اللغة والكتابة والطباعة
(١) اللغة
اللغة هي مجموع الألفاظ التي تنطق بها أمة من الأمم وتشيع بين أفرادها، الذين يستخدمون هذه الكلمات أداة للتعبير عن أخبارهم، وتبادل الأفكار بينهم أو قل إن اللغة هي قوة التعبير عن مشافهة.
هذا وتُطلق اللغة على النطق والتكلم والقوة الناطقة كما تطلق على الألفاظ، التي يعبر بها المتكلم عما يخالج نفسه من المعاني الآتية إليه من الإحساس والشعور وقوى التفكير؛ ولهذا تُعرف بأنها العمل العقلي المتكرر دائمًا لإبراز الفكر الإنساني في أصوات منظمة وألفاظ مؤتلفة.
ويرجع هذا الإطلاق إلى «الأنثروبولوچيا»؛ أي علم الإنسان، أو على الأخص إلى دائرة من العلوم الطبيعية «الفيزيولوچيا»، ثم إلى علم النفس الذي هو بحث من بحوث علم اللغات «الفيلولوچيا» وهو الجانب المادي؛ لأنه مجموعات الألفاظ التي تختلف تبعًا لاختلاف الأجناس البشرية والأمم والشعوب. وهي إما ألفاظ كانت مستعملة قديمًا، أو ما زالت في دور الاستعمال كاللغات الحالية.
وعند الكتب المقدسة أنها هبة إلهية وصلت من الرب إلى الإنسان، وثمة مذهب آخر يقول إنها ترجع إلى نشأة طبيعية هي التدرج الفكري المرتبط بطبيعة الإنسان، وتكوين أعضاء النطق فيه من حنجرة وحلق وخيشوم ولسان وأسنان وشفتين، مع ما للقوى الفكرية من أثر في تحريك تلك الأعضاء.
تتحرك هذه الأعضاء المستعدة للحركة عند الإنسان. وبفعل الحركة يدفع أصواتًا ساذجة من فمه كأصوات الطفل قبل النطق. وهذه الأصوات الساذجة تساعدها الإشارة باليد والإيماء بالرأس والدلالة بالكتف؛ أي إن الإشارة بالحركات المتنوعة قد نشأت بتنوع الدواعي والأغراض، وكانت الأصوات تتدرج في النمو والوضوح بتدرج الإحساس والشعور.
ثم بلغت اللغة مرحلة تكوين المقاطع بمحاكاة الطبيعة بما يسمعه الإنسان من الأصوات كحفيف الأشجار وخرير الماء. ثم جاءت مرحلة تركيب المقاطع فتكونت الكلمات. وظهرت ألفاظ قليلة العدد، زادت تدريجيًّا. ثم نشأت لها ضوابط باسم القوانين أو القواعد اللغوية، كما ظهرت لها فنون وتوقيع من نثر ونظم.
•••
هل هناك لغة واحدة تفرعت عنها سائر اللغات؟
يرى الباحثون أن الجواب على هذا يرجع إلى تاريخ نشأة الإنسان على الأرض، فإن كانت نشأته في بقعة واحدة كما يرى المذهب الديني، كانت هناك لغة واحدة تفرعت إلى لهجات كثيرة في أعقاب أبناء نوح، بعد تبلبل الألسنة في حادث بناء بابل وبرجها الكبير وفاقًا لرواية التوراة. أما إذا كان الإنسان قد نشأ في جهات كثيرة، وهو ما يذهب إليه علم الحياة «البيولوچيا» وأصول الأحياء، فإنه لا توجد له لغة واحدة أولى، بل نشأت له من أول الأمر لغات كثيرة متعددة بتعدد الجهات والجماعات.
(١-١) أقسام اللغات
قسم العلماء اللغات الإنسانية عدة مجاميع، اشتركت كل مجموعة منها في خصائص لفظية، وصلات تكوينية في اللفظ والتركيب والأسلوب والقواعد.
أما أقدم اللغات التي وصلت إلينا متمتعة بالقواعد الدقيقة والتنسيق اللفظي والجمال الفني، فهي اللغة المصرية القديمة «الهيروغليفية» والسنسكريتية والإيرانية القديمة والبابلية.
(١-٢) علم اللغات
«الفيلولوچيا» معناها بالعربية علم اللغات والكلمة مؤلفة من «فيلوس»، ومعناها محب أو صديق أو مؤثر و«لوجوس» معناها كلمة أو كلام أو فن. أما «الفيلولوچ» فهو مؤثر الكلمة الباحث فيها. وعلى هذا كان علم اللغة، هو العلم الباحث عن جميع النواحي العقلية الإنسانية لدى كل أمة من الأمم المعنية بدراسة اللغات. ومن أجل هذا كان هناك «الفيلولوچيا» المصرية أو الهندية أو العبرية أو الكلاسيكية؛ أي العالية الرتبة أو المحتذاة التي كان لها بعد عصر النهضة أربعة أدوار: الدور الطلياني من منتصف القرن الرابع عشر إلى منتصف القرن السادس عشر؛ والثاني الفرنسي إلى أواخر القرن السابع عشر؛ والثالث الإنجليزي الهولندي إلى آخر القرن الثامن عشر؛ والرابع الألماني.
