العقل والعلم والتعليم
المفترض أنه كان للإنسان البدائي منذ ٤٠ ألف أو أكثر، عقل يفكر، والمظنون أن تفكيره كان ساذجًا همجيًّا يماثل تفكير الطفل ونظرته إلى ما حوله، كما يشبه تفكير أفراد الأقوام الهمجية الذين لا يزالون إلى اليوم يعيشون على الفطرة في أفريقيا وآسيا وأستراليا وأمريكا، وكما يبدو مما خلفه لنا الأقدميون من الآثار والخرافات، ثم مما يفكر فيه ويتناقله الجهلاء في الأمم المتحضرة الآن. وليس ببعيد أن البدائيين كانوا جماعات صغيرة متناثرة، وأن أفراد الأسرة كانوا يخشون أباهم ويحترمون أمهم، وأن الأبوين كانا يغاران على أولادهما، وأن الأم كانت، إلى هذا، المستشار الطبيعي والحامي لهم، وأن الحياة الاجتماعية واجهت المرحلة التي كان فيها الآباء حريصين على استبقاء الأبناء في رعايتهم المتواصلة، في حين أن الأبناء كانوا يجاهدون للتخلص من هذه السيادة وللاستمتاع بشيء من الحرية والاستقلال مع ما كان يساورهم من الخوف من المخاطر وسيئات الوحدة. ولقد أبان عالِم السلالات البشرية البريطاني «ز. ز. أتكينسون» في كتابه «القانون البدائي»، كيف أن الكثير من قواعد قانون الهمجيين كقبيلة «الطابو» يدل على إدراك عقلي لحاجات الحياة القبيلية المتطورة.
وعند بعض الباحثين أن الخوف الشديد من الأبوين نهارًا كان يتراءى للصغار في أحلامهم ليلًا، بل كان يلازمهم بعد موتهما؛ إذ كانوا يعتقدون أنهما لم يموتا بل إنهما قد انتقلا إلى أبدية كبيرة السلطان، ومن هنا نشأ الاعتقاد في الأرواح والآلهة وتجسدهم في الأفراد، وفي أن الحيوان مماثل للإنسان روحًا وتجسدًا، وأن من الحيوان الصديق والعدو والإله، وأن للأشجار والنجوم والأنهار والبحار ما للإنسان والحيوان من الاحترام والتقديس، وحق الطاعة والعبادة والخوف والروح وعاطفة الحب والبغضاء. ولقد كان خيال الإنسان البدائي ينسج حول هذا كله من الأساطير والحكايات ما يتناقله الأبناء عن أمهم، بل إن أطفالنا اليوم لا يَفتئون يخترعون القصص الغريبة حول الدمى والحيوان الأليف. وكان الإنسان البدائي، على نقيض «النيانديرتالي» الأبكم، يعرف بضعة الأسماء والكلمات ينطق بها في صورة ساذجة، ويكملها بالأصوات والإشارات. ولم يكن للبدائي علم يقوم على القاعدة المنطقية من استخلاص النتيجة من المقدمة. وكان أهم ما يشغله ويقلق باله أن لا يجد الوفير من الطعام وأن يصاب بالأمراض الفتاكة؛ فعند هذا يستصرخ البدائي إنسانًا أو حيوانًا أو جمادًا؛ لكي يجود عليه بالطعام ويرفع عنه المقت والبلاء، كما أن البدائي كان يعتقد في المئات والألوف من وسائل الشعوذة والسحر والتفاؤل والتشاؤم، مما كان من أثره أن نشأت طبقة من المسنين في الجماعة، ينهضون بعبء رجل الدين وتفسير الأحلام والدعاء والصلاة والطب. ومن هنا استأثر هؤلاء بذلك العلم الساذج الهمجي الذي كان أصلًا للعلم الحديث.
