وأمام الله أنني أكلت أصابعي
ندامة على الإثم الذي اقترفته.
محمود
:
وماذا ينفعك أكل أصابعك؟ كل سلاسلك يا سليمان لعلك تتخلص منها ومن
السجن.
خورشيد
:
وهل عبد الحميد الآن في السجن بسالونيك؟
محمود
:
هو في قصر هناك كقصر يلدز تسميه الأمة سجنًا؟
فهيم
:
لعنة الله على هذه الأمة! ما النفع إذن من خلع السلطان؟
محمود
:
لا تصرف غيظك سدًى يا فهيم، إن في خلع عبد الحميد منافع جمة لنا وللأمة؛
فغدًا يعفو السلطان الجديد عن المجرمين.
فهيم
:
ليحبسوا عبد الحميد معنا، وليحبسوا عنا عفوهم؛ هذا عندي عين العدل
والإنصاف.
محمود
:
أما إذا عُفي عنا فنحن اليوم أفهم مما كنا بالأمس، قد تعلمنا أمثولة جديدة
(يحدث في السجن جلبة وغوغاء)، اسمعوا —
إذا كنتم تحبون أن تنتفعوا من خلع عبد الحميد — عندي نصيحة أقدمها لكم مجانًا؛
فإن اتبعتموها …
سليمان
:
ما هي؟
الكل
:
ما هي؟ قل ما هي؟
محمود
:
غدًا يصدر السلطان الجديدة عفوه الشامل؛ فنصير نحن أحرارًا كبقية الأحرار في
الدولة، ونسير توًّا إلى سالونيك … (قهقهة
وضجيج) ألا تريدون أن تسمعوا؟
سليمان
:
أنا لا أذهب إلى سالونيك.
محمود
:
لك أن تذهب حيث تشاء بعد أن تصير حرًّا، لعنة الله على كل جبان. اسمعوا أيها
الإخوان: إذا عدتم بعد أن تصيروا أحرارًا إلى حرفتكم الشريفة؛ فأحسنوا القتل،
القتل! وإلا فلا! افتكوا ولا تُصغوا إلى ما يسميه الأتقياء صوت الضمير، اقتلوا
ولا تعيروا أذنكم إلى ما يدعوه الشعراء المغرورون صوت أطفال القلوب، كونوا من
الفاتكين، من الشجعان، ولا تندموا في الصباح على ما ترهق خناجركم من الدم في
الليل. لكم متى صرتم أحرارًا أحد أمرين: فإما أن تهتدوا وتصلحوا حالكم؛ فتصيروا
مؤذنين وقارئين ومعلمي أولاد، وإما أن تضربوا في الأرض وتفتكوا في الناس؛
فتصيروا من كبار السفاكين المشهورين المحترمين؛ إذ ذاك تهابكم الأمة، وتكرمكم
الحكومة، وإذا سقط نجمكم في نهاية أمركم، وانتصرت الإنسانية عليكم أو العبودية،
فتسجنكم الأُمَّة في القصور الفخمة لا في الأكواخ المنتنة المظلمة، وتصرف عليكم
من الأموال في الشهر ما يكفي الواحد منا طول حياته!
سليمان
:
وهل يصرفون هذه الأموال على عبد الحميد الآن؟
محمود
:
وهل يكتفون بها؟ ألا تحسب أجرة القصر، وأجرة الحرس، وأجرة الخدم
والخصيان؟
خورشيد
:
ولمَ الخصيان؟
محمود
:
لأن الحكومة المحترمة الرقيقة القلب ما أحبت أن تحرمه حريمه؛ فأذنت له باثنتي
عشرة امرأة يقمن معه في القصر.
خورشيد
:
ما أعدل هذه الحكومة، وما أرحمها! مسكين خورشيد! ومسكينة امرأته!
محمود
:
وقد أذنت هذه الحكومة بأن يصحبه كذلك نجله الصغير فلا ينقصه شيء من دواعي
التعزية والسلوان.
(عند هذا يقف حيدر باشا وقد لاح على وجهه الاضطراب.)
حيدر
:
هو وحريمه وابنه يقيمون اليوم في قصر ألاتيني محفوفين بالخدم والخصيان،
متوسدين الريش والحرير، آكلين من مال الأمة التي امتصوا دماءها، واستعبدوا
أبناءها! وهل هذا يا ترى ما يدعوه الناس اليوم مساواة؟ هل هذا هو العدل يسقوننا
منه بالجرة ويسقون غيرنا منه بالملعقة؟! أيجوز أن يكون في الحكومة ميزانان
للعدل: ميزان للمجرمين الكبار، وميزان للصغار؟
الكل
:
لا والله لا!