(١-٣) مجاميع اللغات
هذا وقد قسم المستشرقون اللغات مجاميع، تشتمل كل مجموعة منها على طائفة من اللغات، التي بين بعضها والبعض الآخر قرابة أو مشابهة في الألفاظ والتراكيب والقواعد والتفكير، على أن يكون هذا التقسيم تابعًا إلى تقسيم النوع الإنساني إلى أجناس بشرية.
وكان أول تقسيم للأجناس البشرية هو تقسيم التوراة التي أرجعت النوع الإنساني، على تعدد قبائله، إلى الأشخاص الثلاثة وهم: سام وحام ويافث. وهناك تقسيمات طبيعية أخرى ترجع في تكوينها إلى طبيعة الإنسان من حيث الألوان والمشخصات الفطرية والأماكن والأوساط. وكيفما كان الأمر، فإنه توجد جماعة متحدة في النشأة والمكان واللون كونت جنسًا بشريًّا عظيمًا اتصلت شعوبه اتصالًا وثيقًا، وارتبطت بكل الروابط الطبيعية والاجتماعية التي تجعلها حقيقة جنسًا بشريًّا ممتازًا على مبدأ أي تقسيم. ويُعرف هذا الجنس في رواية التوراة بالجنس السامي. كذلك الجنس الحامي قد أخذ وضعًا مثل الوضع المتقدم للجنس السامي. ومعنى هذا أن الجنسين قد بقيت لهما التسمية والوحدة الجنسية حتى إن بعض المراجع عدهما جنسًا واحدًا يعرف بالجنس السامي والحامي، لما وجد من الامتزاج بين أمم هذين الجنسين في اللغات وتطور الجماعات.
أما الجنس اليافثي فهو ليس معروفًا إلا في تقسيم التوراة؛ أي في التقسيم الديني. أما في النظر الطبيعي فإنه يسمى الجنس الآري أو الهندوجرماني.
كذلك أضاف النظر الطبيعي إلى الأجناس الثلاثة أجناسًا أخرى كثيرة كالهندية الصينية، والملايوبو لونيزية، والأدرويدية، والأورالتائية، والأسترالية والأمريكية والباتورية واللغات المنعزلة.
المجموعة السامية
القسم الشرقي ولغاته: البابلية والآشورية والكلدانية الآرامية. والقسم الغربي: الكنعانية والأخلامية والفينيقية والبوتية والآرامية والعبرية، والسريانية، والتذموية، والموأبية، والأمورية.
والقسم الجنوبي (الفرع العربي ولهجاته): العربية القديمة أو الآرامية والقحطانية والحميرية والمعينية والسبئية والعدنانية المصرية، أو القرشية الفصحى.
أما لهجات الفرع الحبشي فهي: الحبشية أو الأثيوبية والجعزية والتيجرية والتجرينائية والأمحارية والهررية.
المجموعة الحامية (القسم الشمالي): اللهجات البربرية في شمال أفريقيا والليبية. القسم المصري القديم: الهيروغليفية أو المقدسة الهيراطيقية والديموطيقية والقبطية. والجنوبي الأثيوبي فروعه: اللهجات الغلية والصومالية والباجية والقلاشية والدنطالية والأجاوية والساهوية والبلينية.
وبعد أن تفرعت عن الأثيوبية الحبشية الحامية اللهجات الحامية المتقدمة، امتزجت بالعربية السامية، وهي اللهجة السبئية، امتزاجًا جعل عناصرها الحامية تتلاشى أمام العناصر العربية السامية، فأصبحت الحبشية من اللغات السامية، هذا واللغة مكتسبة أصولها من محاكاة الأصوات الخارجية، وما يخرجه الإنسان من الأصوات اختيارًا أو اضطرارًا.
وكانت اللغة أصواتًا حيوانية ثم تطورت. فاللغة البدائية أو الهمجية قليلة الكلمات لا تزيد على ٣٠٠ كلمة، ولغة المتحضرين واسعة، ففي الإنجليزية ربع مليون كلمة.
(١-٤) ألف باء
ألف باء مأخوذة من اليونانية وهي تعني سلسلة من الرموز المتعارف عليها دالة على صوت مفرد أو أصوات متجمعة.
ولقد كان الفينيقيون يستعملون الهجائية في القرن التاسع ق.م في طلاقة تدل على أنهم قد عرفوها قبل ذلك. ويقال إن الهجائية الفينيقية مأخوذة من الهجائية الهيراطيقية المصرية للمشابهة القائمة بين رموزهما.
(١-٥) لغة الإشارات
واللغة ليست مقصورة على النطق باللسان، بل إن من اللغة: الإشارة باليد والإيماء بالرأس وهز الكتف، وغض البصر والتحديق بالعين والابتسام بالشفة، والوضع الذي يكون عليه الجسم اعتدالًا أو ميلًا. وقد اتخذت الأبواق والأعلام وطريقة تحريكها والموسيقى والإشارات، لغة في الجيش و«الشفرة» في المخاطبات الدبلوماسية.
هذا واللغات الحية تختلف عن اللغات السابقة كاللغة السريانية عن الكلدانية القديمة، والإيطالية عن اللاتينية، والقبطية عن المصرية القديمة والسريانية والكلدانية القديمة أو الآشورية لغة واحدة، واليونانية الحديثة واليونانية القديمة لغة واحدة. أما من حيث حيوية اللغة، فعندنا أنها لا تُعد حية إلَّا متى كانت خاضعة للنواميس المتسلطة على الأحياء وأهمها النمو والدثور. فاللغة لا تنمو إلا إذا كانت شائعة على ألسنة العامة.
