السحر والشعوذة
(١) السحر
لما كان السحر من أقدم ما عرفه الإنسان البدائي، إنسان ما قبل التاريخ، فقد رأينا أن نعقد له هذا الفصل. هذا والسحر يطلق عامة على قوة الإتيان بالعجائب وممارستها باستخدام عوامل فوق الطبيعة مفروض وجودها عند من يمارسون السحر. وتدور حول السحر نظريات، منها نوعان: النظرية الشخصية، والنظرية الموضوعية. فأما الشخصية فهي المراسم التي يضعها ممارسو السحر له بما يتفق معه، ومن هنا كانت المراسم التي لا تنصبغ بصبغة دينية، تعد سحرًا. أما النظرية الموضوعية فتعد السحر مستقلًّا عن الدين؛ ولهذا كان للسحر خواصه وأصله النفساني، وكان طريقًا إلى علم همجي يعتمد على قوانين تخيلية مفروض أنها تعمل على منع سير النظام المستند إلى قوانين الطبيعة.
وعند «إ. ب. تايلور» أن مميزات السحر هو عدم صحتها؛ إذ إنها خليط مشوش من المعتقدات والممارسات التي يؤلف اتحادها كل ما ليس له في الطبيعة سبب ونتيجة. ومن أنواع السحر، العنصر الروحي وهو ينتظم الكائنات الروحية وأشباح الموتى والشياطين والآلات. أما العنصر غير الروحي فإنه يعتمد على القوى المتصورة واتصالاتها في الطبيعة؛ أي إنها منطق غير تام فهي اتخاذ فكرة غير صحيحة على أنها صحيحة. ومن أمثلتها أن الهندي الأمريكي، إذا ما رسم صورة غزال وصوب إليه سهمًا أو طلقًا، توقع أن يقتل غزالًا حقيقيًّا في اليوم التالي.
ومن قبيل هذا سحر المحاكاة، وهو أن يعمل الساحر عملًا يشبه العمل المقصود فإذا أراد استنزال المطر ملأ إناء من الماء ووقف على ربوة وصبه معتقدًا أن السماء ستفعل فعله. وإذا أراد أن يقتل خصمًا له، رسم صورته على ورق أو مثلها في طين ثم يتلفها معتقدًا أن ما يحدث للصورة أو التمثال يحدث للشخص نفسه.
أما سحر العدوى فهو أن يأخذ الساحر أو يعهد إلى أحد أن يحضر له شيئًا من لباس الشخص المطلوب أذاه فيتلف هذا الشيء فتنتقل عدوى التلف من هذا الشيء إلى الشخص نفسه. وكان المصريون يؤمنون بسحر المحاكاة، فقد وجدت بعثة ألمانية، ٢٩٠ شقفة من الفخار عليها أسماء أعداء مصر في الخارج والداخل ممن كانوا يحاربون الحكومة أو يخرجون عليها. وعند البعثة أن المقصود من كتابة هذه الأسماء على الفخار هو كسر الفخار وتحطيمه؛ حتى يحدث للأعداء ما يحدث للفخار؛ وهو أن ينهزموا وينكسروا. أما سحر العدوى فإن العامة تمارسه للآن في مصر في الرقية، فإنهم إذا رقوا أحدًا من مرض يعتقدون أن العين هي أصله، يأخذون «أثرًا» من لباس صاحب العين، ويحرقونه ويرقون به المصاب فيشفى على زعمهم.
وعند «الأثري المصري محرم كمال، أمين المتحف المصري» أن «ما ندعوه الآن بالسحر قد ورثناه عن المصريين القدماء. فقد اشتهرت مصر في قديم الزمان بالسحر، وإلى الآن لا تعدم قرية من قرانا ساحرًا تضفي عليه خيراتها وتضع فيه ثقتها، ويستمتع فيها بالنفوذ والثقة اللذين كان ينعم بهما سحرة العصور القديمة».