سليمان
:
ولكن حكومتنا اليوم حكومة دستورية، فلماذا تعامل عبد الحميد هذه
المعاملة؟
محمود
:
لأن حكومتك الدستورية تخاف أن تقتله، بل تخاف أن تحاكمه.
فهيم
:
وهل تخاف الحكومة من رجل واحد؟
محمود
:
نعم، متى كان هذا الرجل سلطانًا بفضل الخرافات والأوهام كعبد الحميد.
سليمان
:
وما الفرق بين السلطان المجرم وبيني مثلًا؟
محمود
:
قلت لك أيها الأرعن الغليظ: إن الفرق بينك وبين مولاك هو كالفرق بين من يذكر
الله ويذبح كل يوم، ومن يقترف مرةً إثمًا صغيرًا ويأكل أصابعه ندامة
كالجبان.
سليمان
:
والله إذا خرجت من السجن غدًا لأقتلن في يوم واحد مائةً من الباشاوات كي لا
يقال عني: إنني مجرم صغير.
فهيم
:
لا تكلف نفسك كل هذا، فإذا كنت حقًّا شجاعًا فدونك الباشا الذي معنا؛ فهو من
الذين كانوا يذكرون الله ويذبحون.
الكل
:
اقتلوه …
(عند هذا تعلو ضجة السجناء، فتُطفأ الأنوار على المسرح، ويرفرف
فيه طائر جميل أبيض كالثلج له جناحان يشعان كنور الشمس حين شروقها، فيرف هذا الطائر
فوق رأس حيدر باشا، ويستقر عليه، فينير وجهه، ويضرم النار في حاجبيه، فيسقط إذ ذاك
عن الباشا ثوب السجين، ويبدو للعيان في هالة من النور كمشير من مشيري الدولة وقد
لبس ثوبه العسكري واستل حسامه.)
حيدر
:
اتبعوني، وإن شئتم بعد ذلك فاقتلوني.
(يخطو خطوة نحو الباب، فيسقط حائط السجن أمامه كما لو كان من
نسيج العنكبوت وقد نفخت فيه الرياح، ثم يخرج ويخرج السجناء معه.)
المشهد الثاني
غرفة في قصر ألاتيني بسالونيك منيرة بالشموع. عبد الحميد جالس على
الديوان ونجله الصغير إلى جانبه ونعمت بين يديه.
نعمت
:
ما لي أراك مضطربًا يا مولاي؟ خفف من روعك واصرف عنك الهواجس
والأوهام.
بدر الدين
:
أين هو الخيال يا أبتِ؟ وفي أي شكل بدا لك؟ هل هو كبير، طويل، أسود اللون
كالمارد في القصة التي قصتها عليَّ نجم العيون؟
نعمت
:
لا تذكر الآن هذه الأشياء، ألا تراه مضطربًا قانطًا حتى الموت … مولاي، أتأمر
بالانصراف، أتريد أن تكون وحدك؟
عبد الحميد
:
لا، لا، لا.
نعمت
:
إذن، تعطَّف على عبدتك بابتسامة، وارفع عن عينيك غشاوة الوهم؛ إنك الآن أحسن
من ذي قبل، فقد ارتحت في الأقل من هموم السلطنة التي كانت تؤرقك، وتسقيك مرَّ
العذاب.
عبد الحميد
:
ولكنني أخاف أن يقتلوني.
نعمت
:
كيف يكون ذلك وقد قرروا ألا يحاكموك؟
عبد الحميد
:
أخشى الغدر، أخاف أن ﯾﻘ … يا الله!
(يدخل حيدر باشا في شكل خيال وقد تنكر برداء أسود، فتأخذ
الأنوار في الانطفاء رويدًا، ويعم المسرح الظلام ساعة ينتهي حيدر من كلامه.)
عبد الحميد
:
ما بالك تتبعني؟ ماذا تريد؟ ومن أنت؟ تكلم، تكلم!
نعمت
:
ماذا جرى يا مولاي؟ من هذا الذي تكلمه؟ إلى متى تظل أسير هذه الأوهام؟
عبد الحميد
:
ألا ترين؟ هناك، هناك. انظر يا ابني، هذا هو الخيال اللعين.