(١-٦) هل اللغة هي ميزة الإنسان؟
عرَّف المنطقيون الإنسان تعاريف مختلفة، فقالوا إنه «حيوان ضاحك»، فلما وجدوا بعض أنواع القردة تضحك عدلوا عن هذا التعريف، وقالوا إنه «حيوان اجتماعي»، فلما وجدوا بعض أنواع الحيوان كالكراكي وغيرها تجتمع مئات وألوفًا في أماكن معلومة في أزمنة معينة، كأنما تعقد مؤتمرًا أو مجمعًا سياسيًّا أو ندوة علمية قالوا إنه «هو حيوان منتصب القامة»، فلما وجدوا بعض القردة تنتصب مثل انتصابه، قالوا إنه — الإنسان — «حيوان صانع»، ولما رأوا بين أنواع الحيوان ما يستطيع أن يقوم بصناعات يعجز عنها، قالوا إنه «حيوان كاتب»، ولما اعترض عليها بأن الكتابة ليست صفة لازمة للإنسان قالوا إذن هو «حيوان ناطق». أما المنطق فلا يراد به مجرد التكلم أو التفاهم إذ قد يكون بين بعض أنواع الحيوان لغة يتفاهم بها أفراده. ولعل نباح الكلب ومواء الهر وخوار الثور وصهيل الفرس، ونهيق الحمار وتغريد الطيور ونقيق الضفدع؛ لغات يتفاهم بها أفراد كل نوع منها فيما بينها؛ إذ لا يشترط في اللغة أن تكون أصواتها مقطعية.
على أن أصوات الإنسان إذن امتازت بتقطعها، ففي بعض أنواع الحيوان خصائص صوتية يقصر عنها الإنسان كأصوات بعض الطيور والهوام، فامتياز أصوات الإنسان بالمقاطع لا يجعلها منفردة، ولا يمنع وقوع التفاهم بين سائر أنواع الحيوان.
فالنطق الذي ميزنا به الإنسان هو غير اللفظ. وربما صح تعريفه بأنه القوى الخاصة بالمتكلمين، أو هو القوى المنطقية التي يدركون بها الأحكام المنطقية كالقياس والبرهان وما جرى مجرى ذلك. على أننا لا نستطيع الجزم بأن الحيوان الأعجم خلو من هذه القوى أو بعضها أو ما يقاربها ويشاكلها.
(١-٧) رأي في اللغة
عند «الدكتور أحمد زكي بك المدير العام لمصلحة الكيمياء» أن اللغات ليست بالشيء الذي يولد مع الإنسان كأنفه ولونه وسلامة هضمه أو فساده، بل هي من إرث المجتمع، يتعلمه المولود في نشأته كما يتعلم أمور الحياة الأخرى، بديهي أنك لو أخذت طفلًا مصريًّا فأودعته بيئة فرنسية لشب، وهو لا يستطيع أن ينطق الصاد والظاء والعين ثم يكون أخنف النطق، ولو أخذت طفلًا فرنسيًّا فأودعته بيئة مصرية لنطق بكل ذلك كل منطقه من فمه دون أنفه. ولو أخذت طفلًا مدنيًّا وأودعته بيئة قرود لشب يصيت كما تصيت القرود. فاللغة من كسب الفرد في الجماعة، وهي في الجماعات من كسب الأجيال. ويرى العلماء أن الناس جاء عليهم دور في أدوار التطور الأولي لم تكن اللغات المنطوقة فيهم بالشيء المذكور.
وقد فحص بعض العلماء جماجم رجال عثروا عليها في حفائر في الأرض لعصور ما قبل التاريخ؛ رجاء أن يجدوا فيها الدليل على أن أهل تلك العصور لم يكونوا يستطيعون الكلام المنطوق، ومهما يكن من أمر هؤلاء وما حصلوا عليها من نتائج، فإن اتجاههم هذا نذكره لتوكيد المعنى الذي نريده من أن اللغة الإنسانية المنطوقة شيء مصنوع من ميراث الدهر، يجري عليها ما يجري على المواريث من قلة وكثرة، وضيق واتساع. وقد تتعاون الظروف، أو في مكنة الفكر أن يتصور ظروفًا تنعدم فيها لغات الكلم، أو تتضاءل حتى تكون كالعدم، دون أن تؤثر على مطالب الحياة الأولى من طعام وشراب، ومن إنسان يمتد به الوجود ويتسلسل. وبين سكان هذه الأرض آدميون يعيشون في مجتمع لا تزيد أفراده على المئات يتكلمون لغات لا يفهمها مجاوروهم من أهل المجتمعات الصغيرة الأخرى. ولكن أي لغات هذه؟ لا شك أنها لغات كأبسط ما تكون اللغات، ضيقة كضيق حاجات هذه المجتمعات من أمور العيش.
إن لفظة اللغة تنصب أكثر انصبابها على لغة الكلام، وهي لغة قد امتاز بها الإنسان وحده، مازه بها رئة مرنة وعضلات حلق مختلفة متسقة، وأحبال صوت فيه متقاصرة متطاولة، ثم شفة ولسان تتآلف جميعًا على إخراج أنواع من أصوات كثيرة لا يكاد الحصر يحصيها. وحسبك من تعددها أن اللغة الواحدة بها ما يقرب من ثلاثين حرفًا يحرك كل منها ثلاث حركات أو أكثر، عدا ما يستطيع الفرد أن يحدثه في نغماتها من رفع وخفض على درجات شتى، وترقيق وتغليظ على درجات شتى كذلك، ثم ما يستطيعه من تأليف بينها وصناعة ما نسميه بالكلمات وهي في لغة البشر ألوف مؤلفة.