كان المصري القديم يلجأ إلى الساحر إذا أراد التخلص من عدوه، وتخبرنا النصوص بأن الساحر كان يعذب هذا الشخص بما يطلقه عليه من أحلام مزعجة وأشباح مرعبة وأصوات مستغربة، بل إن الساحر كان يسلط عليه الأمراض فتنهك قواه وتهد بدنه. وكان الساحر قادرًا على أن يجعل النساء يتركن أزواجهن ويتعلقن بأذيال من يريده هو من رجال وإن كانوا موضع كرههن من قبل. وكان الساحر يطلب في مثل هذه الأحوال؛ لكي ينجح عمله أن يؤتى له بقليل من دم الشخص المطلوب أو قلامة من أظافره، أو خصلة من شعره أو قطعة قماش من ثياب يكون قد لبسها؛ فإذا حصل على ما طلب، صنع تمثالًا من الشمع بشكل الشخص المطلوب (العمل له)، ووضع في التمثال أو استعمل في صنعه الأشياء التي أخذها، فإذا تم له ذلك ألبس التمثال ملابس كالتي يرتديها الشخص نفسه حتى يشبهه تمام المشابهة، ثم يجري عليه طائفة من الأعمال السحرية، فكان إذ دق مسمارًا في التمثال أصيب الشخص بمرض، وإذا قرب التمثال من النار أصابت الشخص حمى خبيثة، وإذا طعن التمثال بسكين قُتل الشخص أو جُرح. ويظل الساحر يزاول أعماله حتى يقضي على الشخص الذي يريده! وقد ورد في النصوص أن هذا النوع من السحر قد استعمل ضد الملك رمسيس الثالث، ولكنه اكتشف الأمر وقبض على هؤلاء السحرة، وصادر ما وجده لديهم من تماثيل الشمع التي صُنعت بشكله، كما أوردته ورقة «هاريس» البردية السحرية وورقة «تورين» البردية القضائية. أفليس هذا النوع من السحر، وعمل التماثيل من الشمع أو الطين، ووخزها بالإبر والدبابيس هو الذي يستعمله الدجالون في القرى والأقاليم الآن؟
وكل ما لدينا من غرام بالتمائم والتعاويذ والأحجبة كحجاب الحب والكره والحفظ، وآلاف التمائم التي تعلق في رقاب الأطفال حتى تطول أعمارهم، كل هذه إن هي إلا عادات ورثناها عن أجدادنا القدماء الذين كانوا لا يسيرون خطوة إلا والتمائم ترافقهم وتحميهم، وزيارة واحدة للمتحف المصري تطلعكم على آلاف التمائم التي استعملها المصريون القدماء.
ويقرب من هذا اعتقاد العامة اعتقادًا جازمًا بالعين وقوة أثرها. فإذا جلست إلى رجل منهم حدثك كيف أن هناك فئة من الناس لا تكاد ترى شيئًا تعجب به حتى يحصل له حادث ما، ومن هنا نشأت فكرة تعليق الصحون على مداخل المنازل أو قرون الأغنام أو عروسة القمح على الأبواب. كذا طائفة من التمائم نراها معلقة على العربات وسيارات الأغنياء والمثقفين بشكل خرز أو قلائد توضع دفعًا للعين، فهذه الخرافة ورثناها أيضًا عن مصر القديمة، فقد وجد في مكتبة معبد الإله حوروس في إدفو كتاب مملوء بالرقى والتعاويذ لطرد العين الشريرة. كما أن هناك أنشودة معروفة للإله تحوت يرجع تاريخها إلى الدولة الحديثة، وقد ورد فيها ما يأتي: «أيها الإله تحوت! إذا كنت تحميني لم تبقِ بي حاجة إلى الخوف من العين.»