بدر الدين
:
أين يا والدي؟ أين هو؟ أحب أن أراه، أنا لا أخشاه يا والدي.
عبد الحميد
:
هو ذا، هو ذا يدنو منا. ماذا تريد؟ ماذا تريد مني؟
حيدر
:
كلمةً، يا عبد الحميد.
عبد الحميد
:
تكلم، تكلم.
حيدر
:
هي لعبد الحميد لا لسواه …
(يشير إلى نعمت وبدر الدين.)
عبد الحميد
:
حسن، تكلم.
(حيدر يشير ثانية إلى نعمت والولد، فيأمرهما عبد الحميد
بالانصراف.)
عبد الحميد
:
اذهب معها يا بنيَّ.
بدر الدين
:
ولكنني أحب أن أرى هذا الخيال الذي يشغل بالك، ويقلق راحتك، أحب أن أراه، أنا
لا أخشى الخيال، لا والله لا أخشاه. آه، أين سيفي الآن؟!
عبد الحميد
:
اذهب، اذهب مع نعمت يا بني … تكلم الآن، ولا تدنُ مني.
حيدر
:
لا تخف، إنما أصغِ لكلامي وأجبْ عليه. كان لأحد الشيوخ الكبار في إحدى
القبائل الهمجية نهمة غريبة في سرقة الأطفال وذبحها، وكان له أعوان وجواسيس
يعملون بإشاراته، ويحترمون غريب شهواته، ولما استفحل أمره ولم يبقَ في القبيلة
رضيعٌ قامت الرجال والنساء على هذه الزمرة اللعينة، وألقت القبض على الشيخ،
وعلى كل رجاله وجواسيسه، فقتلت منهم صغارهم ونفت كبارهم وسجنت أقاربهم
وأنصارهم. أما الشيخ، فإجلالًا لمقامه وعملًا بأمر كهان القبيلة أقاموه حاكمًا
عليهم بعد أن ندم أمام الكاهن والناس على آثامه كلها، ووعدهم ألا يقترف مثلها
في المستقبل، فأثارت هذه المعاملة خواطر السجناء الأبرياء، وقاموا يطالبون بدمه
باسم أطفال الإنسانية، وما انفكوا حتى فازوا فأراحوا القبيلة من شيخها السفاح
الجبان ومن شركائه الكهان. فما قولك يا عبد الحميد في مثل هذا العمل؟ أعدلٌ
يُعدُّ أم لا؟
عبد الحميد
:
وما معنى قولك هذا؟
حيدر
:
إذا أبت الأمة قتل شيخها السفاح …
عبد الحميد
:
وهل تريد قتلي؟
حيدر
:
أنا أحد عبيدك المخلصين يا مولاي، أنا أحد وزرائك الذين خدموك ليل نهار،
ودفعوا عنك مرارًا دسائس الأشرار، أنا الذي شربت من دم الأبرياء من أجلك، أنا
الذي أكلت فلس الأرملة احترامًا لأهوائك، أنا الذي نهب العباد ليرضي سيد
العباد. أواه! أنا الذي أعمى الله البصر منه والبصيرة فجعلني من أصفياء عبد
الحميد، أنا أحد تلك الآلات الصماء بيد الجبار الجزار. نعم، كنت آلة في الأمس
وسأصير عليك غدًا نكالًا، أنا الآن آكل خبز الذل والهوان مع المجرمين، وأنت
سيدي، وليُّ أمري، مالك عنقي، تتنعم اليوم في ألاتيني، كما كنت تتنعم أمس في
يلدز؛ ذلك لأن الجهل لا يزال سائدًا في الأمة، والظلم لا يزال مؤيدًا في
الحكومة؛ ذلك لأن الشرع يقدس شخصك، ويرذل من أجلك أمة بأسرها؛ ذلك لأن التقاليد
الخبيثة الفاسدة تعزز مقامك، وتذل شأن الوطن والحكومة؛ ذلك لأن التعصب الديني
والجنسي لا يزال قابضًا على الصولجان في ديوان العدل والإنصاف؛ ذلك لأن …
(عبد الحميد يستوي واقفًا ويهم بالخروج)
… مكانك يا عبد الحميد! أود والله لو تجسدت فيك هذه الشرائع، وهذه التقاليد،
وهذه العادات، وهذه الأنظمة والقوانين كلها فأشدُّ على عنقك بيدي وأريح العالم
منك ومنها معًا. (عبد الحميد يحاول الخروج فيرى الباب
مقفلًا) عبثًا تحاول ذلك، فإذا كانت الحكومة تخاف أن تحاكم عبد
الحميد — إذا كانت الأمة تخاف أن تقتل عبد الحميد — فلست أنا الآن من هذه الأمة
ولا من تلك الحكومة، أنا خارج الشرع يا عبد الحميد، أنا تحت القوانين والأنظمة،
بل أنا الآن فوقها، أنا فوقها؛ لأنني مجرم سلاحي الحق، أنا رجل أثيم حقير يا
مولاي جئت الآن أغمس سيفي في دم سلطان المجرمين.