فلغة الكلام لغة أصوات راقية معقدة، آلتها حناجر راقية معقدة لحيوان راقٍ معقد. حسها الأذن، فهي لغة آذان.
وإلى جانب هذه اللغة توجد لغة أخرى تعتمد على الحركات والإشارات، وهي تُحس بالعين؛ ولهذا نسميها لغة العيون. والإنسان في أدنى دركات الترقي تقل لغته الأذنية؛ أي لغة الكلام، وتكثر لغته العينية؛ أي لغة الحركات والإشارات، حتى قيل إن في القبائل الإنسانية قبائل لا تستطيع أن تتفاهم في الظلام.
على أن الإنسان في أرقى مدنيته وأرفع ثقافته، لم يتخلص بعد من لغة العين؛ راقب رجلًا يتحدث، لا سيما حديثًا حارًّا مفعمًا بالمشاعر، تجد يده لا تفتأ مرفوعة مخفوضة مبسوطة مقبوضة، ترسم في الهواء المستقيمات والمنحنيات وما يخطر على بالك من أشكال وما لا يخطر، وانظر لها تندق على المنضدة اندقاقًا، وانظر إلى عضلات وجهه كيف تنبسط وكيف تنقبض، وإلى عينه وحاجبه كيف يضيقان ويتسعان. ومن الناس من لا يكفيه التفاهم بالأيدي فيستعين بالأرجل توكيدًا للكلم المسموع.
وقد تتعطل لغة الكلام أصلًا عند الإنسان، وتحل مكانها لغة الإشارة؛ لغة العين. تسأل المريض: كيف حالك؟ فيقطب من وجهه ويمد في شفتيه، فتعلم أنه سيئ الحال. وينظر الرجل إلى المرأة نظرة الطلب، فترد عليه بنظرة هي الرفض، واللسان لم يتحرك. والمجرمون في بعض الأمم الحية لهم لغات كلها إشارية عينية، تعددت ألفاظها وكثرت معانيها حتى صارت ترقم وتدون. ولبعض قبائل الهند الغربية لغات بالإشارة أكثر اعتمادهم عليها. والجيوش تتفاهم من بعيد بالرايات يحركونها حركات مختلفات، وبالمرايا يعكسون عليها ضوء الشمس أشكالًا. وكل هذه لغات عينية مدروسة، ولغة الخرس لغة أشكال فهي لغة عين. واللغة الهيروغليفية لغة أشكال فهي لغة عين. بل كل ما كُتب في الكتب وحُبر في الأوراق، إنما هو لغة عين برغم اتصاله الوثيق باللغة المرقومة.
ولا يظنن أحد أن لغة العين هي دائمًا دون لغة الأذن قيمة أو أقل منها في الأداء، فالصورة الزيتية البديعة يرسمها لك الرسام فتحمل إليك من المعاني ما لا تحمله الكلمات. والنظرة الحبيبة تبعث بها إليك النفس الحبيبة فتعجز عن كامل وصفها عباقرة الشعراء. والنكتة على المسرح تسمعها من المذياع فلا تقع من نفسك موقعها وأنت حاضر المسرح. وكثيرًا ما تسمع الضحكات العالية تنطلق في الحاضرين فلا تفهم لها من على الأثير معنى؛ لأنها نكتة إشارة انتقلت إليهم بواسطة العين دونك.
هذا في الإنسان. أما الحيوان فلا شك أن للحيوانات لغة كالإنسان هي لغة أذنية وعينية معًا، ولكنها لغة بسيطة بمقدار بساطة تركيب هذه الحيوانات، أو على مقدار بساطة حاجات هذه الحيوانات في الوجود، أو على مقدار ما تجنح إليه هذه الحيوانات من اجتماع. فمن الحيوان ما يعيش عيشة انفراد وانعزال لا يعرف السرب والثول والقطيع، فهذا لا لغة له، أو لا تكاد تكون له لغة، ومنها ما يعيش أسرابًا أثوالًا قطعانًا، فهذا له لغة؛ لغة أصوات ولغة حركات، وكلما اتخذت هذه الأسراب والأثوال شكل المجتمعات، وكان فيها من التعاون نصيب وافر كالذي يكون في المجتمعات، زادت لغة أفرادها تصنفًا واتساعًا. ومن هذه الحيوانات النحل والنمل والزنابير.
(١-٨) الغناء واللغة
يبدو أن الغناء من أول ما عرفه الإنسان قبل عصر التاريخ. وأنه كان لغته الأولى، فقد كان ذلك الإنسان يغني أكثر مما يتكلم، وقد حفظت العصور القديمة الأولى الأغاني التي تضمنت تاريخ الشعوب القديمة، بل إن هذا لا يزال شأن القبائل الهمجية إلى اليوم. وإن الأغنية لتماثل مواء القط ونباح الكلب وتغريد الطير.
