التطور والتدهور
(١) التطور
لعل مما يرتبط بموضوع «تاريخ ما قبل التاريخ»، تسلسل مراتب الحياة كما أوضحناه في عصر البرمائيات والزواحف والقردة والإنسان الناقص إلى الإنسان التام، وتقلب الحياة الأرضية من البرودة إلى الحرارة، هذا كله مندرج في «مذهب التطور». والتطور هو الانتقال من طور إلى طور؛ أي من حال إلى حال. وعند بعض علماء اللغة والصرف أنه لا يجوز اشتقاق «تطور» من «طور»، ونحن نخالفهم في هذا إذ ليس ما يمنع هذا الاشتقاق ولو كان غير سماعي. وكيفما كان الأمر فإن الأشياء إما أن تحدث فجأة، فيسمى حدوثها «ثورة» أو «انقلابًا»، وإما أن تتوالد وتتكاثر وتتسلسل وتتدرج وتتغير إلى الزيادة والنمو وإلى الارتقاء والأحسن رويدًا وتدريجًا، فيسمى هذا «تطورًا» وإما أن يكون الانتقال والتغيير إلى النقصان والضمور أو الزوال فيسمى «تقهقرًا» أو «تدهورًا».
وعند الأستاذ چيمس ساللي أن التطور هو التاريخ الطبيعي للكون، شاملًا الكائنات العضوية بادية في الأساليب الطبيعية كعملية ميكانيكية. أما في المذهب الحديث فإن التطور يعني أن تدرج نظام الكون يبدو كنتيجة طبيعية للمادة الأولية وقوانينها، ذلك أن جميع مراتب الحياة على الأرض هي نتيجة طبيعية لعمليات طبيعية معينة مندرجة في التغيير التدريجي للأرض. ويعد تقدم البشر في التاريخ وقبل التاريخ النتيجة العليا والمعقدة جدًّا للتطور الطبيعي والعضوي، ومن هنا تدخلت نظرية التطور الحديثة في شئون الفلسفة والأرض والشمس والنظام الشمسي وتقدم العالم والعلوم الكيماوية والعضوية وغير العضوية وطبقات الأرض، وأصول السلالات البشرية والدراسات التاريخية، ذلك أن الناس كانوا منذ أبعد العصور معنيين بمنشأ الكون وظواهره ومواده وتفاعلاتها.
ومن العجب أن نظرية النشوء الهندية تماثل نظرية التطور، ذلك أن «يراهما» معدود أنه كائن خالد قائم بنفسه، يبين نفسه للعالم تدريجًا بأشياء مادية من الأثير والماء والنار والأرض والعناصر، وهو يشمل روح العالم.
أما فلاسفة اليونان الطبيعيون الأقدمون من أمثال ثيلز وأنا كسيماندر وأنكسيمنز، فيذهبون إلى أن الأرض شيء طبيعي وتغييراتها طبيعية وإلى أنه ليس للقوة الإلهية دخل فيها، وأنها أشكال منوعة لمادة واحدة أصلية أو قل إنها قد نشأت شكلًا مؤلفًا من العناصر العديدة.
هذا وقد حاول الكثيرون معالجة هذا الموضوع في العصور اليونانية والمسيحية والقرون الوسطى، وممن عرض له من علماء الإسلام الفارابي وابن سينا، ولعل فلاسفة اليونان القديمة كانوا أول من عالج البحث في فلسفة التطور، فقد أشار إليه أو تحدث عنه أناكسيماندر وإمبدوكليس وزينوفينيس وأرسطو ولوكريتس. فقد ذهب زينوفينيس إلى أن ما رآه من بقايا الأحافير الحيوانية المتحجرة يدل على وجود حيوان قديم قد انقرض، الأمر الذي ينبغي أن يحمل على دراسة أصلها وحياتها عوضًا عن النظريات والمنطقيات.
ثم جاء «لوكريتس» الفيلسوف الشاعر، فذهب إلى أن غريزة الافتراس عند الضواري هي التي أعدت لها أسباب البقاء في جميع الأجواء والأوساط، وأما الحيوان الأليف فقد أبقاه حاجة الإنسان إليه، وأن الأجناس تتعاقب ولا يبقى إلا أقواها.
(١-١) فلسفة سقراط
وثمة أشياء تتصل بالتطور في فلسفة «سقراط» الذي ولد في سنة ٤٧٠ قبل الميلاد، ونشأ على ما كان يشب عليه الأثينيون من تلقي الموسيقى وتعلم الألعاب الرياضية، ودرس على السفسطائيين متعلمًا التنجيم والهندسة والفلسفة واللهجات. غير أنه لما ضاق ذرعًا بمذاهب السفسطائيين ونظرياتهم، آثر أن يدرس التصورات والتأملات والقضايا المنطقية التي تدور حول الوقائع بدلًا من دراسة الوقائع ذاتها. وقد امتاز بمتابعته تحليل كل ما يقنع به هو الناس أن يقوله، وبالصبر وبشجاعته حين كان جنديًّا. وقد آثر أن لا يشتغل بالسياسة، آبيًا أن يسوغ محاكمة بعض القواد وأن ينفذ الأمر الصادر باعتقال الأبرياء.
