الفلسفة
يبدو أن الفلسفة كانت من المعاني التي استرعت نظر الإنسان البدائي مختلطة بالمعرفة إجمالًا، ذلك أنه كان دائب النظر إلى الطبيعة؛ إلى السماء والأرض والماء، راغبًا في الوقوف على سر ما يشهد وتعليل حقيقة ما يحس.
وليس ببعيد ولا بعجيب أن يكون رئيس الجماعة أو زعيم القبيلة أو رب الأسرة هو ذاته الكاهن والعالم والطبيب والفيلسوف والعراف والساحر وقائد الجند والشرطة، بل الملك. وكلما اقتربنا من عصر التاريخ، وضح التخصص في هذه الأعمال، وأصبح لكل منها أشخاص ينهضون بأعبائها.
وقد اختلف استعمال لفظ «الفلسفة» — ومعناها حب الحكمة — تبعًا للبلاد والعصور والعلماء، فقد انتقلت فكرة «الفلسفة» نفسها في اليونان من فكرة المعرفة والثقافة العامة؛ أي من أن الفيلسوف هو من يعرف أي شيء أو كل شيء إلى علم معين، فعند «هيرودوت وثيكيديس» أن فكرة الفلسفة تتبع المعرفة، أما في كتابات «أفلاطون» فهناك فرق بين الرجل الحكيم ومحب الحكمة، وعند «أفلاطون» أن الفيلسوف هو من يدرك أساس الأشياء وحقيقتها على نقيض من لا يعنى إلا بالظواهر ومظاهر الحس، فالفلاسفة عند أفلاطون هم من يستطيعون إدراك الأبدي والثابت، ومن يحبون كل شيء له وجود حقيقي.
وقد ذكر «أرسطو»، رجل دائرة المعارف التاريخية القديمة، حدود النظم الفلسفية، وكان «أرسطو» هو منشئ علوم المنطق والأخلاق والذوق والجمال.
الفلسفة هي معرفة أسرار الكون العام وإدراك نواميس التغيير المستمر فيه، وفهم أصل نشأته ونهاية مصيره، أو قل هي معرفة الظواهر الطبيعية المختلفة وأسباب نشأتها، وتحولها من كون إلى فساد ومن فساد إلى كون، والوقوف على ما وراء تلك الظواهر من الأزل إلى الأبد، وشرط هذه المعرفة إنما هو التحرير الفكري من التقاليد القديمة، والاقتداء بالعادات الموروثة والاعتماد على قوانين الديانات القائمة، بحيث يكون هذا المجهود الفلسفي الحكيم راجعًا للعقل البشري الحر الطليق، كما أدركه سقراط وأفلاطون وأرسطو وديكارت وكانت وإسبنسر.
على أن الفلسفة قد تدرجت في معانٍ وإطلاقات كثيرة في حدود التعريف المتقدم، وكان هذا التدرج في معانيها وإطلاقاتها المختلفة تابعًا للتدرج في الموضوعات الرئيسية التي اشتغلت بها، ولانتقالها بعنايتها الكبرى من موضوع إلى موضوع إلى أن وصلت أخيرًا، وبعد استقلال العلوم عنها، إلى دائرة بعينها من التفكير، هي دائرة التفكير فيما أنتجته العلوم الطبيعة حسب مهمة كل واحد منها في حدود موضوعه وبطريقته الخاصة به في البحث، بأن تأخذ الفلسفة تلك المجهودات العلمية العامة، وتجمعها وتؤلف منها — مجتمعة — معرفة عامة، تبحث بها في حدود ما وراء الطبيعة بحثًا يصور للعقل فهم اللانهائية والديمومة من الأزل وما فيه إلى الأبد وما سيصير إليه، وما بينهما من تعاقب في عالم الحدوث، وتغيير مستمر في ظواهره بحكم الكون والفساد أو الوجود والعدم، وفي تلك الدائرة الخاصة والنقطة العويصة، وبتلك الطريقة المذكورة تبحث الفلسفة بحثها الفني الاصطلاحي، تاركة الحكمة الأدبية الاجتماعية تأخذ طريقها محدودة في الأدب العام، وفي فنها العلمي المعروف بعلم الأخلاق، بعد أن كانت في هذا الفن فرعًا من فروع الفلسفة «أو الحكمة الفنية الاصطلاحية». وباستقلال العلوم عنها استقل أيضًا علم الأخلاق أو الحكمة الاجتماعية بما فيها من مأثور الآداب.