(١-٩) ألفاظ الحيوان في اللغة
للحمام هديل وهدير، وله كذلك سجع ونوح وحنين، ويقال قاقت الدجاجة قوقأة وزقا الديك زقوًا، أما صوت الغراب فنعيق ونعيب، وصوت العصفور زرزرة، وصوت الصقر صفير، وصوت النسر نقيض، فيقال انقض النسر أو البازي.
(١-١٠) لغات العالم
تقسم لغات العالم قسمين عظيمين: راقية، وغير راقية. وهذه الأخيرة تشمل أدنى اللغات وفيها اللغات الزنجية، وهي التي يتفاهم بها سكان جنوب أفريقيا، والأمريكية التي كان يتفاهم بها هنود أمريكا، واللغات الصينية وغيرها من اللغات المؤلفة من مقطع واحد ولا فرق فيها بين الاسم والفعل والحرف.
أما الآن فتقسم اللغة ثلاث طوائف كبيرة وهي: السامية، والآرية، والطورانية. أما الطورانية: فتشتمل على اللغات المنغولية والتنقاسية والأوغرانية، وتسمى أيضًا لغات غير متصرفة؛ أي إن ألفاظها غير قابلة للتصريف، وإنما يحصل فيها الاشتقاق بإضافة زوائد على أصل مادة الفعل، وأرقى لغات هذه الطائفة اللغة التركية. أما الطائفة الآرية فتشتمل على لغات أوروبا والهند وفارس وكردستان، وتسمى أيضًا اللغات اليافثية؛ لأن أغلب المتكلمين بها من نسل يافث، وهي تقسم قسمين عظيمين: جنوبية، وشمالية. فالجنوبية لغات جنوب آسيا، وهي السنسكريتية، وفروعها: الهندية والفارسية والأفغانية والكردية والبخارية والأرمنية والأوستية.
والشمالية: تشمل لغات أوروبا، وتقسم إلى خمسة أقسام: (١) الكلتية وفيها لغات جزائر بريطانيا أو إنجلترا. (٢) الإيطالية وفيها اللاتينية وفروعها، وهي لغات فرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال. (٣) اليونانية، ومنها اليوناني القديم والحديث. (٤) الوندية، ومنها لغات روسيا وبلغاريا وبوهيميا. (٥) التيوتونية، ومنها لغات إنجلترا وچرمانيا وهولاندا والدنمرك وأيسلاندا.
(١-١١) قاموس للغة الحيوان
حاول «چورچ شويدنزكي» الألماني الذي وضع منذ سنوات كتاب «هل تستطيع محادثة الشمبانزي؟» أن يبين فيه أن لغة الإنسان قد نشأت وتطورت من أصوات الحيوان، مستدلًّا على ذلك بأننا نعبر عن بعض الأشياء بالأصوات التي تعبر بها بعض الحيوانات العليا. فالقرد مثلًا، حين يغضب أو يثور، يصدر هذه الألفاظ «تس تس تس»، وهي الأصوات ذاتها التي يصدرها الإنسان بلسانه تعبيرًا عن غضبه أو دهشته أو امتعاضه.
كذلك حاول «جارنر»، من علماء الحيوان في أمريكا، أن يبين ما بين صوت القرد وحديث الإنسان من صلة وتشابه، فانسل بين غابات أمريكا الوسطى، حيث أمضى بين قرودها المختلفة شهورًا؛ ليسجل أصواتها على أقراص الجراموفون. وقد تبين أن للقردة لغة تتألف من ألفاظ وأصوات مختلفة، يعبر كل منها عن معنى معين، فإذا غضب وثار لفظ هذه اللفظة «في في»، وإذا ضحك وابتهج أصدر هذا الصوت «ها ها»، واللفظة الأولى تشبه زفرة الإنسان ساعة ضيقه وتذمره، والصوت الثاني يشبه قهقهته حين مرحه وطربه. وقد استطاع «جارنر» أن يجمع طائفة كبيرة من ألفاظ القردة وأصواتها، وأن يؤلف منها «قاموسًا».
ثم ذهب «جارنر» إلى حديقة الحيوان بمدينة لوس أنجليس وأدار أحد أقراص الجراموفون التي سجلت عليها ألفاظ الغضب وأصواته، فإذا بالقردة تثور في أقفاصها صاخبة هائجة، وتزمجر حانقة مغيظة، فلما أدار قرصًا سجلت عليه ألفاظ المرح وأصوات الغبطة، هدأت القرود واستكانت ثم تولتها نشوة من الفرح والطرب، فقامت تلهو وتقفز وترقص. واستطاعت قردة الحديقة أن تفهم سائر الأقراص التي سجلت عليها أصوات الحب، والخوف والتهديد، والتحذير. وكشف «جارنر» أن هناك ألفاظًا مشتركة بين بعض أنواع القردة ولا سيما الجيبون، وبعض القبائل البدائية التي تسكن الغابات. فمن ذلك لفظة «هيو» ومعناها النمر في لغة الجيبون ولغة قبائل الغابات في أمريكا الوسطى، بل إن بعض هذه الجماعات الفطرية ليست لها لغة تتألف من ألفاظ كجميع لغات البشر، بل تتفاهم بأصوات مختلفة كهذه التي يتفاهم بها الحيوان.