ويعتقد العامة المصريون الأحياء أن هناك ساعات من النهار بل أيامًا معينة لا يحسن بالمرء أن يأتي فيها عملًا؛ لأنها منحوسة، فهذا الاعتقاد في الأيام سعدها ونحسها قديم أيضًا؛ إذ كان المصريون القدماء يعتقدون أن الأيام تكون سعيدة أو منحوسة طبقًا لما وقع فيها من حوادث سعيدة أو كريهة في أساطيرهم الدينية، فاليوم الأول من أمشير الذي رفعت فيه السماء، وكذا اليوم السابع والعشرون من هاتور الذي عقد فيه صلح بين الإلهين حوروس وسيت وتراضيا فيه على اقتسام العالم، كانا يومين كلهما سعد وبركة. أما اليوم الرابع عشر من طوبة الذي بكت فيه إيزيس ونفتيس على أوزريس فقد كان يومًا منحوسًا. وكان هذا الاعتقاد من القوة في العصر الفرعوني، بحيث إن كثيرًا من الأعمال كالبدء في سفر بعيد أو عقد صفقة تجارية أو ما إليها كان يؤجل من أجل هذه الأسباب، وما زلنا الآن بعد مضي خمسة آلاف سنة تؤجل أشياء لهذا السبب عينه.
وقد اعتدنا في ليلة شم النسيم أن نعلق البصل فوق الأماكن التي ننام فيها أو نضعه تحت الوسادة، وفي الصباح نكسر البصل ونشمه. وفي بعض القرى يعلقون هذا البصل على باب المنزل. فهذه العادة مصرية قديمة؛ إذ كان الناس في عيد الإله «سكر» إله الموتى في مدينة منفيس يدورون حول جدران هذه المدينة، وقد علقوا البصل حول رقابهم، كما كانوا يعلقون البصل حول أعناقهم في الليلة التي تسبق هذا الاحتفال.
وعند «ﭼ. ﭼ. فريزر» أن السحر يقوم على قانون العطف؛ أي على فرض أن أشياء تعمل على نقيضها على مبعدة خلال عروة سرية بسبب وجود التشابه بين شيء وآخر، أو أنهما كانا في وقت ما متصلين أو أن أحدهما كان جزءًا من الآخر، وأن السحر نظام قد نشأ في الجماعة ورافق وجودها؛ أي إنه لا ينشأ مع الفرد الواحد؛ إذ إنه لن يعرف السحر في مكان غير مأهول.
أما الطلاسم وهي إحدى فروع السحر، فإن القول بأن حلها يؤدي إلى فتح الكنوز فقد يكون هذا صحيحًا؛ لأن هناك رموزًا أفضى تفسيرها إلى معرفة أماكن ومناجم معدنية، قبل ما عرف عن مواطن الآثار القديمة وكنوزها ومناجم الذهب والمعادن النفيسة. أما غير هذا فهو احتيال على العقول.
وقد ورد السحر في التوراة حين ذكرت السحرة والنبي موسى، كما ورد في أكثر من آية في القرآن خاصة في قصة موسى، وقد نقل كتاب الفلاحة القبطية إلى العربية من الكلدانية في الدولة العباسية، ووضعت مصاحف الكواكب السبعة وكتاب طمطم الهندي في صورة الدرج والكواكب، وقد ألف «جابر بن حيان» كتبًا في السحر والكيميا، وألف مسلمة بن أحمد المجريطي في الأندلس كتاب «غاية الحكيم» وهو خلاصة كتب ابن حيان.
وعند «ر. ر. ماريت» أن الدين والسحر شكلان لظاهرة اجتماعية غير منظورة، وأن الإنسان الأول كان يخضع لنظام يعالج ما هو فوق الطبيعة. وفي هذا النظام عناصر كل من السحر والدين، اللذين كانا شيئًا واحدًا ثم افترقا فأصبح الدين هو الأعلى وهو المقر به وهو الأكثر حرمة. غير أنه ما بين ما هو سحر خالص ودين خالص، توجد عناصر غير متميزة.
ويروي «دييري» أن سكان أستراليا الوسطى يجتمعون في حفلة يفتحون خلالها فتحة يقيمون عليها بناء يسع كبار الرجال. أما النساء فإنهن ينظرن إليهم ثم ينسحبن قليلًا نحو ٥٠٠ ياردة. وهنا يتقدم السحرة ويدمون اثنين من الرجال، فيلقيان بأيديهما في الهواء ويأخذ الرجال الآخرون دمهما. أما الدم فرمز للمطر.