(١) عقل الحيوان
عند بعض العلماء، ولا سيما أنصار مذهب التطور، أن للحيوان أو لبعض أنواعه عقلًا يفكر بعض التفكير، وأن القوى العقلية الحيوانية تختلف عن القوى العقلية الإنسانية في الكم لا في الكيف والنوع. أما علماء المنطق فيغلب أنهم إما أن يعدوا العقل الحيواني يختلف عن العقل الإنساني في النوع لا في المقدار، وإما أنهم يذهبون إلى أنه ليس للحيوان عقل ما، وأن كل ما يبدو من الحيوان من معرفة ليس مرجعه ذكاء أو عقل، وإنما مرجعه الغريزة والتكرار الآلي.
هذا ويدرس علماء النفس والعقل الباطن من المدرسة الحديثة أمثال فرود وبونج ومكدوجال وبودوين، الأحلام والخواطر والجنون كما يدرسون العقل الإنساني والأساطير ومنشأ اللغات والأديان.
وعندهم أن العقل الإنساني قد جاز مراحل ثلاث، أولها مرحلة العقل الحيواني؛ ذلك أن الإنسان في بداية ظهوره على الأرض منذ ملايين السنين كان تفكيره مشربًا بعقل الحيوان، فإذا أسلم الإنسان قياده لخواطره فهناك ينساب هذا العقل فيخيل له الأكلة الشهية أو المرأة الجميلة؛ لأن هاتين الشهوتين هما محور الحياة عنده، فتفكير المراهق يتجه إلى المرأة. وهذا يتسق مع ما نراه من إلحاح هذه الشهوة على الحيوان حين تتقاتل الذكور وتموت من أجلها. وإنما تخف هذه الشهوة حين يخرج الإنسان من طور المراهقة إلى الشباب وإلى الكهولة؛ وذلك لأن الإنسان منذ تكونه جنينًا إلى أن يُحمل إلى القبر يمثل في نفسه تلك الأطوار، التي مرت بالأحياء قاطبة من بدء ظهورها في العالم إلى الآن. فهو في باطن أمه حيوان رابض غائب الذهن أخرس منطرح كالسمك ثم لا هم له بعد أن يولد إلا الطعام. وهذا هو الشأن في تطور أنواع الحيوان كلها، فإنها قضت فترة طويلة وهي لا تعرف الحب، بل لا يزال بين الأسماك ما يلقي الذكر بذره في الماء كما يطرح النخل لقاحه للريح. ثم يظهر الحب والأسرة فيخرج الصبي من الشغف بالحلوى، والنهم للطعام إلى إحساس الحب للجنس الآخر.
ولكن إلحاح هذه الشهوة الجنسية يخف بالتقدم في السن. وكما أن الشاب خرج من طور الطفولة من حيث الطعام فلا يجعل للنهم من السلطة عليه مقدار ما للصحة، كذلك الكهل يخرج من غرام الشباب وإلحاح الغريزة الجنسية إلى تسليط العقل الحديث ومراعاة المصلحة العائلية.
هذا وقد أمضى الإنسان نصف مليون سنة على هذه الأرض بعد الحالة الحيوانية خلال ملايين السنين إلى المرحلة الثانية؛ أي الهمجية، فكان أبكم أو شبيهًا بالأبكم لا يحمل من الآلات إلا أجفاها، يعيش منعزلًا لا يعرف الاجتماع، حظه من الثقافة قد لا يزيد على حظ طفل عمره ثلاث سنوات، يقتل خصمه من أجل جذر من اللفت، ويأكل العصفور أو الصرصور، ويقتل زوجته إذا رآها آثرت نفسها عليه في ثمرة فجة أو بضعة من لحم، ويخشى الظلام والوحوش وينتفض من تهافت ورقة جافة أو من رؤية ثعبان أو قنفذ.