(١-١٢) لغة النحل وحواسها العجيبة
أثبت «فرتش» الأستاذ بجامعة ميونيخ والنحال العالمي، أن النحل يميز البرتقالي والأصفر والأخضر والبنفسجي، ولكنه لا يميز اللون الأحمر بل يميز الأشعة التي فوق البنفسجي، وهي الأشعة التي يعجز الإنسان عن رؤيتها ولا يتبينها إلا باللوح الفوتوغرافي، وأثبت أن حس الشم فيه دقيق جدًّا وبه يميز أنواع الزهر بعضها عن بعض، وأن حس الذوق فيه قوي فيميز الحلو عن المر عن الحامض عن المالح، ولكن ما نحسبه حلوًا قد لا يكون كذلك في نظره، فالسكرين والدولسين وهما من أنواع السكر المركب لا طعم لهما في ذوقه.
ثم درس لغة النحل. والذي حمله على ذلك التجربة الآتية: وضع قليلًا من الحلوى على لوح ووضع اللوح على مائدة في الهواء الطلق، وجعل يراقبه حتى وصلت إليه نحلة وعرفت ما عليه، فلم ينقضِ وقت طويل حتى كثر النحل على اللوح، وجميعه آت من القفير التي جاءت منه النحلة الأولى، فقال في نفسه: كيف استطاعت النحلة الأولى أن تنبئ سائر النحل في القفير بما اكتشف؟ ثم عمد «فون فرتش» إلى رقم النحل في قفير ما؛كل نحلة رقمًا خاصًّا، ثم جعل يراقب ما يقع، فعرف أن النحلة التي تجد اللوح الذي عليه الغذاء تبدأ تأخذ منه ما تقدر عليه وتعود إلى القفير فتفرغ ما في جعبتها، ثم تجعل ترقص رقصًا خاصًّا والنحل من حواليها مأخوذ برقصها يقترب منها ويلمسها بلوامسه، وما تنتهي من رقصها حتى يخرج النحل إلى موقع اللوح الذي عليه الغذاء، وعندما يجده يأخذ منه ما يستطيع ويعود إلى القفير فيفرغ ما في جعبته منه، ثم يرقص فيكثر إقبال النحل على مورد الغذاء.
وقد أثبت «فون فرتش» بالمراقبة الدقيقة أن بين كثرة النحل حول مورد الغذاء والرقص صلة مؤكدة، ثم خطر له أن يبحث كيف يعرف النحل موقع الغذاء من مجرد الرقص؛ لأنه شاهد أن النحل الذي يذهب إليه يذهب مستقلًّا لا تابعًا للنحلة التي اكتشفته، فوجد أنه إذا كان مورد الغذاء جرة أو لوحًا أو أي مصدر للغذاء غير مألوف في حياة النحل فقد يطول الوقت قبلما يكتشفه النحل، فكان الرقص يدله دلالة عامة على موقع المورد دون أن يستطيع التحديد، وقد كان مورد الغذاء في إحدى هذه التجارب جرة من الشراب السكري على بعد كيلومتر من القفير يحول بينه وبين القفير تلال وحدائق.
أما إذا كان مصدر الغذاء طبيعيًّا مألوفًا؛ أي زهرة من الأزهار، فإن النحل بعد أن يشاهد الرقص يسير إليها توًّا، صادفًا عن غيرها من الأزهار، وقد نجح في تطبيق تجربته هذه على جميع الأزهار إلا الأزهار التي لا رائحة لها.
وتفسير ذلك أن النحل يشم رائحة الزهرة العالقة بجسم النحلة الأولى عندما يلمسها بلوامسها وهي ترقص.
(٢) الكتابة
بدأت الكتابة صورًا للإنسان والحيوان وما إليه، ثم اختزلت فكان يرمز بخط عمودي صغير تخترقه شرطة أو شرطتان، ثم صارت كتابة تصويرية مكثفة مألوفة، ولما كانت الكتابة السومرية تدون بالعصا على الطين، سرعان ما اختلفت أوضاع الصور الكتابية عما تمثله من الأشياء، ودعيت بالكتابة المسمارية.
أما الكتابة المصرية القديمة فقد بقيت المماثلة بين الشيء وصورته الكتابية قائمة؛ لأن المصريين كانوا يدونون الكتابة على الجدران، والقطع المستطيلة من قصة البردي، وهو أول نوع للورق.
ثم إن الكتابة سارت خطوة أخرى حين أصبحت الصورة لا تمثل الشيء المصور ذاته بل شيئًا يماثله، أما اللغة السومرية فقد أصبحت تتألف من مقاطع مركبة، حين أريد منها التعبير عن الأفكار التي لا تستطيع الصور الدلالة عليها توًّا.
هذا وقد خطت اللغتان المصرية والسومرية هذه الخطوات مفيدتين من اتصالهما بأمم أخرى عاونت على اختراع الأحرف الهجائية، بعد أن نهلت من فيضهما، وعلى هذا كانت الحروف الهجائية الصحيحة في العالم ثمرة امتزاج الكتابة السومرية بالكتابة الهيروغليفية، أما في الصين فإن الكتابة التصويرية لم تتطور إلى الأحرف الهجائية.
وليس بعجيب أن يفضي اختراع الحروف الهجائية إلى تقدم الحياة الاجتماعية، وأن يكون من آثاره تدوين الاتفاقات وتسجيل القوانين والأوامر وصيرورة الدول أوسع رقعة وثقافة ويقظة، وأن تنقل أوامر الملك والقسيس وأختامهما إلى غير المكان الذي يقيمان فيه.
