ما هو تاريخ ما قبل التاريخ؟
قلنا في «مقدمة الكتاب» إن موضوعه «يتناول تلك العصور البعيدة التي سبقت الحضارات التاريخية القديمة المعروفة، مبتدئًا بالكون وظهور الحياة على الكرة الأرضية، عارضًا للتقلبات الطبيعية ونشوء الإنسان وغرائزه وإنتاجه المادي والعقلي».
ونقول هنا إن هذا الموضوع يتناول الكثير من البحوث الفلكية والأرضية — الچيولوچية — والأثرية والنظريات الفلسفية، والعلوم النظرية والتطبيقية، ومن الدراسات المتصلة بالآداب والفنون والسياسة والغرائز والعواطف الحيوانية والبشرية، كما سنجلوه على القارئ الكريم في الفصول التالية، فليس بعجيب أن يتعاون الفلكيون والأرضيون والمؤرخون والأثريون والفلاسفة وعلماء الطبيعة والاجتماع والزراعة والاقتصاد والصناعة والطب والكيمياء على إيضاح سر الكون وأصل الخليقة، أو شيء من هذا؛ لأن ما أدركوه إلى الآن ليس يبلغ من بحر الحقيقة إلا قطرة ومن بستانها إلا زهرة.
ولما كان «التاريخ» يتناول ما وقف عليه المؤرخون منذ مطلع نشوء الحضارات القديمة ممثلة في الممالك ذات التيجان والإمبراطوريات ذات العروش، مبتدئة بحادث أو يوم معين أو بسنة بعينها، آثرنا أن نطلق على الحوادث التي جرت قبل «التاريخ» اسم «تاريخ ما قبل التاريخ»؛ إذ إننا لسنا حيال ممالك وإمبراطوريات وأشخاص بأسمائهم وذواتهم، بل إننا قبل «التاريخ» المدون المعروف، بإزاء عصور طويلة وتقلبات عديدة ونظريات معقولة أو غريبة، مرغمين على أن نضرب في بيداء الظنون وأن نلجأ إلى المنطق؛ لنصل إلى النتائج من مقدماتها.
يقول المؤرخون إن «التاريخ» هو عرض الحوادث أو قل إنه الحوادث ذاتها، وإنه كان — في أصله — بحثًا وبسطًا. أما في العصر الحديث فإن «التاريخ» هو تلك الظاهرة الإنسانية التي تؤلف أو تعين على أن تؤلف موضوع الحوادث ذلك أننا إذا أردنا أن نعرض «لتاريخ مصر» كان لا معدى لنا عن أن نتحدث عن ملوكها وحكامها.
وثمة معنى أوسع منحى من معنى ظاهرة حياة الإنسان وأسره المالكة. ذلك أن الحوادث التي ينبغي أن يتناولها «التاريخ» يجب أن تشتعب كل ما في الدنيا الطبيعية ذاتها وما يحيط بها، فيتحدث عن كل شيء في الكون والكرة الأرضية يكون هدفًا للتقليب والتغيير. ولما كان ليس ثَمَّ شيء في هذا الكون ثابتًا، كان للكون كله ولكل جزء فيه «تاريخ»، فلقد كان من أثر كشف «الأثير» أن غيَّر العلماء رأيهم في العالم الطبيعي، بأن تطور البيان الحسابي الثابت إلى معنى الحركة الدائمة التغيير في الكون، وبأن انتقلت الصخور والمعادن من مرحلة التحليل والتبلور إلى مرحلة التسلسل والتطور، فأصبح علم الطبيعة وعلم الحياة — البيولوچيا — من بحوث «التاريخ».
لقد كان الناس يقيمون المباني لتخليد ذكرى ملوكهم وحكامهم. أما الآن فالمباني تقام في المناسبات وللمنفعة الشخصية ولوقت محدود.
ولما كان لم يسن للأدب والفلسفة والسياسة والأخلاق والنقد والتجربة في العصور القديمة، مقاييس أو معايير — فإن التاريخ حقيق بأن يردنا إلى الصواب، حين نعمد إلى نقد شاعر كشاكسبير محتجين بأنه قد خالف قوانين الدرامة.