ويعتقد هذا الفيلسوف أنه تلقى رسالة من الله، وأنه يبحث عن رجل أكثر حكمة وأن غايته هي أن ينهض بمواطنيه. ولما حوكم، لما عزي إليه من إفساد الشبيبة والأدلاء بآراء دينية شاذة وبإغفال آلهة أثينا أبى أن يدافع عنه أحد، ومضى يخطب قضاته خطبة كانت مثالًا للبساطة. فقد أوضح فيها حياته مبينًا أن ما أصابه من الاضطهاد والمحاكمة إنما يرجع إلى الحقد السياسي. ولما صدر الحكم عليه بالموت طلب حكام أثينا إليه أن يقترح عقابًا آخر بديلًا من الموت، طبقًا لما كانت تجري به العادة من سؤال المحكوم عليهم أن يقترحوا عقوبة أخرى، فأبى أن يقترح شيئًا وانتهى الأمر بأن سجن أيامًا ثم شرب كأس السم ومات.
وعند «سقراط» أن الفضيلة هي المعرفة وأن الرذيلة هي الجهل، ومن ثم كانت الطيبة الصادقة هي التي تستند إلى المعرفة التامة بالطبيعة ومواهب الروح الإنسانية. وعلى هذا كان الرجل الشجاع هو الذي يعرف ما ينبغي وما لا ينبغي خشيته.
(١-٢) التطور في فلسفة أرسطو
ولد «أرسطو» في استاجيرا المقدونية في سنة ٣٨٤ق.م وتوفي في سنة ٣٢٢ق.م، وقد احترف الطب في مفتتح حياته العملية وله فيه كتاب يسمى «الصحة والمرض»، ثم التحق بأستاذه «أفلاطون» ولبث معه عشرين سنة في أثينا. غير أنه بينما كانت فلسفة «أفلاطون» تقوم على التصورات المستندة إلى الأفكار والتأملات؛ أعني على التفكير العقلي والمنطق، فإن فلسفة «أرسطو» يبدو أنها تقوم على المشاهدات والمحسوسات التي قوامها التجارب والمقارنات.
هذا وقد اختار «فيليب» ملك مقدونيا «أرسطو» مربيًا لابنه «الإسكندر»، الذي كان يساعد أستاذه بالمال والرجال في جلب عجائب الحيوان والنبات لدراسة طبائعها. وقد استنتج أرسطو من دراستها أن ثَم خطًّا وراثيًّا متصل الحلقات، فهو يصل بين (البوليب) ذلك الحيوان البحري الرقيق وبين الإنسان. ومن حكم (أرسطو) أن الفرق بين العالم والجاهل كالفرق بين الحي والميت، وأن الأمل حلم اليقظان، وأن لا فضيلة إلا في التوسط. وكان يقول: لنحفظ حب سقراط وأفلاطون، ولكن لنحب الحقيقة أكثر منهما.
هذا وقد شارك (أرسطو) في جميع العلوم والمعارف لعهده، ويعد واضع أساس علوم النفس والطبيعة والأعضاء، والممهد لنظرية التطور بكتابه (تاريخ الحيوان). ومن كتبه (أورجانون) في علم المنطق، و(علم الأخلاق) و(علم السياسة). وقد نقل الفيلسوف العربي (ابن رشد) المتوفى في سنة ٥٩٥ هجرية فلسفة أرسطو الملقب بالمعلم الأول، إلى العالم وأوروبا.
(١-٣) أقوال أخرى للفلاسفة
من هؤلاء الفيلسوف المؤرخ ثاكسيديديس الأثيني الذي ولد في سنة ٤٦٠ق.م من أسرة غنية في تراقيا. وكتب ثمانية كتب عن الحرب التي قامت بين أثينا واسبرطة طوال ٢٧ سنة إلى سنة ٤٤ق.م، وقد دون تاريخه في دقة ونزاهة وبعد تحرٍّ لمواقع المعارك وأشخاصها، وفي وصفه يتجلى مذهبه في الحياة الإنسانية وأشخاصها.
أما في عصر النهضة الأوروبية، فعند «برناردينو تبيسيو» أن الدنيا نتيجة المادة الهالكة والحرارة والبرودة. وعند جوردانو برونو أن الدنيا تخرج روحها بإخراج أشكال أكثر تمامًا، نتيجة المادة القابلة للتشكيل كالعجين.
وعند «سبينوزا» أن هناك درجات للأشياء تبعًا لتعقد تركيبها، وأن الإنسان يفترق عن باقي الطبيعة في الدرجة لا في النوع.
وعند «إيكليس» أن الإنسان خرج من الكهف المظلم إلى النور
وعند الفيلسوف «ديكارت» في القرن السابع عشر، أن العقل الإنساني هو كل شيء، وكل قوة، وأن قوانين الطبيعة ثابتة، وأنه ليس هناك قوة سماوية تسيطر على الحياة الإنسانية، وأن الكشف عن القوانين الطبيعية هو غاية العلم. هذا وفي الجزء الثالث من كتاب «ديكارت» «فيلسوفيا برنشيبايا» أن الدنيا لم تُخلق بطريقة ميكانيكية بل إنها كائن طبيعي.