(٢) الشعوذة
وقد جاء في أحد أعداد مجلة «الهلال» أن الشعوذة في اللغة خفة اليد، وأخذ (بضم ففتح) كالسحر يرى معها الشيء في رأي العين بغير ما عليه أصله. والفرق بين الشعوذة والسحر أن الأخير هو عمل شيء فيه مناقضة لنواميس الطبيعة وخروج على قيودها. والمراد منه في الغالب إخراج الباطل في صورة الحق. وفي بعض كتب اللغة أن السحر هو ما يستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان مما لا يستقل به الإنسان. على أن العلم ينكر السحر؛ لأنه يقوم على مخالفة نواميس الكون، فإذا كانت هذه المخالفة وهمية أو من قبيل الخداع البصري فهي الشعوذة والخفة.
وبينما يعتمد الساحر على قوة غير منظورة، فإن المشعوذ يعتمد على الخداع وخفة اليد.
والأرجح أن السحر وُجد قبل الشعوذة وأنه تحول إليها بمرور الزمن، وأثر السحر ظاهر بين جميع الشعوب الهمجية خاصة قبل عصر التاريخ. فلا تجد قبيلة من القبائل المغرقة في الهمجية وإلا ولها ساحر تحترمه وتنقاد له. بل لقد كان الساحر أو العراف قديمًا زعيم القبيلة وسيدها المطلق، وهذا ما جعل زعماء القبائل يَلجئون إلى الخداع والمخاتلة لضمان زعامتهم على قومهم، ومع قدم الزمن أدرك الناس أن مخالفة نواميس الطبيعة غير ممكنة، فالشمس لا بد أن تشرق في النهار، والنار لا بد أن تحرق ما يلقى فيها، والحديد لا بد أن يغرق في الماء، والسم لا بد أن يقتل من يتناوله. فإذا حدث ما يناقض جميع ذلك فهو شعوذة لا شك فيها.
ولإيضاح ذلك نقول على سبيل التمثيل: إنه لما ذهب كولمبوس إلى أمريكا في القرن الخامس عشر، توغل بعض رجاله بين قبائل الهنود الحمر، فهجم عليهم هؤلاء ليفتكوا بهم، وكان البعض يعلمون أن الشمس ستكسف ذلك اليوم، فتهددوا الهنود إن هم مسوهم بسوء بأن يطلبوا من «معبودهم» الشمس أن يغضب عليهم! … وما هي إلا دقائق حتى بدأت الشمس تكسف، فذعر الهنود واستولى عليهم الهلع وخيل إليهم أن أولئك البيض آلهة، فأطلقوا سراحهم واستغفروهم وقدموا لهم هدايا وتحفًا كثيرة. ولا يزال بعض هنود أمريكا إلى هذا اليوم يتناولون قصة الآلهة الذين زاروا بلادهم من أحقاب كثيرة وكسفوا الشمس!
فما أتاه أولئك البيض لم يكن سحرًا إذ لم يكن فيه خروج على نواميس الطبيعة. ومع ذلك عده الهنود سحرًا، ولعله أقرب إلى الشعوذة منه إلى أي شيء آخر؛ إذ ليس في الشعوذة ما هو مناقض لطبائع الأشياء. إلا أن المشعوذ يستغل معرفته لتلك الطبائع ويستعين بخفة يده ومهارته على خداع الناس.
ومما يدل على ما كان لساحر والمشعوذ كليهما من مقام عند الأقدمين (ولم يكن هؤلاء يفرقون بينهما) أن ملوكهم كانوا يحيطون أنفسهم بالسحرة والعرافين، ففي التوراة أنه لما صنع موسى معجزة أمام فرعون استدعى هذا سحرته وعرافيه، وطلب منهم أن يفعلوا مثل ما فعل موسى. وفي التاريخ أن الإسكندر ذا القرنين كان إذا أراد الخروج إلى الحرب استشار السحرة والعرافين. وكذلك كان يفعل الروم والرومان والفرس وغيرهم. ومن أمثلة هذا أن كهان معبد دلفي ببلاد الروم قديمًا كانوا يشيرون على الملوك وقادة الجيوش، الذين يستشيرونهم بأشياء لا يمكن أن يؤاخذوا عليها مهما جاءت به الحوادث. قيل إن أحد أقيال الروم استشارهم مرة في محاربة الفرس فقالوا له: «إنك ستخرب مملكة عظيمة»، فلما حاربهم انتصروا عليه. وكان تأويل نبوءة الكهان سهلًا، فإنهم لم يعينوا الغالب والمغلوب، فكانت النبوءة تحتمل الوجهين.