عبد الحميد
:
إليَّ! إليَّ! خنقوني، قتلوني.
حيدر
:
ادخلوا، ادخلوا! تعالوا أيها المجرمون الصغار، واغمسوا أيديكم في دم هذا
المجرم الكبير.
(يدخل السجناء كالأشباح في قمصان سوداء، فتعلوا الضجة صراخ عبد
الحميد، وتنطفئ أنوار المسرح، فتتوارى إذ ذاك الأشباح وتزول الضوضاء.)
عبد الحميد
:
أواه، أواه! آه! خنقوني، قتلوني.
المشهد الثالث
الغرفة نفسها وقد أنيرت بالشموع. عبد الحميد جالس على الديوان غارق
من الخوف بين الحشايا كأنه يحاول أن يخفي نفسه مما تراءى له من الأشباح، وابنه ونعمت
جالسان بين يديه.
بدر الدين
:
أين هو الخيال يا والدي؟ أين هو؟
نعمت
:
مولاي، ما هذه الأوهام؟ ألا تريد أن تخرج إلى البستان فتستنشق النسيم في نور
القمر؟
عبد الحميد
:
والأشباح، والأشباح؟ ألا يظهرون في البستان؟
نعمت
:
أي أشباح يا مولاي؟
عبد الحميد
:
الأشباح ها هم! ها هم! اخسئوا. إليكم عني يا ملاعين! إليكم عني. (يقف ليهرب) ارحموني، لا تدنوا مني، آه خنقوني.
أواه! أواه! قتلوني.
(يقع على الديوان مغشيًّا عليه، وبعد قليل يستيقظ كأنه في
حلم.)
أشباح آثامي، لا يا بني، أشباح مجد أبيك. ها هم، قفوا، قفوا! (يهم بالخروج) إليكم عني أيها الملاعين! يا
الله! وهل أنتم في كل مكان؟ أتسدون في وجهي كل مهرب وكل ملجأ؟ ربي! أرى الأشباح
السوداء تذوب حولي، أراها تزيد حولي كالأمواج الهائجة، أراني في بحر من الزفت
المشتعل، بل في بحر من اللهيب. إنما أنت واهم يا رجل، أنت الآن في ألاتيني، أنت
في السجن، ولكن ما هذه الأمواج التي تلطم خدي؟ ما هذه الأمواج التي تزبد فوق
رأسي؟ لا لا، إنما هي محض أوهام، أنا عبد الحميد! أنا في قصري الآن، أجل أنا في
يلدز، بل أنا في … يا الله! ما هذه القصور التي أراها على ذلك الشاطئ بين تلك
البساتين الغنَّاء، إنها قصورك، يا عبد الحميد. نعم، وهذه بساتينك تغرد فيها
الطيور، ويداعب أغصانها نسيم الربيع، فكأنها لا تعرف الأحزان ولا تشعر
بالهجران، كأنها تسخر من هذه الأمواج السوداء ومن هديرها.
آه! أين أنا يا ربي. ربي، أين أنا؟ أديوان في القصر هذا، أم قارب في البحر؟
هل أنا أمام شواطئ أرضي وفي ظل بساتيني؟ هل تلك هي قصوري؟ إذن أنا في البوسفور،
أنا في قبضة الأمواج، هي ذي الأشباح ترقص حولي طربًا، أراها تسخر مني. أراها
تشير إلي إشارة الازدراء. ربي، ارحمني، بل أغرقني ربي في لجج البوسفور أمام
القصور التي لعبت فيها صغيرًا وخرجت منها حقيرًا، ولمَ؟ ألأنني كنت في يد
الأقدار أعمل مأمورًا كأصغر عبيدي؟ ألأنني سجنت ثلاثين سنة فاستحال نهاري ليلًا
وليلي جحيمًا؟ ألأنني كنت بين وزرائي كوزير بين السلاطين؟ ألأنني ما أكلت مرة
وكنت أمينًا من العيش بعدها؟ ألأنني ما نمت ليلة وتأكدت أني سأستيقظ حيًّا؟ لا.