نشأت الفلسفة في اليونان في القرن السابع قبل الميلاد، ولئن كانت الأمم الشرقية القديمة قد أنتجت مجهودًا حكيمًا فنيًّا يذكر في تاريخ الفلسفة، إلا أن هذا المجهود قد ارتبط عند مجموع هاتيك الأمم بالدين ولم ينفصل عن دائرته وحدوده. واليونان، وإن كانوا قد اتصوا بهذا المجهود الفلسفي القديم ووقفوا عليه، وعلى الأخص ما هو مأثور من ذلك عن قدماء المصريين، غير أنهم ما بنوا تفكيرهم الفلسفي على هذا المجهود الأول المكتنف بسياج الدين، بل أهملوا هذا السياج إهمالًا تامًّا، ومنحوا العقل البشري حريته الكاملة، وابتدءوا يفكرون تفكيرهم الفلسفي بفكر حر طليق من أي تقليد أو عادة أو أي تأثير للدين، ومن أجل هذا كانت الفلسفة بنت الفكر اليوناني الحر، وهديته التي لا تقوم مطلقًا إلى الإنسانية. غير أن وميض الفلسفة قد ظهر عند «لأوتسه» الفيلسوف الصيني الكبير، وكان هذا الوميض عند لأوتسه المذكور أظهر وأوضح من وميضها، بل إنها ابتدأت به عند «تاليس» الملطي اليوناني المعروف بأبي الفلسفة الأول.
صارت الحكمة الهندية بعد اجتياز الدور الأرسطوري الذي نشأت عنه، وبعد وصولها إلى دور مذاهب البراهمة الفلسفية التصوفية، حكمة دينية لا تقل عن مثيلتها، الحكمة الفلسفية الدينية التي ابتدأت عند اليونان قبيل المسيح، واستمرت نحو ثمانية عشر قرنًا إلى عهد الفلسفة الحديثة.
وعن الفلسفة الدينية الهندية تفرعت عدة مدارس ومذاهب فلسفية أخرى أساسها الفكر الحر والعقل الطليق، المذهب المادي الجاحد الذي كان من أثر العقل الحر والفكر الطليق، على أن حرية الفكر الباحث عند الهنود — وهي سهلة في دوائر الجحود — لم تقف عند هذا الحد، بل انتقلت إلى ما هو في دوائر الإيمان الديني، واستبعدت منه النظر فيما وراء الطبيعة، وكونت لها نظامًا اجتماعيًّا أو دينًا حرًّا يعتمد على الفضيلة لا على وحي أو رغبة له مثل الدين البوذي.
لهذا كانت الفلسفة اليونانية مشتركة مع الحكمة الهندية مع مذهب لأوتسه الصيني في التفكير الطليق.
والفلسفة اليونانية — إلى هذا — تنفرد عن الفلسفة الهندية في أنها، وهي تتفهم في الوجود في ظواهره وأسراره، تعمد إلى وضع القواعد الثابتة والنظريات المبرهنة والأحكام المسلمة كأساس راسخ للبحث الكلي في المسائل العامة والنتائج الشاملة، فتكونت بهذه الطريقة الفلسفة الحرة اليونانية ومعها مبادئ علمية ما كانت معروفة من قبل، بل وضعها العقل اليوناني وضعًا، ولقد نمت هذه المبادئ العلمية شيئًا فشيئًا حتى صارت علومًا مدونة ومبوبة، لكل واحد منها اسمه الخاص به، واستقلاله المنفرد به في موضوعه ومسائله وطريقة البحث فيه، وللمعلم الأول يرجع الفضل الكبير في ذلك، هذا ولا جدال في أن الفلسفة اليونانية — وهي ينبوع فياض قد اتصلت به كل الأمم المفكرة واغترفت منه — كانت الحلقة الأولى في التاريخ الفلسفي، التي نشأت عنها كل علاقاته المحكمة الاتصال.