فالخوف هو طابع الإنسان الهمجي، وهو ما ورثه الإنسان الحاضر عنه. والغيظ أو الحقد كلاهما يعمل في النفس عمل الخمر فتستيقظ كفاياتنا القديمة وتكبت كفاياتنا الجديدة. وقد تمر بنا ساعات نستذكر أو نردد فيها إهانة لحقتنا من أحد الناس، فنرى يدنا تنقبض ونحن لا ندري ثم يجري خيالنا بالعصا الغليظة ننزل بها على أم رأسه ضربًا وخبطًا، ونحن نصحب هذا الضرب باللعنات الدسمة ونشعر عندئذ بالراحة. والواقع أننا نستريح؛ لأننا نرضى بهذا الخيال، هذا الجد الهمجي القديم الذي يضمره كل منا في نفسه، والذي نكبته أحيانًا في يقظتنا فيتغفل عقلنا الواعي ويبدو خواطر لذيذة أو أحلامًا نرى فيها هذا الخصم مقهورًا أو مقتولًا. وقد مضى على هذا الإنسان نحو ٧٠٠٠ سنة، وهو يعيش مجتمعًا له ثقافة الزراعة ولكنه لما يمحُ هذا العقل الهمجي القديم.
وبعد العقل الهمجي ظهر تحضر الإنسان بتعلم الصيد والاجتماع ثم بالزراعة وهذه هي المرحلة الثالثة للعقل. وفي هذه المدة تثقف الإنسان بأشياء عديدة فعرف اللغة والكتابة والبناء والمحرمات في الزواج والملكية وعرف الحرب والصناعة والطهي والخبز، ثم نشأت له أديان ونبتت عليها آداب من شعر وقصص وأساطير. هذا هو عقل الحضارة القديمة، عقل الأدب.
وإذا قلت عقل الأدب فإنما أقصد به عقل الخواطر، فإن الأدب يختلف من العلم بأنه يجري مع الخواطر؛ لأنه عند التحليل لا يعدو أن يكون خيالات العقل الباطن تجري في غيرما تكلُّف أو عناء في قصيدة أو في قصة. ومن هنا كانت الكتب القديمة هي كتب آداب من أشعار وأساطير وليست كتب علوم؛ لأن «هوميروس» صاحب الإلياذة يسبق على الدوام «أرخميدس» صاحب المخترعات والآلات. وهذه قاعدة تجري على إطلاقها عند جميع الأمم. وماذا نعرف نحن عن العربية الجاهلية سوى الأشعار، وماذا نقرأ من مؤلفات المصريين القدماء سوى قصصهم وأساطيرهم. فالأدب هو موضوع كتب الحضارات القديمة؛ لأنه ثمرة الخواطر غير المقيدة التي لا يقفها نقد أو تعوقها مراجعة أو يعتورها تحقيق.
والعقل الأدبي يسبق العقل العلمي. وتجارب الفرد هي صورة مصغرة لتجارب الأمة. ولكن كما أن الكهل يعدو طور الغرام الملح الذي يغمر نفس الشاب، ويشرع ينظر إلى الحب نظر المصلحة العائلية، كذلك العقل العلمي الذي هو عقل الثقافة الحديثة قد شرع يتغلب على العقل الأدبي.
تابع العقل الأدبي العلمي تطوره ونضجه خلال الحضارات القديمة إلى الحضارات الحديثة، فأصبح عقل الثقافة الحديثة هو العقل الجديد؛ عقل العلم والاختراع والكشف، وخرج من الأدب إلى المجادلات اللفظية التي نرى بذرتها في أرسطوطاليس، والتي تجدها في كتب الغزالي وابن رشد وكتب اللاهوتيين من الأوروبيين. وهذا التحقيق في الألفاظ والتعارف إنما كان رياضة ابتدائية للتحقيق في الحقائق ذاتها.
فالعقل العلمي هو أحد العقول المضمرة في النفس الإنسانية، وهو لذلك أقلها نباتًا لم تضرب له عروق ولم تتسق له فروع في أنفسنا. ومن أجل هذا توقظ الحوادث في نفوسنا، عقولنا البائدة أو الخفية الباطنة، مستعيدين غرائزنا الحيوانية والهمجية. وحسبنا من الشواهد على هذا ما يبدو من المخمورين والهاذين والغاضبين والمجرمين والمتضاربين والمتقاتلين، والجائعين من أمارات الحيوانية وضروب الهمجية.