وكان السومريون يعنون بصنع الأختام ويتأنقون في زخرفتها، وكان الأشراف والتجار يبصمون بها على الوثائق المحفورة على الطين، فتبقى على الزمن لا تمسها يد العفاء، وفي بابل كانت الكتابة المسمارية هي كتابة سكان بابل؛ لأن حروفها تشبه المسامير شكلًا.
(٣) الطباعة
كان الناس في بيروه القديمة في «أمريكا الجنوبية» يعبرون عما يقصدون في رسائلهم بعَقْد العُقَد في الحبال، وتلوينها بألوان ذات معانٍ خاصة، ولا يزال بعض العامة في مصر يعقدون عقدة في المنديل إذا كانوا يخشون النسيان، وبعض الخبازين يحزون العصا حزوزًا بمقدار الرغفان، أما السقاءون فيرسمون على باب المنزل خطوطًا عريضة كل خط رمز للواحد.
كانت الصور في بداية الصناعة تدل على الفكرة، ثم أخذت تتطور حتى صارت تدل على الصوت المنطوق.
وأخذ التقدم يطَّرد إلى أن اخترع بعضهم حروفًا تدل على الحركة في الكلمة، إذ أمكن بنحو ٣٠ علامة أن تبين أصوات أية لفظة إنسانية، وهذه العلامات هي الحروف الهجائية، والأرجح أن الفينيقيين هم أول من استعمل هذه الحروف؛ لأنهم كانوا أمة تجارية يحتاجون إلى ضبط حسابهم.
وكان الناس يكتبون على مواد عديدة، فكان الآشوريون يكتبون على قوالب من الآجر، وكانت المنشورات الحكومية تكتب على الحجر أو البرنز، وقد استعمل للكتابة أيضًا عظم اللوح من البقر والغنم والإبل، وكذلك استعمل الخشب المصقول، وبعض الصفائح المغطاة بالشمع وجلود الحيوان بعد تجفيفها وتلوينها وكانت تسمى رقوقًا.
وكانت مصر في ذلك الوقت تستعمل البردي، وهو نبات قد زال الآن من مصر، ولكنه ينبت في بعض أنحاء السودان، وكان اليابانيون والصينيون يصنعون ورقًا جيدًا قبل الميلاد المسيحي، وكانوا يصنعونه من الخرق والكتان والقطن ولحاء بعض الأشجار، وكانت الكتب تصنع صنعًا، فكان الكتاب قطعة ورق مستطيلة تلف حول أسطوانة وتكتب على وجه واحد فقط، وفي القرون الوسطى حدث بعض التطور؛ إذ صارت الكتب تؤلف من أوراق مربعة مكتوبة على الوجهين، وكانت تلصق معًا وتوضع بين دفتين من الخشب أو الرق أو المعدن، وكان كثيرًا ما يدعم الناس دفتي الكتاب بقضبان من الفولاذ، فكانت الكتب لذلك ثقيلة كبيرة الخطر على من يتناولها، فقد حدث أن سقط كتاب على بترارك الشاعر فأذاه أذى كبيرًا في ساقه، وكان الناس يعتقدون أنهم يحمون الكتب بهذه الطريقة من اللصوص، وقد ثبت في سنة ١٥١٥ أن مكتبة البندقية التي كان أسسها الكردينال بيساربون قد فُقد منها نحو ٤٠٠ كتاب؛ أي نصف مجموع ما فيها؛ وذلك لأن المستعيرين لم يردوا ما استعاروه، ولما أراد لويس الحادي عشر أن يستعير من كلية الطب في باريس كتابًا عربيًّا في الطب، رفض أمين المكتبة أن يسلم الكتاب إلا بعد أن أخذ كأسًا من الفضة رهنًا عليه، وبعد أن يحصل على ضمان رجال حاشيته في رد الكتاب.
ثم إن أدوات الكتابة قد تحسنت بعدئذ فكانوا يكتبون بريش الأوز ثم استعملوا الفرشاة ثم القصب ثم الحديد، وصار الحبر الأسود يستعمل دون غيره وخصص الحبر الأحمر لكتابة العناوين، وكان كاتب العنوان إخصائيًّا في صناعته لا ينتمي إلى طبقة النساخ الذين يكتبون صفحات الكتاب، ثم هبطت أسعار الورق وعمم استعماله بين الناس، فقد جاء الورق من قلب آسيا، فحمله العرب الذين كانوا وسيلة الاتصال بين الشرق والغرب إلى أوروبا، وقد انتشر بعد الحروب الصليبية في الأقطار المحيطة بالبحر المتوسط، وكانت الأندلس أحد مراكز صناعة الورق، وأقدم أنواع الورق هو الآن في الإسكوريال في إسبانيا، وفي سنة ١٢٢١ أمر الإمبراطور فريدريك الثاني موظفيه ألا يكتبوا القوانين على الورق، وإنما يكتبونها على الرقوق، وفي القرن الرابع عشر انتشرت معامل الورق في فرنسا، وقد كان الورق يصنع باليد إلا حيث كان يمكن إدارة المصنع بالماء المنحدر، وكان نسخ الكتاب الواحد يحتاج إلى عدد كبير من النساخ، وقد نُسخ كتاب عن الرسوم الإكليريكية فاحتاج نسخه إلى ٢١ شهرًا، فلو حسبنا ما نحتاج إليه من الوقت؛ لكي ننسخ ٣٠٠٠ كتاب مثله لبلغ ٥٢٥٠ سنة؛ ولهذا السبب كان اقتناء الكتب يعد من ضروب الترف ولا يقدر عليه إلا كبار الكهنة والأشراف.