وقد كان فراعنة مصر يقربون إليهم السحرة والمشعوذين؛ لينبئوهم بالغيب وليفسروا لهم الرؤى والأحلام وليقرءوا لهم الأفلاك ويطلعوهم على المستقبل. وكذلك كان يفعل ملوك بابل وآشور والفرس والروم والرومان. بل لقد بقيت تلك البدعة متمكنة من النفوس حتى الآن. وما عهدنا بشعوذة راسبوتين ببعيد فقد استطاع ذلك الدجال التغرير بعقل قيصرة روسيا وإيهامها أنه يستطيع أن يفعل ما يشاء؛ لأن له صلة بالعالم غير المنظور. هذا ولا يزال في أوروبا كثيرون حتى من العلماء ممن ينخدعون بالدجل والشعوذة.
ومن أشد دواعي الأسف أن بعض الخبيرين بأسرار الاستهواء؛ أي التنويم المغناطيسي، يستغلون معرفتهم به للتغرير بالناس ولتمويه الحقائق بطلاء الباطل والشعوذة.
ولقد كانت الشعوذة ولا تزال مرتبطة بالتطبيب والتنجيم ارتباطًا وثيقًا. فكان الطبيب في أطوار الاجتماع الأول مشعوذًا يستعين بقليل من الخبرة وبكثير من الدجل والخداع. فكان إذا دُعي لعيادة مريض عمد إلى وصف بعض الأعشاب والمواد وإلى استطلاع النجوم والأفلاك وتنبأ بما سيكون من أمر العليل؛ ولهذا كان لشخص الطبيب عند الأقدمين حرمة كبيرة، وكان الناس ينظرون إليه كما ينظرون إلى شخص مقدس يجب الخضوع له في كل شيء، وكان الطبيب أو المشعوذ يرث مهنته عن أبيه ويورثها له. ومن هنا نشأت طائفة الكهان أو العرافين الذين لم يكونوا في الحقيقة سوى دجالين مشعوذين، صحيح أنهم كانوا في أقدم عصور الاجتماع يؤمنون عن إخلاص بما لهم من قوى خارقة قد ورثوها عن غيرهم، ولكنهم أدركوا مع قدم الزمن أن دعواهم قائمة على الكذب والدجل، وأنهم مجردون من كل قوة خارقة للطبيعة. ويقول علماء النفس: إن أولئك المشعوذين كان لهم في عدة مواقف فضل على قومهم بما كانوا يوقدونه فيهم من نار الحماسة، وما ينفخونه من روح الشجاعة والإقدام. وتفصيل ذلك أن قادة الجيوش الأقدمين كانوا إذا خرجوا للحرب والقتال يستشيرون السحرة والكهان كما تقدم القول، ويذيعون ما يقوله هؤلاء بين الجنود؛ ليشجعوهم ويستثيروا حماستهم.
وفي التوراة أن شاول ملك اليهود استشار روح صموئيل النبي فيما سيئول إليه أمره من محاربة الفلسطينيين فأنبئ بأنه سينكسر وبأن جيشه سيهلك، ومع ذلك لم يعبأ فكانت آخرته وبالًا عليه، وليس هذا مجال البحث في كيفية استشارة روح صموئيل، وإنما نقول إنها تمت على يد عرافة مشعوذة. وكان هو نفسه — أي شاول — قد قطع دابر العرافين والمشعوذين في مملكته. ولعله أول ملك في التاريخ حرم العرافة والسحر والشعوذة، فقد كانت هذه المهنة كثيرة الشيوع، بل كانت من مستلزمات الاجتماع في العصور الغابرة، وكان النساء الرومانيات كثيرات الشغف بالالتجاء إلى المشعوذين لاستطلاع حظوظهن. ولسنا نعلم جيلًا من الناس لم تلجأ نساؤه إلى الدجالين والمشعوذين لاستطلاع أنباء الغيب والكشف عن المستقبل، فإن مثل ذلك الاستطلاع في خلق المرأة منذ أقدم أزمنة التاريخ.
