الفن
الفن، لغةً: النوع أو الحال أو الضرب من الشيء، والجمع أفنان وفنون. وافتنان الكلام اشتقاقه في فن بعد فن. والمفتن والمتفنن وذو الفنون والمِفَن «بكسر ففتح»، الذي يأتي بالعجائب وبضروب فن الكلام. والفنَّان «بالتشديد» الحمار الوحشي، وإطلاقها على الرجل المفن رجل الفن شائع في لغة الكتَّاب العصريين، مع أن العرب لم تقل ذلك.
وبينما الفن مادته الفكر والنظر، فإن العلم مادته العمل والأثر، وقد يكون للشيء الواحد علم وفن؛ فالموسيقى «علم» حين ندرس قضاياها العامة كتقسيم النغم، والموسيقى «فن» حين يتصرف المطرب في فنون النغم، والبلاغة «علم» حين تتحدث عن أحكام الفصل والوصل والإيجاز والإطناب وما إلى ذلك، والبلاغة «فن» حين يرسل الكاتب قلمه بالمقال البليغ.
هذا و«الفن» اصطلاحًا لفظ مرن، في معناه الأوسع هو كل شيء ليس طبيعيًّا، بل من صنع الإنسان وهو، على هذا، يشمل المصنوعات والبلاغة والقصة، وكل ما هو نافع أو لذيذ، وما يجمع بين المنفعة واللذة كالميكانيكيات والآداب الرفيعة والهندسة المعمارية والحفر والنقش والزخرفة والرقص والموسيقى والشعر والغناء، أما الفن في معناه الضيق، فهو ما يصنعه أو ما يقوله الإنسان ثمرة للمواهب والكفاية المثلى من أجل المتعة النفسية في ذاتها؛ أي من غير أن يكون وسيلة إلى شيء ينتفع به في الحياة العملية.
وقد عرف الإنسان البدائي ساكن الكهوف الفن قبل عصر التاريخ، فلم يقتصر جهد سكان الكهوف في عصر الحجر، عند صنع الأدوات والأسلحة من الحجر ورءوس السكاكين والقوس من العظام، بل كانوا ينقشون على أيديها العظيمة أشكالًا حيوانية كالماموث ووحيد القرن والإبل، ومن هنا نشأت فكرة محاكاة ما في الطبيعة بالنقش والحفر وما إليهما؛ استطابة للذة الفنية ونشدانًا للمتعة النفسية.
والفن، على هذا، كل عمل أو مهارة منظمة ترمي إلى تتبع الكائنات النظامية، وإلى أهداف تعرف مقدمًا اتباعًا لقواعد كل عمل واستخدامًا للمهارة ونتيجتها.
وعند «عبد المنعم أبو بكر» أن الفن كلمة يخص بها عادة أشياء مختلفة متباينة، فالتمثال قطعة فنية، والنقش قطعة فنية، والرسوم سواء ما كان منها بالزيت أو بالألوان الأخرى قطع فنية أيضًا، ثم الموسيقى فن، والشعر فن، والنثر فن، وكذلك التلحين فن، والغناء فن؛ إذن فالفن هو كل ما يخرجه لنا ذوق الإنسان ليرضي به غريزة فيه لا يمكن أن نسميها إلا غريزة الفن، إذا صح هذا التعبير، ونحن إذا أنعمنا النظر في غرائز الحيوان والإنسان رأيناها متشابهة في الأصل، ذلك الأصل الذي يدفع بكل من الإنسان والحيوان إلى هدف واحد وهو البقاء، والمحافظة على ذلك بالأكل والشرب، ثم بالمدافعة عن النفس، ولكن الطبيعة اختصت الإنسان بغريزة أخرى هي «غريزة الجمال»، أو قل غريزة الذوق السليم؛ فالإنسان الذي يصنع مثلًا إبريقًا من الطين أو الحجر كي يملأه ماء للشرب، كان في بدء حياته الأولى (أقصد بذلك الإنسان الأول) يصنع إبريقًا يصلح لاحتواء الماء، أما شكل هذا الإبريق الخارجي فيحتمه الغرض الذي من أجله صنع ثم الآلة التي صنع بها، ولكن سرعان ما تظهر الغريزة الأخرى، غريزة الذوق السليم، فتراه قد طلى هذا الإبريق بلون أحمر، أو أحرقه في النار حتى يكتسب ملاسة لامعة، أو رسم على سطحه الخارجي صورًا مختلفة لا علاقة بينها وبين ما يحويه الإبريق.