ثم إن جميع العلوم الإنسانية على اتساعها الآن يرجع، في أصل نشأتها، إلى البذور العلمية الفلسفية الأولى التي نشأت في حجر الفلسفة اليونانية، هذا وما يزال الذوق الأدبي الحاكم في الناس حتى الآن، يستمد روحه الأقوى من الذوق الأدبي اليوناني الذي انبعثت عنه الفلسفة اليونانية.
(١) فلسفة سقراط
عند الفلاسفة المتأخرين أمثال تسلر وبترو أن سقراط يعد المؤسس الحقيقي لعلم الأخلاق، الذي مهد له من سبقه من الشعراء والحكماء والفلاسفة بعبارات قوية وتعبيرات دقيقة استمدوها من تجاريبهم في الحياة، وفي سبيل الرد على اعتراضات السفسطائيين وإعداد العقائد والتقاليد، اضطر سقراط إلى تكوين علم غايته إرضاء مطالب العقل والعقائد القديمة وموضوع هذا العلم «تحديد الماهيات»، أو قل إنه تكوين آراء عامة تحصل من الاستقراء وذلك بانتقاله من الجزئيات إلى الطبائع العامة أو الماهيات الكلية التي يعدها سقراط موضوع العلم، والمعاني العملية والمسائل الإنسانية فكان في أفعاله وفي حياته الأخلاقية هو موضوع تفكيره، يقول إكسانوفون: إن سقراط كان يرمي إلى تحديد ماهية جميع الموجودات. لقد عرف سقراط العدالة بأنها قوانين ثابتة، والتقوى بأنها تقديم ما للآلهة من الاحترام إليها، غير أن هذا التعريف لا يحمل طابعًا علميًّا. لقد كانت المحاورات المعروفة بالسقراطية هي التي تؤرخ شباب أفلاطون، وتمتاز بخلوها من أي أثر لنظرية المثل، فهي تبين أن الفيلسوف يناقش في دقة بعض التعاريف، ولكنه لا يخرج منها بنتيجة مطلقًا، فإن لاشيز يفرض بعض التعاريف عن الشجاعة، ولكنه يرفضها كلها. وهذا ما نراه كذلك في هيبياس الأصغر في بعض التعاريف الخاصة بالجمال.
وفي الجملة كانت جميع هذه المحاولات نقدية وحسب، بل إن بروتاغوراس يترك كذلك بعض المسائل معلقة، بل إن في تيتاوس — حيث يتجاوز أفلاطون آراء أستاذه — نرى النتيجة سالبة دائمًا، هذا ولم يذكر أرسطو أمثلة لتعاريف وضعها سقراط، مع أنه يذكر أن سقراط حاول أن يضع تعاريف عامة إلا أنه لا يذكر هل وُفِّق سقراط في ذلك أم لم يوفَّق. وعلى الخصوص لم يظهر لنا كيف وفق في ذلك، ويبدو من كل هذا أنه إذا كان سقراط قد أدرك ما يجب أن يكون عليه العلم، إلا أنه لم يوفق في تحقيق الفكرة التي وضعها له، فحدد موضوع العلم تحديدًا تامًّا ولم يستطع تحديد مضمونه، ويبدو أن سقراط نفسه كان يشعر بعدم قدرته على تحقيق العلم كما كان يدركه؛ إذ إنه بحث عن السبب الذي دعا كاهنه دلف إلى القول بأنه أعلم الناس، فأدرك أنه أكثر من غيره علمًا، غير أنه ظهر أسمى وأقدر منهم جميعًا في أنه لا يدعي علم ما يجهله، وكثيرًا ما كان يردد سقراط أن أحسن ما يعلمه هو أنه لا يعلم شيئًا، ويذكر في تيتاوس في كلماته الخاصة بأنه غير كفء لتوليد أية معرفة (تيتاوس ١٥٩٧)، وطبقًا للتعريف المشهور للتوليد المذكور في هذه المحاورة يبين منهج سقراط من بحث أفكار غيره؛ أي التعاريف التي يذكرونها، لا أن يضع هو أفكارًا وتعاريف. ويقول سقراط إن كل ما يعمله هو إيقاع غيره في الشك والتناقض، وفي المحاورات المختلفة يرفض أن يضع هو نفسه أي مذهب، واكتفى بنقد مذاهب سواه، وكان يرفض دائمًا الخضوع إلى مراحل السؤال التي كان هو نفسه يخضع لها محدثيه. ويقول أرسطو: إن سقراط كان يسأل ولكنه لم يكن يجيب.