(٢) العلم والأدب
العلم — في المعنى الواسع — مرادف للمعرفة والتعلم والتلقي. ومن هنا يستطاع إطلاق «العلم» على أي شيء يوصف ويعرَّف، بتشديد الراء، وعلى الإبانة عن أي فرع يقصد إليه. أما في الإطلاق الاصطلاحي العام، فإن المعنى يكون أكثر تقييدًا بأن نميز العلم عن فروع المعرفة تمييزًا دقيقًا، فيمكن تعريفه بأنه المعرفة المنظمة للظواهر الطبيعية والصلات التي بينها، فهو لفظ موجز للعلم الطبيعي.
هذا وبينما العلم مادته العمل والأثر، ونطاقه دراسة القضايا العامة؛ فإن الفن مادته الفكر والنظر.
فمادة العلم إذن هي الطبيعة أو المادة وقوانينها الثانية المطردة النسق العامة الصبغة المجردة من النوازع الذاتية، وهذا يتطلب تعاون العقول جميعًا لإعداد القواعد العامة الثابتة.
أما مادة الأدب: فالطبيعة الإنسانية والخيال العقلي.
هذا وقد شرعت الشعوب القديمة تتحسس «العلم» بما كان يبدو من تتبعها للأحداث الطبيعية وتحديقها في ظواهر الطبيعة، ومن أمثلة هذه: حركة الأجسام السماوية، واتخاذ الأدوات الساذجة الخشنة التي كانت تعاون الإنسان على مضاعفة السهر على سلامته وراحته. ولا بد أن يكون العلم البيولوچي قد بدأ أيضًا عن طريق تتبع حياة النبات والحيوان النافعة للإنسان والجراحة والطب الاختياري والتدجيل. ثم إن الإنسان، حين ارتقى مستواه، قد وسعه أن يحيط بالمعرفة المنظمة مبتدئًا بإدارة الأسئلة حول معنى الظواهر وأسبابها، وبإدراك ما بينها من العلاقات.
ويبدو أن الإنسان قد خال أن ما كان يشهده من التغييرات والأحداث، إنما كان من أثر تدخل كائن غير منظور مثل عجلة إله الشمس التي حسبها مسوقة في السماء يومًا بعد يوم، كما حسب أن السحب فيها بقر يدر اللبن فينزل من السماء إلى الأرض مغذيًا تربتها بالخصوبة! صحيح أن هذه الأساطير صبيانية، لكنها تنم، ولا ريب، عن التقدم نحو الشعور بحاجة الإنسان إلى توضيح ما يرى. إنها فروض هيأت إلى تعرف الجمال والإلهام الشعري والفني، قائمة بمهمة أولية وخطيرة في التمهيد إلى بحث أوفى، مكسبة معرفة مفيدة وعظيمة في التحليل المنطقي قبل أن تتأيد هذه الإيضاحات الأولية. هذا وثَم نظريات صحيحة قد لا ينتفع بها في عصر الهمجية، كنظرية «نيوتن» في الثقل، في حين أن النظريات الباطلة كان ينتفع بها يومئذ، وأن النظريات الصحيحة مجدية في عصر الحضارة.
ولعل ظواهر السماء كانت أول ما استرعى نظر الإنسان الأول؛ ولذا كان علم الفلك على رأس العلوم الإنسانية. فقد برهنت آثار ما قبل التاريخ على أن الإنسان البدائي كان يعرف شيئًا من الملاحظة التنجيمية، وعلى أن الكلدانيين قد عرفوا شيئًا من قوانين الكسوف والخسوف.