ولنرجع إلى الشعوذة المحضة منذ أقدم الأزمنة، فنرى أنها كانت شائعة عند قدماء المصريين وكانوا يخلطونها بالسحر. وفي سفر الخروج من التوراة أن سحرة مصر (ويراد بهم المشعوذون) تمكنوا من تقليد الآيات التي صنعها موسى أمام فرعون لحمله على إطلاق سراح الإسرائيليين. ومن ضروب الشعوذة التي كانوا يمارسونها أنهم كانوا يحرقون البخور في غرفة مظلمة، فتنعقد في الجو سحب كثيفة من الدخان تظهر عليها صور مختلفة فتدهش الناظرين، وكانت تلك الصور أو المرئيات تنعكس عن مرايا معدنية مقعرة مستورة عن الأنظار.
ومن أعمالهم أيضًا أنهم كانوا يرسمون صور الآلهة على جدران الأقباء أو الدهاليز المظلمة المقامة تحت الأرض، وما هي إلا لحظة حتى تلتهب تلك الصور كأنها بقوة سحرية. والمعروف أن تلك الصور كانت من مواد قابلة للالتهاب، فإذا مست النار جزءًا منها سرت في سائر الأجزاء وأحدث التهابها دهشة عظيمة!
وهناك ضروب أخرى من الشعوذة كان يمارسها قدماء المصريين. وعنهم أخذ اليونان حتى قيل إن كهنة دلفي وأفسس وغيرهم تلقوا السحر والشعوذة عن المصريين. ومن عادة الرومان أنهم ما كانوا يقيمون وليمة إلا وللشعوذة منها نصيب كبير.
ولم يتفق العلماء حتى الآن على تعليل الشعوذة التي كان يقوم بها كهان دلفي ببلاد اليونان. فقد كان الملوك وقادة الجيوش يقصدونهم إذا عزموا على القيام بغزوة أو حرب، ويستطلعون ما هو مقدر لهم في صحف الغيب كما قدمنا. فإذا ألقوا على أولئك الكهان سؤالًا سمعوا أصواتًا لا يعلمون من أين هي ردًّا على سؤالهم. ومن المحتمل أن الكهان كانوا يحسنون إخراج الأصوات من بطونهم؛ وهو ما يعرف اليوم «بالفتيرولوكويسم».
وإذا عدنا إلى العصور المتوسطة رأينا أن الشعوذة كانت منتشرة فيها انتشارًا عظيمًا. فقد أشار تشوسر الشاعر الإنجليزي إلى مرئيات غريبة كانت تظهر في بعض الاحتفالات وتمثل مواقع قتال ومشاهد صيد وحوادث مختلفة. وذكر السر چون مندفيل أنه شاهد مثل ذلك في قصر أحد أقيال الشرق. وروى «تشليني» في أواسط القرن السادس عشر أنه رأى صورًا ورسومًا مدهشة بارزة على ستار في الظلام في بناء الكولوسيوم بمدينة روما. والأرجح أن جميع هذه المناظر كانت مما يعرف اليوم بالفانوس السحري. وقد كان البعض يعتقدون أن الفانوس السحري من مخترعات القرن السابع عشر.
ومما يجدر بالذكر أن الفيلسوف ديكارت الذي نبغ في النصف الأول من القرن السابع عشر صنع تمثالًا شبيهًا بالإنسان الميكانيكي، الذي شاع صنعه اليوم في أمريكا والذي يسمى «روبوت» أو «أوتومات»، وكان ينطق بكلمات وعبارات تدهش السامعين. قيل إن ديكارت كان مسافرًا ذات يوم في سفينة ومعه هذا التمثال، فلما رآه ربان السفينة تشاءم منه وقذفه إلى البحر وفي أواخر القرن السابع عشر عرض رجل إنجليزي يسمى توماس إبرسون في قصر تشارلس الثاني تمثال رجل يتكلم ويجيب على أسئلة السائلين. وتعليل ذلك أن التمثال كان دقيق الصنع جدًّا، وكان مجوفًا يختفي في داخله رجل ذكي الفؤاد يتكلم عدة ألسنة ويُخرج من جوفه أصواتًا غريبة كأنها آتية من بُعد. ولم تنكشف جلية هذا الاختراع إلا بعد مرور الزمن.
