كلمة المؤلف
حين أعددت كتابي عن «السودان من التاريخ القديم» للطبع في عام ١٩٣٥، كنت أرجو أن يكون مقدمة لمؤلفات أخرى تتناول حياة مصر السياسية والبرلمانية ونهضتها الاجتماعية والاقتصادية وبحوثًا علمية أخرى.
غير أن أحداثًا حدثت وشواغل عرضت، لعل في مقدمتها أن حالتي الصحية كانت مهددة بالإعياء بل بالانهيار على أثر طبع كتابي «السودان والمسألة الحبشية»، مما كان من عاقبته أن عمدت إلى التخفف من أعبائي والتحلل من تبعاتي إلى ما يتفق وحالتي الصحية المجهدة.
ثم إنه قد أعقب هذا أن الحياة السياسية المصرية، التي كنت أعتزم أن أتناولها بالبحث والتأريخ والتأليف قد قل نشاطها على أثر المفاوضات التي انتهت بعقد معاهدة الزعفران، معاهدة التحالف والصداقة بين مصر وبريطانيا العظمى في العاصمة البريطانية في ٢٦ أغسطس سنة ١٩٣٦، ومعاهدة مونترو التي قضت بإلغاء الامتيازات الأجنبية في ٨ مايو ١٩٣٧.
كذلك نجم خلف سياسي كان من جرائه أن أعيد تأليف وزارة مصطفى النحاس باشا الرابعة في ٣ أغسطس ١٩٣٧، وأن بدت في إثر ذلك أزمة سياسية حادة انتهت باعتزال الوزارة الحكم في ٣٠ ديسمبر ١٩٣٧، وبتأليف وزارة محمد محمود باشا الثانية. وعلى أثر قبول استقالتها في ١٨ أغسطس ١٩٣٩ تألفت وزارة علي ماهر باشا الثانية، ثم إنه في ٣ سبتمبر ١٩٣٩ قامت الحرب بين الحلفاء وبين ألمانيا وأُعلنت الأحكام العرفية المصرية وفرضت الرقابة على الصحف، واستقالت الوزارة الماهرية الثانية في ٢٣ يونيو ١٩٤٠ وفي ٢٨ يونيو قبلت استقالتها، وخلفتها وزارة حسن صبري باشا، وعلى أثر وفاة دولته إذ كان يلقي خطاب العرش في ١٤ نوفمبر ١٩٤٠، تألفت وزارة حسين سري باشا في ١٥ نوفمبر ١٩٤٠، ولما استقالت الوزارة السرية خلفتها الوزارة النحاسية الخامسة في ٦ فبراير ١٩٤٢، فالوزارة النحاسية السادسة في ٢٦ مايو ١٩٤٢.
كان من جراء هذه الأحداث مع ما تخلل هذا من الغارات الجوية على البلاد واقتحام حدودها الغربية وانتشار الظلام، واضطراب الأفكار، وغلاء الورق، والانتقال في سرعة من طور إلى آخر، أنني آثرت إرجاء طبع مؤلفاتي إلى ما بعد الحرب.
غير أنه، وقد مضى على الحرب أعوام خمسة، مستقبلة عامها السادس، مرجئة ولا شك حين تضع أوزارها أسباب الاستقرار السامي أعوامًا أخرى، اعتزمت أن أمضي في إعداد مؤلفاتي للطبع، وكان باكورتها هذا الكتاب «تاريخ ما قبل التاريخ».
أما موضوعه فإنه يتناول تلك العصور البعيدة التي سبقت الحضارات التاريخية القديمة المعروفة، مبتدئًا بالكون وظهور الحياة على الكرة الأرضية عارضًا للتقلبات الطبيعية ونشوء الإنسان وغرائزه وإنتاجه المادي والعقلي. ولما كان هذا الموضوع يتطلب من الاستقصاء والاستيعاب ما تقصر عنه هذه الصفحات، كان حُمَادَاي أنني جمعت أصوله ونسقت فصوله وأوجزت تفاصيله، ميسرًا للمستزيدين أن ينهلوا من مراجعه المدونة في آخره، معتمدًا على فطنة القارئين في استدراك الأخطاء المطبعية واللغوية، وفي إدراك الألفاظ الأجنبية من ترجمتها العربية، داعيًا أبناء مصر والعروبة إلى استكمال بحث هذا الموضوع.