(١) تدوين التاريخ
كان اليونانيون الأقدمون يعنون «بالتاريخ» البحث عن الحقيقة في أوسع نطاقها، وكان «هيرودوت» المؤرخ اليوناني الكبير في القرن الخامس قبل الميلاد وصافًا لأحوال الأمم وخاصة مصر، والحروب القديمة التي قامت بين البلاد اليونانية وبين إيران، وكان كاشفًا رحالة طلعة حالته قلعة في غيرما إجادة أو دقة، وجاء «ديودور الصقلي» في القرن الأول للميلاد يصف مصر كما رآها يومئذ مماثلًا لهيرودوت. وكان التاريخ، على عهد «أرسطو» والعرب، نوعًا من الأدب. أما في العصر الحديث فإن «التاريخ» يتألف من عنصرين: أولهما البحث، وهو الجانب العلمي، وثانيهما العرض الأدبي ذلك أن «تاريخ» التاريخ يدل على أن نهضة التاريخ كانت مسايرة للنهضة الأدبية والفنية؛ إذ كان المؤرخ لا غنى له عن: (١) التفكير. و(٢) عن الخيال. و«التاريخ» الذي يدونه عالم غير أديب، لا يكون تناوله قريبًا كما أن أسلوبه لا يكون جذابًا وحوادثه ليست مشرقة خلابة؛ لأن العالم الباحث لا يحتفل للفظ، فالمعنى هو كل ما يعنيه.
من أجل هذا كان البَوْن كبيرًا بين التاريخ في عصر بيتيكلر ومؤلفات هيرودوت وتكسيديديس وفيدياس، وبين تاريخ يضعه السير ويليام فليندرز بيتري العالم البريطاني الأثري الكبير الذي توفي في ٢٨ يوليو سنة ١٩٤٢ عن ٨٦ سنة، وهو واضع قواعد علم التنقيب عن الآثار؛ لأن تاريخ الأولين طابعه أدبي، وخالد على الدهر.
ولما كان التاريخ — في معناه الأعم — يتناول، كما قلنا، كل شيء؛ كان هناك تاريخ سياسي، وتاريخ للتجارة، وللمدن، وللقانون، وللعلم، والفلسفة؛ الفلسفة في ذاتها وفلسفة التاريخ التي تتحدث عن الحقائق التي سيطرت على حوادثه.
ومما يجدر بالذكر أن الناس كانوا — قبل إتقان الكتابة وانتشارها — يتناقلون الحوادث التاريخية مشافهة، وكانت هذه الحوادث ممتزجة بالأساطير والأناشيد والشعر والنثر وأنباء البطولة والآلهة، وكانت الأسر اليونانية تُعنى بتدوين أنباء رجالها على اللوحات، كذلك حفظ لنا كتاب «مانيثون» تاريخ الأسر المصرية القديمة. و«مانيثون» هذا كان كاهنًا مصريًّا من سمنود، أمره ملك مصر بطليموس فيلادلفوس بأن يجمع البيانات المتصلة بتلك الأسر.
وبعد الشاعر والأديب جاء الكاهن فدون الحوادث في المعابد والكنائس، فقد كان بونتفيكس ماكسيموس في عهد الجراكي (١٣١ق.م) يؤرخ الحوادث سنويًّا في ألواح من الخشب.
وهناك تقاويم سنوية مختلفة ظهرت في عصر التاريخ وقبله، فقد كان اليونانيون يؤرخون التاريخ تبعًا لدورات الألعاب الرياضية (الأولومبية)، والرومان ببناء مدينة روما أو حكم أباطرتهم، والعرب بعام الفيل. ولعل تقسيم السنة إلى ١٢ شهرًا قمريًّا يرجع إلى ما قبل التاريخ؛ لأن الإنسان الأول عرف القمر يدور حول الأرض ١٢ مرة في السنة. وكان روملس منشئ روما يجعل السنة ١٠ شهور.
(٢) خصوم التاريخ
إنك مصدر من مصادر التاريخ المصري للحركة الوطنية الأخيرة، فهل تسمح بأن تتحدث عن هذا التاريخ؟
لست من المؤمنين بالتاريخ بل إني من الكافرين بآلهة التاريخ؛ لأنه مملوء بالكذب. وإذا حدثتك عن يوم ١٣ نوفمبر فقد يكون ما أرويه لكم اختلاقًا؛ لأنه رواية والرواية خبر من الأخبار، والخبر كما يقول علماء اللغة: يحتمل الصدق والكذب، أو كما يقول الشرعيون: ما يحتمل الصدق والكذب لذاته. وقد زادوا كلمة «لذاته»؛ لئلا يتناول الأنبياء وهم معصومون عن الكذب أما غيرهم فيجوز لهم الكذب، بل إن الكثيرين يكذبون في التاريخ وليس هناك حقيقة تاريخية تكون صدقًا صرفًا.
ولكن حادثة ذهابك أنت وسعد باشا وعلي باشا شعراوي إلى سيرونجت حقيقة صادقة صرفة؟
قد يكون أننا ذهبنا إلى سيرونجت بدار المعتمد البريطاني، ولكن هل يعلم أحد حقيقة ما حدث في اجتماعنا به؟ وإذا رويتُ أنا هذه الحادثة كما وقعت، فإن روايتي تحتمل الصدق والكذب، كما أن رواية كل من زميلي تحتمل ذلك، فأيَّنا يكون الصادق؟