(٢) السفسطائيون
كلمة يونانية الأصل ومعناها حكيم أو مفكر، ولكن الناس يطلقونها على من يكابر ويغالط في نقاشه، وفي اليونان (٤٥٠–٤٠٠ق.م) ظهر جماعة من الفلاسفة أطلق عليهم اسم السفسطائيين؛ أي الحكماء، وكانت مهمتهم أن ينبثوا في أرجاء اليونان ليعلموا الشبان الحكمة، وينبهوهم إلى الحرية، وقد أداهم البحث في تعليم الشبان وتثقيفهم إلى البحث في أصول الأخلاق، وقواعد الدين، فجاءوا فيها بآراء جديدة تركت أثرًا ظاهرًا في تاريخ الفلسفة، وثار عليهم لهذا كثير من الفلاسفة، منهم أفلاطون الذي انتقد آراءهم انتقادًا شديدًا.
وكان خصومهم يتهمونهم بالتلاعب بالألفاظ، فيلبسون الباطل ثوب الحق
(٣) الفلاسفة
نذكر هنا أسماء الفلاسفة الذين عرفهم التاريخ؛ لأنهم كانوا على رأس من بحثوا الحياة الأولى، موردين تاريخ أعمارهم:
(٣-١) قبل الميلاد
لوسببيوس (٤٥٠)، أنا كساغوراس (٥٠٠–٤٢٨)، السفسطائيون (٥٠٠–٤٥٠)، بارمنيدس (٥٣٠–٤٦٥)، هيرقليطس (٥٥٠–٤٧٥)، ديموقريطس (٤٦٠–٣٦٠)، أمبيروفليس (٤٩٠–٤٣٠)، سقراط (٤٦٩–٣٩٩)، زينو الألباني (٤٥٠)، أريستبوس (٤٣٥–٣٥٦)، أفلاطون (٤٣٧–٣٤٧)، أنتيثينيس (٤٤٠–٣٧٠) ديوچينس (٤١٢–٣٢٣)، أرسطوطاليس (٣٨٤–٣٢٢)، أبيقورس (٣٤٢–٢٧٠)، زينون الكلبي (٣٣٠–٢٦٤)، لوكريتوس (٩٥–٤٥).
(٣-٢) اللاهوت المسيحي بعد الميلاد
أبيكنانوس (٥٠–١٢٥)، مرقس أوريليوس (١٢١–١٨٠)، توما الأكويني (٢٢٥–٢٧٤)، فرنسيس باكن (١٥٦١–١٦٢١)، برونو (١٥٤٩–١٦٠٠)، دي كارت (١٥٦٥–١٦٥٠)، هوبس (١٥٨٨–١٦٧٩)، لوك (١٦٣٢–١٧٠٤)، سينيوزا (١٦٢٢–١٦٧٧)، ليبنتز (١٦٢٦–١٧١٦)، فولتير (١٦٩٤–١٧٧٨)، باركلي (١٦٨٥–١٧٥٢)، كنديلاك (١٧٤٥–١٧٨٠)، هيوم (١٧١١–١٧٧٦)، كانت (١٧٢٥–١٨٠٤)، كندورسي (١٧٤٥–١٧٩٤)، فخت (١٧٦٢–١٨١٤)، شيلنغ (١٧٧٥–١٨٥٤)، أوغست كونت (١٧٩٨–١٨٥٠)، هيچل (١٧٧٠–١٨٣٠)، شوبنهور (١٧٨٨–١٨٦٠)، چون ستورات ميل (١٨٠٦–١٨٧٥)، أرنست رينان (١٨٢٢–١٨٩٤)، سبنسر (١٨٠٦–١٨٧٣)، نيتشه (١٨٤٤–١٩٠٠)، سنتايانا (١٨٦٣)، راسيل (١٨٧٢)، ديوي (١٨٥٩)، وليم چيمس (١٨٤٢–١٩١٢)، أويكن (١٨٤٦–١٩٢٦)، كروس (١٨٦٦)، برغسن (١٨٥٩).