لا، بل لأنك أعطيت ملكًا فلم تحسن سياسته؛ لأنك طردت من ضميرك روح الحق
والإنسانية، وخنقت في قلبك جنين رحمة الله، وأطفأت في نفسك نور عدل
الله.
صوت في الظلمة
:
إيه عبد الحميد!
عبد الحميد
:
رحماك ربي. أواه! … اصرف عني هذه الأشباح، لا تسمعني اليوم هتافها وقد
أسمعتني بكاءها بالأمس، أواه! أتتزاحم حولي كلما استرحمت وكلما تأوهت؟ أتسخر من
دموعي؟ أويضحكها بكائي؟ اخسأ. أتلطم خدي أيها اللعين؟! أتبصقون في وجهي أيها
الأخساء الأشقياء، ولمَ لا تقتلوني بعد هذا؟
صوت في الظلمة
:
الانتقام، الانتقام! …
عبد الحميد
:
آه ما أشد هذا الانتقام! أتنطق اليوم فظائعي؟ أتبعث من قبورها آثامي؟ أتتركني
أمتي أعيش بقية أيامي في هذه الظلمات، في هذا الجحيم، ومع هذه الخيالات المرعبة
الهائلة؟ لا لا سأريكم كيف يكون الانتقام أيها الملاعين. (يحاول خنق نفسه) عبد الحميد، أتسطو على شخصك
المقدس بيدك الأثيمة؟ ألا تشفق حتى على نفسك؟ عد إلى رشدك، اصرف عنك هذه
الهواجس والأوهام. نعم، أنا عبد الحميد وهذا هو قصري، وهؤلاء هم وزرائي بل
عبيدي …
إلى البوسفور بالسجناء الذين جئتني البارحة بأسمائهم!
وهل تعود أنت؟ ما بالك لا تكلمني، وأنت يا أبا الهدى، أما سمعتموني؟ ما بالكم
لا تجيبون؟ يا الله! ومن أنت؟ أخي مراد؟ أجئت تشاركني سجني؟ أجئت تغسل الدم عن
يدي؟ أجئت تنثر على أحزاني دموع أحزانك؟ تراني ورثت سجنك، وأحييتُ بلاءك في
بلائي، فمن يا ترى يرث سجني ويحمل أوزاري؟ أخي مراد، ومن هذا الذي معك؟ مدحت
باشا، أخرجت من قبرك لتجعل لي مكانًا فيه؟ أبُعثت من القبر لتبرهن على خلود
الحرية والأحرار؟ وهؤلاء الأشباح الذين يسخرون مني ويضحكون أراهم يشيرون
بأيديهم كمن يريدون …
صوت في الظلمة
:
الانتقام … الانتقام …
عبد الحميد
:
آه! يا لها من أصوات مرعبة هائلة! اقتربوا إذن مني، ابصقوا في وجهي، أيلذ لكم
هذا الانتقام؟ خذوني، أغرقوني، اقتلوني. آه! أحس بثقل الأمواج فوق رأسي، أفي
البوسفور يموت عبد الحميد؟ ربي، أفي البوسفور تدفنني؟ أمع هؤلاء الأخساء
تحشرني؟ … مدحت، أنا عبد الحميد مولاك! مراد، اسمع عبد الحميد أخاك! مدحت، قل
كلمة لهؤلاء من أجلي. هات يدك، وزيري، هات يدك، أخي، أترفضون اليد التي كنتم
تقبلونها صاغرين، أتأبون مصافحتي؟
أصوات في الظلمة
:
الانتقام، الانتقام!
عبد الحميد
:
أجل هو الانتقام. أواه! أحس بسهام من النار تشق فؤادي، أحس بشيء يأكل من
عيني، بل بشيء ملتهب ينقر في خدي. أواه! أحس بأصابع من حديد تضغط على عنقي.
أواه! غرقت … لله من البوسفور … إني أختنق … إني أموت …
(يقع مغشيًّا عليه.)