وأول آثار للفن وصلت إلينا كانت من صنع إنسان عصر الفيضان (الطوفان)، الذي سكن قبل آلاف من السنين المناطق التي خلت من الثلوج، ذلك الإنسان الذي سكن الكهوف في جنوبي فرنسا وشمال إسبانيا، وترك لنا آثارًا من الفن أحجم البعض عند أول وهلة أن ينسبه إليه، ترك لنا رسومًا نقشها على صخور تلك الكهوف، دلت على مهارة عجيبة في الرسم، وبعد ذلك انتهت حضارة ذلك الإنسان الأول في أوروبا، وظهرت حضارات مختلفة في الشرق الأدنى وشمالي أفريقيا، هذا وفي عصور فجر التاريخ الغابرة حلت بشمالي أفريقيا عوامل طبيعية، جعلتها مغمورة بالثلوج، بينما كانت أوروبا منطقة أمطار غزيرة، وبعد حين انتقلت هذه العوامل الجوية إلى أوروبا فجعلتها مغطاة بالثلوج، بينما كان شمالي أفريقيا منطقة أمطار غزيرة، وهذا هو السبب الذي من أجله اختفت حضارة الإنسان الأول في أوروبا، وظهرت حضاراته في شمالي أفريقيا والشرق الأدنى، وكانت الآثار الأولى مشابهة الشبه كله لآثار ذلك الإنسان الأول الذي ظهر في أوروبا، ولكنا نجد بعد ذلك أن الشرق الأدنى تقدم في حضارته تقدمًا محسوسًا، حتى إذا ما حل العصر الحجري الحديث رأينا أن الفن في الشرق الأدنى، وخاصة في مصر، قد انتحى ناحية أخرى.
والفن المصري بدأ في عصر فجر التاريخ يطبع بطابع يختلف مظهره عن فنون الأمم المجاورة، وهذا الطابع المصري الذي كونته البيئة المصرية، وعمل على تقدمه وتنميته العقل المصري والفكر المصري، احتفظ بمظهره الخارجي طوال التاريخ المصري؛ أي ما يقرب من أربعة آلاف سنة، ولكنا بعد الدرس والمقارنة سوف نجد أنه ليس من الصعب علينا أن نقسم هذا الفن إلى عصور مختلفة يمتاز كل منها بطابعه الخاص.
اعتقد المصري القديم في الحياة الثانية، واعتقد أيضًا أنه عندما يحل الموت تفارق قرينته (روحه) جسده، على أن تعود بعد ذلك إلى هذا الجسد من حين لآخر؛ كي تحيا معه حياة تشابه من كل ناحية الحياة التي اعتاد صاحبها أن يحياها على الأرض؛ ولكي تحيا هذه (القرينة) في المقبرة يجب أن تجد ما كانت تأكله وتشربه وتتمتع به في حياتها الأولى، وليس هذا كل ما يساعدها على الحياة في المقبرة، بل يجب أن تجد جسدها في حالة جيدة لا تهدم فيه ولا انحلال، أما السبب في ذلك فهو أن الحضارة الحديثة والذوق الحديث والعقل الحديث قد تكونت على أسس الحضارة والذوق والعقل الإغريقي القديم، فنحن لا زلنا نفكر ونرى الأشياء كما فكر ورأى الأشياء الإغريقي القديم.
وعلى ذلك بينما نحن نفهم الفن اليوناني بالسليقة، فإننا نحتاج إلى دراسة لفهم الفن المصري، وإذا تمكنا من فهم الفن المصري، فإن إعجابنا به واستساغتنا له واحترامنا لفنانيه سوف يعادل — إذا لم يفق — إعجابنا واستساغتنا للفن اليوناني واحترامنا لفنانيه.