وعن آسيا أخذ اليونانيون الأفكار الأولى للعلم، وفي فلسفة ثيلز ميليتاس (٥٨٠ق.م) وفلاسفة اليونان، يتبين المثل الأول في تقدم النظرة المثيولوچية للطبيعة، ثم جاء أناكسمينز فأيد دوران السماء حول النجم القطبي، ذاكرًا أن القبة التي فوقنا نصف دائرة كاملة، وكانت الأساطير تصور الأرض محرومة من قاعدة تمتد إلى الأعماق؛ أي لا عمق لها، وأنها تركت حرة لتكون كأسطوانة سطحت عند مركز الكرة الكستيلية. هذا ويبدو أن أناكسمينز قد عرف أيضًا مذهب تناسق الطبيعة القاضي بأن جميع التغييرات المادية لا بد أن يكون لها سبب حقيقي.
بعد هذا جاء الفيثاغوريون فبسطوا هذه النظريات: فعندهم أن الأرض ذاتها قد تكون دائرة تدور حول نقطة مركزية ثابتة كحجر في طرف خيط، وأن الجزء غير المسكون من الأرض هو النقطة الثابتة. أما الجزء المسكون فهو يواجه الأجزاء المختلفة للسماء. وقد وضعوا في النقطة المركزية الثابتة نارًا عامة كنار المذبح تستخدم كمركز لدوران الأرض العابدة. ثم إنه في القرن الرابع قبل الميلاد لم يأت الكشف الجغرافي بما ينبئ عن أية علامة على هذه النار المركزية، بل إن فكرة وجود النار قد ماتت وحل محلها نظرية دوران الأرض حول محورها. وكان عند «أريستارخوس في ٢٨٠ق.م» أن الشمس أكبر من الأرض، وأنه لا بد أن تكون الأولى دائرة حول الثانية، غير أن أكثر معاصري «أريستارخوس» لم يحفلوا بنظريته، فلبثت الأرض قرونًا مركز النشوء.
هذا وفي الوقت الذي ولد فيه علم الفلك، ظهرت مسألة المادة. ذلك أن الفلاسفة الطبيعيين الأبونيين كانوا يتتبعون سير التغييرات من الأرض والمادة إلى تركيب جهاز النبات وأجسام الحيوان. ومن هذا التتبع نشأت نظرية أن المادة لا تفنى.
(٢-١) الإحصاء وتعداد النفوس
يفسر «معجم ليتراي» لفظة إحصاء بعلم غايته إظهار مساحة البلاد وعدد سكانها ومواردها الزراعية. هذا ويبدو أن باو إمبراطور الصين أمر في سنة ٢٢٣٨ قبل المسيح بإحصاء رعاياه وتقدير مقتنياتهم. أما موسى فقد أحصى الشعب العبراني على ما هو مبين في سفر العدد بالتوراة؛ وذلك قبل المسيح بسبعة عشر قرنًا، وأُحصي الشعب الفرنسوي سنة ١٣٢٨. وكان نابليون الكبير شديد العناية بالإحصاء، ففي سنة ١٨٠١ أمر بإحصاء الشعب الفرنسوي. ومنذ ذلك الحين اتسعت دائرة الإحصاء، فأول إحصاء قضائي حدث سنة ١٨٢٥، وأول إحصاء تجاري وصناعي تم في سنة ١٨٣٤، أما أول إحصاء في السكك الحديدية فقد كان في سنة ١٨٤٦.
هناك نظريتان عن تعداد النفوس والإحصاء، أولهما أن الإنسان البدائي لا يمكن أن يكون قد عرف ذلك. أما النظرية الثانية فلا تجعل معرفته بالتعداد والإحصاء أمرًا مستحيلًا. يبدو هذا كما ذكرته التوراة من أن داود أحصى شعبه. وكان الغرض من الإحصاء تعداد الرجال للحرب وتقدير الجباية. وكان الرومانيون، لما طبعوا عليه من النظام، مغرمين بالإحصاء؛ فقد ذكر الإحصاء وتعداد نفوس في عهد أوغسطس إمبراطور الدولة.