ومن ضروب الشعوذة أن أحدهم قد يدفن نفسه حيًّا ويظل مدفونًا أيامًا في مكان لا يتطرق إليه النور أو الهواء أو الغذاء حسب الظاهر. ومع ذلك ينتفض بعد أيام من قبره كأنه ينفض عنه غبار الموت.
ومن أعمال مشعوذي الهند أيضًا أنهم يمشون حفاة على النار جيئة وذهابًا ولا تحترق أقدامهم. ولعل هذا من قبيل الخداع البصري أو لعله يستند إلى الاستهواء؛ أي التنويم المغناطيسي. وأغرب منه ما يفعله بعض دراويش الهند حين يلقي حبلًا في الهواء فينتصب الحبل في الجو فيتسلقه الدرويش كأنه يصعد في الجو، ويظل صاعدًا صاعدًا إلى أن يختفي عن الأنظار. وما هي إلا لحظة حتى يظهر بين الجمهور بغتة. أو قد يتسلق الحبل الممدود في الجو ومعه ولده وبيده سكين، ومتى وصل إلى ارتفاع كبير عمد إلى الولد فذبحه وألقى رأسه بعيدًا وظل الدم يسيل غزيرًا، فيهيج الجمهور ويريد الفتك بذلك الدرويش، الذي يختفي في الجو فجأة، ومتى هدأت ثائرة القوم ظهر بينهم ومعه الولد المذبوح!
وقد حاول الكثيرون أن يعرفوا سر هذه الشعوذة فلم يوفقوا إلى ذلك. وحاول بعضهم رشوة بعض دراويش الهند بمبالغ كبيرة؛ ليكشفوا لهم سر تلك الظاهرة فلم يفوزوا بطائل. وعند بعض علماء النفس أن التعليل الوحيد لتلك الظاهرة هو التنويم المغناطيسي؛ أي إن المشعوذ يستهوي الجمهور وينومه تنويمًا مغناطيسيًّا ويوهمه أنه يرى ذلك المنظر الغريب.
ومن هذا القبيل ما عرضه منذ سنة تمامًا رجل هندي من البراهمة في إنجلترا، فإنه كان يثب أمام جمهور النظارة في الهواء ويجلس القرفصاء وهو غير معلق بشيء أو مستند إلى شيء، وكان يظل كذلك مدة وهو مكتوف اليدين، وقد تبين بعد ذلك أنه كان في الحقيقة يجلس على أسلاك حديدية غير منظورة.
ويقول الكاتب: لعل أغرب أنواع الشعوذة في الوقت الحاضر ما يشبه أعمال دراويش الهند من قطع رأس الإنسان أو نثر بعض أعضاء جسمه، ثم إعادة الرأس المقطوع أو الأعضاء المبتورة إلى أماكنها. وليس من السهل شرح هذه الحيلة في مثل هذه العجالة، وإنما نقول: إنها تستلزم استعدادًا خاصًّا وأدوات وآلات خاصة.
(٣) الخرافة
كان الإنسان البدائي يخاف كل شيء، يُحدِث له ضررًا أو هلاكًا كالسيول والأمطار الجارفة والضواري، وأخذ يتوسل لدفع شرها ويتوهم أنها تمثل ذوانًا أو قل إنها أشخاص يجوز أن تقدَّم لها القرابين وأن يلتمس منها كف الأذى، ومن هنا نشأت العبادة والتدين؛ أي إنها انبعثت من رهبة الطبيعة وما فيها وتطورت إلى شعور بالارتياح والشكر حين ينجاب غضب الطبيعة وينتهي أذاها.