(١) تمثال حامل الحرية
من الآثار اليونانية القديمة، تمثال حامل الحرية الذي يمثل الجسم الإنساني الرياضي القوي الكامل عند اليونانيين، طول قوامه ١٧٥ سنتيمترًا، وطول دائرة عنقه ٤٠٫٢٥ ودائرة صدره ١١٤٫٧٥ وخصره ٨٣٫٢٥ وكفله ٩٠٫٥ وفخذه ٥٦٫١٥ ومخلخله ٢٣، أما وزنه فمائة وتسعة وسبعون رطلًا إنجليزيًّا.
(٢) فن التمثيل
من الفنون القديمة تمثيل الروايات، كان اليونان أول من مثَّل الحوادث وقلد وقائعها، وأول من فعل ذلك منهم صوازريون ودولون، فقد مثلا رواية في أثينا في سنة ٥٦٢ قبل الميلاد، وجرى على ذلك من جاء بعدهما من اليونان والرومان، وهذا ما يسمونه فن التمثيل القديم، وكان مقصورًا على بعض الألعاب أو تمثيل بعض الوقائع التاريخية أو شبهها المقتبسة من روايات هوميروس وغيره، أما فن التمثيل الحديث، فقد نشأ في أوائل التاريخ المسيحي، وكان في أول عهده محصورًا في تمثيل الوقائع الدينية نقلًا عن التوراة والإنجيل أو ما يترتب عليهما، وأقدم رواية مُثِّلت على هذا النحو رواية غريغوري نازيانزن أحد رؤساء الكنيسة في سنة ٣٦٤م مثل فيها «أسلام» المسيح، ومن هذا القبيل تمثيل واقعة الحسن والحسين في عاشوراء، ولتمثيل هذه الوقائع وقع عظيم في النفوس، ثم اتخذ التمثيل الحديث صبغات مختلفة لم يكن لها شأن يذكر، على أن هذا الفن لم يتخذ شكلًا قانونيًّا إلا في القرون الأخيرة وأول من فعل ذلك تريسينو الإيطالي، فقد مثل رواية في رومية بحضور البابا ليون العاشر في سنة ١٥١٥م سماها صونوفيسيا، وفي أواخر القرن الخامس عشر وأوائل السادس عشر ظهر شكسبير في إنجلترا وموليير في فرنسا، فأحييا هذا الفن وجددا رونقه وألبساه حلة لا يزال خلفاؤهما ينسجون على منوالها إلى هذه الساعة.
(٣) الأدب: الشعر والنثر
كان إنسان ما قبل التاريخ يتسلق الأشجار وينتقل في الغابات بين الوحوش صائحًا: «را. را. را. بو. بو. بو» أو مناديًا: «ها. ها. ها. يا. يا. يا»؛ أي إن حديثه كان ألفاظًا قصيرة التركيب ومتكررة، ذات نغم موسيقي ووزن شبيه بالأوزان الشعرية؛ لأنه كان إما مناديًا أو مستغيثًا أو متوجعًا؛ أي معبرًا عن شعور ما، كما كان يجتمع مع قومه في حلقات للرقص في حماسة للقتال المستمر، وهذا هو أساس الشعر لفظًا ومعنًى؛ إذ كان الشعر لفظًا، هو الكلام الموزون المقفى، ومعنًى، هو الإبانة عما يجيش في النفس من المعاني والخيال، ثم إن هذه النداءات والصيحات البدائية قد تطورت إلى الأوزان الشعرية التي تباينت تبعًا للأزمان والأماكن والمهن واللغات.
ومن أجل هذا كان الشعر، عند بعض العلماء، أول مراتب الأدب، أما النثر فقد ظهر حين كثر السكان وتعددت أغراض الحياة وألفاظها، واحتاج الإنسان إلى التوسع في البيان، على أن أسبقية الشعر للنثر ليست أمرًا مقطوعًا به.