وكان الذي أدى في النهاية إلى اختراع الطباعة الحديثة، كثير من المخترعات التقت معًا في نقطة واحدة، فاختراع الطباعة لم يحدث دفعة واحدة، وإنما جاء خاتمة لمخترعات كثيرة جعلت وجوده في حيز الممكنات، وكان أول ذلك انتشار صناعة الورق ثم الطبع بحفر الخشب، فقد كانت لفظة «الطباعة» معروفة في هولندا قبل ظهور الطباعة الحديثة؛ وذلك لأنهم كانوا يطبعون الصور على ورق اللعب، عن أصل من المعدن أو الخشب، قد حفرت فيه الصورة بارزة، وكانت الصور الكبيرة تطبع على هذا النحو ويطبع معها بيتان أو ثلاثة من الشعر، وكان هذا الفن معروفًا في كوريا قبل المسيح، وشاع استعماله في النصف الأول من القرن الخامس عشر في أوروبا.
ومما ساعد على اختراع الطباعة فصل الحروف، فإن الحروف كانت تكتب قبلًا متصلة، ولكن بعضهم اهتدى إلى طريقة فصلها وصار يصنعها من الخشب أو المعدن، ثم كانت تُصَفُّ وتُضغط بما يشبه المضاغط التي كانت تستعمل في عصر العنب أو الزيتون، وقد كان الرومان يعرفون الحروف المنفصلة ويعلمونها أولادهم، ثم كان القدماء يعرفون الختم ويطبعونه على الشمع فتظهر الصورة والرمز أو الاسم.
على أنه لما ظهرت الطباعة قابلها الناس في غضب وحماسة، أما فئة النساخين فقد تلقتها في سخط ولعنة؛ لأن وجود المطابع كان يقضي على مورد رزقهم، أما سائر طبقات الناس فقد رحبوا بها وعدوها رأس الفنون والعلوم؛ ولذلك كانت المطبعة في بداية ظهورها هدفًا للعواطف المتناقضة والآراء المتباينة؛ ذلك أن للطباعة أثرًا مهمًّا في الماضي والحاضر والمستقبل؛ إذ هي قبل كل شيء وسيلة حفظ أفكار الأجيال الماضية، فقد حاول الناس منذ الأزمان القديمة أن يخاطبوا أرواح الموتى.
ومن المعارضين للطباعة النساخون الذين ظنوا أنها تقضي على مادة رزقهم؛ لأن الطبع قام مقام النسخ، هذا وقد كان الطباعون في أول عهدهم ينسبون إلى السحر؛ وذلك لأن النسخ المطبوعة تخرج في سرعة هائلة من المطابع مما يدل على أن يد الشيطان هي التي تفعل ذلك، وكان الاضطهاد يشتد أحيانًا حتى كان الطباعون يفرون خوفًا، كذلك كان رجال الدين يقاومون هذه البدعة الجديدة؛ لأن الإنسان أحد رجلين: إما أنه ناقل ناسخ وإما أنه مبتدع مجرب. ورجل الدين بحكم وظيفته، يؤثر خطة السلف وسنة القدماء على ابتداع البدع، وكانت الطباعة في نظره بدعة، أما القسم الثالث من المعارضين فكان مؤلفًا من الملوك والساسة، فإنهم وجدوا في الطباعة النور الذي يكشف عن ظلمهم وظلامهم، فوضعوا لها قيودًا وقواعد وعقوبات، بلغت أحيانًا الحكم بالقتل، ومما هو ذو مغزى أن والي فرچينيا في الولايات المتحدة كتب في سنة ١٦٦٠، حين كان ذلك القطر العظيم لا يزال تابعًا لإنجلترا، يقول لملك الإنجليز إنه يشكر الله لأنه ليس في ولايته مدارس حرة ولا مطابع، وصرح برجائه بأنهما لن توجدا قبل ٣٠٠ سنة؛ لأن انتشار العلوم لم ينفع الناس إلا في نشر الإلحاد والثورة.
(٣-١) أدوات الكتابة
استعملت الأحجار والجلود والأخشاب والفخار والخزف وورق البردي والكاغد ونوع من الورق الشبيه بالورق الحديث للكتابة عليها، واستخدمت أقلام حجرية وأعواد من القصب، للكتابة بها، كذلك استخدم النقش والحفر ومداد مسحوق الخشب المحروق لإيضاح المكتوب.
أما أدوات الكتابة عند العرب فهي الرق — الجلد، والأقمشة خاصة النسيج المصري المسمى «القباطي»، وعليه كتبت المعلقات السبع وعلقت على أستار الكعبة، وألواح العظام وقطع الخشب والخزف والفخار، وعرفوا ورق البردي بعد فتح مصر، وعرفوا ورق الكاغد في الدولة العباسية ونقلوه عن الصين، وأَنشئوا معامل للورق في دمشق وبغداد والأندلس ومنها إلى أوروبا، أما المداد فمن مسحوق الفحم — الخشب المحروق — أو الهباب مدوفًا بالصمغ أو بالمادة اللزجة، والأقلام من الصلد ينقشون بها الأحجار وألواح العظام ثم من القصب.