وليس ببعيد أن تكون هذه الأحداث موضوع رواية يتناقلها الناس جيلًا بعد جيل محشوة بالمبالغات والأوهام، مما يتصوره عقل البدائي الساذج وبما يشهده في حلقات جماعته في دعائهم وشكرهم، وأن يكون من أثر هذا وضع الأناشيد والقصص والأشعار والموسيقى الهمجية الساذجة.
هذا ويسود المرويات الروح المنفصلة؛ أي استقلال الروح، وهي مركز الحياة عن الجسم كما هو المشاهد في القصص الخرافية القديمة، فهي في الواقع متضمنة علوم القدماء وخيالهم وأدبهم وفنهم.
(٤) الطب والسحر
السامي متفائل بطبعه، راغب في الحياة آخذ بأسبابها، رافض فكرة الفناء معتقد في الحياة الأخرى وفي الثواب والعقاب، فهو — لهذا — ساعٍ لجعل الحياة سعيدة، ومعني بالصحة وسلامة البدن إلى حد عد هذا عقيدة دينية تطالبه بالطاعة لها. أما ما يحول دون ممارستها فعنده أن ذلك يرجع إلى الأرواح الشريرة، وكان عنده أن السحر وسيلة للعلاج.
وعند صاحب اللسان أن الطب هو السحر، الذي قال فيه ابن الأسلت:
(٥) رأي المؤلف
لقد أوردنا فيما تقدم آراء العلماء في السحر. وعندنا أن السحر يقوم على عنصرين: أولهما ما ينزل بأعصاب الإنسان البدائي والإنسان المتحضر نفسه من ضعف وفتور حيال قوارع الزمان وأحداثه. ولما كان في كل إنسان، مهما تكن منزلته من التحضر والعلم والرقي، ناحية من السذاجة؛ سذاجة الطفولة التي من أثرها التصديق أو الإيمان ببعض الأقوال، خاصة إذا ما ألقيت إليه على الصورة التي تستهوي النفس وتخلب اللب، وخاصة إذا ما وقع هذا حين ينزل به المكروه، ويعز العلاج ويتلمس المنكوب النجاة؛ كانت النفس الإنسانية متأهبة لتلقي ما يشعرها بقوة الشفاء من ناحية علوية أو خفية غير منظورة بعد أن باء العلاج المادي بالفشل، بل كانت هذه النفس متعطشة لهذا التلويح أو التلميح بالقوة المشار إليها «قوة السحر»، أوليس الإنسان هدفًا لألوان الخداع والغش والغبن والاحتيال، حتى إذا لم يزعم المحتال لنفسه قوة سحرية؟
أما ثاني العنصرين فإنه يقوم على قوة شخصية الخاتل أو الساحر: زعامته في بني قومه، نفوذه الأدبي، ذلك أن نظراته نفاذة وأقواله مؤثرة في نفوسهم، سواء أكانت موجهة عن قصد التأثير والخداع أم عن غير تعمد ذلك. ومن أجل هذا اختلط على الإنسان البدائي ما تنطوي عليه زعامة الزعيم وعلم العالم وسحر الساحر ونسك الناسك وقداسة القديس بل ألوهية الإله، فقد كان هذا الإنسان يتصور هذه القوى متجمعة في إنسان أو جماد ما. وصحيح أن إنسان عصرنا الحاضر قد أصبح يفرق بين هذه القوى ويعرف الكثير عن مصادرها، غير أن النفس البشرية لا تزال تنتظر، إذ تمتحنها المحن، إلى قوة روحية خفية تنقذها من الخطر، وقد توفق النفس إلى هذه القوة الروحية الصالحة، وقد تخدع بسحر الساحر وتقع في أحبولة المخادع.
بل إننا نكاد نذهب إلى أبعد من هذا، فنقول إنه قد يكون من مصلحة المنكوب اليائس من العلاج الطبيعي أو المادي، أن تقوى روحه المعنوية بشيء من الاستهواء والمخادعة، فلقد طابت نفوس يائسة على أثر زيارتها لضريح ولي واستماعها لدعاء جاهل، أو أقوال قارئ كف أو «عزائم» أو كاتب «تمائم» أو فاتح «رمل أو فنجان» أو المنوم مغناطيسيًّا أو بعد حفلة «زار».