أما في القرون الوسطى فكان الإحصاء من أجل تقدير الرجال والمال للأغراض الحربية. أما الإحصاء الحديث فيبتدئ من سنة ١٧٤٩ حين أحصت السويد سكانها إحصاء لا يختلف عن الإحصاءات التي تجريها الحكومات الآن من حيث المبدأ. وفي سنة ١٧٥٣ حاولت الحكومات الإنجليزية أن تجري إحصاء فرفض البرلمان؛ لأن الأعضاء شعروا أن الغاية من هذا الإحصاء هو معرفة الزوايا التي تختبئ فيها الثروات بغية فرض ضرائب عليها؛ وذلك لأن في ورقة الإحصاء أسئلة خاصة عن مقدار الدخل وماهية الصناعة وما إلى ذلك. أما الإحصاء العام الآن في جميع البلاد المتدينة فهو يؤخذ مرة كل ١٠ سنوات أو مرة كل ٥ سنوات. ويذكر فيه هل الشخص متزوج أم أعزب، أبله أم عاقل، أعمى أم مبصر، وكذلك قيمة دخله وصناعته وما إلى ذلك.
ونحن في غنى عن بيان ما للتعداد والإحصاء من الفوائد والضرورات.
(٢-٢) علم الطب والصيدلة
ليس من اليسير تقصي فكرة العلاج والطب واتخاذ الأدوية، وإن كانت الأمراض قد صاحبت الإنسان منذ ظهر على الأرض. غير أننا سنذكرها شيئًا عن الطب القديم.
النصوص القديمة للطب
تقسم أعضاء الجسم، فنذكر أمراض الرأس ودواءها، وأمراض الصدغين فالأذن فالعين فالصدر، كما نذكر الحمى الباطنية والسعال والبلغم وضيق التنفس وضيق الصدر والأمراض الجنسية والتناسلية والنسوية والأعصاب والعضلات والطفح الجلدي الدموي، والعلاج بالعمليات والرياضيات والتدليك والبخور والحمَّام الساخن، والأعشاب ومستخرج الأشجار كالتين والكمثرى والثوم والبصل والسمسم والورد والمر، وأنواع الحيوان والطيور والمعادن النحاسية والبرنزية.
أيا رب الحكمة وإله المعرفة والجد الأكبر للأطباء وسيد البحار والأمواه والجاعل من الماء كل شيء حي.
هذا وقد قُدس الثعبان قديمًا؛ لأن جلده ثوب يجدد شبابه وحياته فهو خالد لن يموت!
ثم إنه قد وجدت في مكتبة آشور بانييال ملك آشور في القرن الثالث عشر قبل الميلاد نقوش بابلية قديمة تصف الأمراض والعقاقير، فهناك عمود به الدواء والثاني الداء والثالث استعمال الدواء.
(٢-٣) الأدوية
يقال إن هناك وصفًا لدواء يستنشق للشفاء من الزكام على لوح من الحجر تاريخه ٣٧٠٠ قبل الميلاد.
(٣) التربية والتعليم
كان العلم وقفًا على القلة المحدودة من أبناء القبيلة أو الأمة. ومن هنا كانت فكرة التعليم والتدريس ساذجة جاءت مقترنة بالرغبة في أن يطيع المرءوسون والعبيد السادة بعبادة الآلهة والانتظام في الجندية وحضور حلقات الرقص والأناشيد في الأسواق والحفلات. وقد بدأت المدارس في غيرما تنظيم لساعات الدراسة أو تخصيص أمكنة لها، وظهرت مع ظهور الفلاسفة الذين كان يحلو لهم التحدث إلى الأطفال والصغار.
هذا وفي بعض الأساطير والرسوم الأثرية في مصر وآشور وأورشليم «القدس» والصين، ما يدل على أن نشأة التدريس ونظم التربية خاصة العسكرية قد ظهرت قبل عصر التاريخ في صورة أولية غامضة وساذجة.