وعند «فونتينيل» أن النهضة الغربية ليست إلا مسايرة للحضارتين اليونانية والرومانية.
وعند «فولتير» أن الإنسان هو الذي يتعلم ويفكر ويتحكم في سير الحياة ويمضي فيها قدمًا، وأن الحروب والديانات هي التي تعوقه عن التقدم.
(١-٤) كانت وهيچل
أما «إيمانويل كانت» الألماني الذي ولد في كنجزيرج في ٢٢ أبريل عام ١٧٢٤ من أسرة فقيرة، جعله فقرها يعول على نفسه في دراسة العلوم الطبيعية والحسابية والفلسفة إلى أن توفي في ١٢ أبريل ١٨٠٤، بعد أن امتاز بالبحث الفلسفي العميق؛ فإن عنده أن ما يقع عليه الحس هو اتحاد عاملين: (١) إحساس مادي مستقل عن العقل. و(٢) بعض أنواع المعرفة الدفينة في العقل ذاته وهو ما يسميه المقولات، وهذه سامية جدًّا بمعنى أنها لا تتلقى من التجارب، بل إن التجارب كلها تأتي منها. وعلى هذا فإننا لن نعلم العالم الحقيقي، فإن ما نعلمه عن العالم إنما يجيء إلينا بعد أن تصنعه المقولات وحين تصبح ظاهرة من الظواهر.
وعلينا أن ندرس عالم الأخلاق إلى دراستنا عالم العالم. علينا أن نطيع عقولنا لا حواسنا وأن تكون إرادتنا حرة، وأن نمضي في البحث من أجل المعرفة.
أما «چورچ ويلهيلم فريدريك هيچل» الألماني المولود في ٢٧ أغسطس ١٧٧٠ في شتوتجارت، المتوفى في ١٤ نوفمبر ١٨٣١، بعد أن امتاز بنظرياته وبحوثه في الفلسفة المثالية؛ فإن عنده أن طبيعة الكون تتألف من ثلاثة أجزاء: الشيء الثابت المطلق أو الحالة المؤكدة، ونقيضها، واتحاد الاثنين.
وبينما يرى «هيچل» أن الكون مستقل عن أي عقل، فإنه ليس بذي معنى إذا ما جردناه من جميع العقول، ومن ثم كانت الحقيقة عقلية أو روحية. وهو يعبر عنها بالفكرة، وعنده أن الفكرة الكونية مطلقة. وليس لشيء معنى ما إلا إذا قوبل بنقيضه، فالليل والنهار يؤلفان وحدة.
وللكون أجزاؤه الثلاثة: المنطق، وهو علم الأفكار الخالصة؛ وفلسفة الطبيعة، وهي تقدم العالم الحقيقي؛ وفلسفة الروح أو العقل، الذي هو باتحاد الاثنين يؤلف تقدم العالم المثالي كما يصوره علم الأخلاق والدين والفن. ومن ثم كان المطلق ينظر إليه كفكرة خالصة. ثم تمضي من هذه المرتبة إلى نقيضها ثم تنتهي إلى اتحاد الأصل والنقيض.
(١-٥) مذهب التطور على يد داروين وأنصاره
وُلد شارلس روبرت داروين في ١٢ فبراير سنة ١٨٠٩ ومات في ١٩ أبريل سنة ١٨٨٢، ودُفن في مدافن عظماء بريطانيا في وستمنستر آبي في العاصمة الإنجليزية. كان أبوه روبرت داروين طبيبًا وعالمًا طبيعيًّا. وقد تلقى شارلس دراسته في أدنبره وكامبردچ، وكان يراد توجيهه إلى الدراسة الدينية، غير أنه آثر دراسة العلوم الطبيعية منذ كان يدرس في كامبردچ، وقد وفق في سنة ١٨٣١ إلى الالتحاق بعمل وثيق الصلة بهذه العلوم في السفينة «بيچل»، فأتيح له أن يزور بعض جزر المحيط الأطلسي وبعض نواحي أمريكا الجنوبية.
وفي يوليو ١٨٣٧ مضى جديًّا في دراسة تقدم الأنواع، وفي ١٨٣٨ عُيِّن سكرتيرًا للجمعية الچيولوچية البريطانية، وفي ١٨٣٩ بنى بابنة خاله «إماويدجود»، وفي ١٨٤١ اعتزل منصب السكرتير. وفي ١٨٤٢ أقام في بلدة «داون» في إقليم كينت الإنجليزي، وبقي فيها إلى أن رحل عن الدنيا مذكورًا بنظرياته في التطور وتقدم الأنواع واختيار الأصلح.
وعند «داروين» أن الأنواع الكثيرة للمخلوقات الحية لم تكن من نتائج أعمال نشوء خاص، وهو ما كان المذهب الشائع المأخوذ به يومئذ، بل إنها على نقيض هذا، قد جاءت من أنواع خاصة مضت قدمًا مطردة السير متابعة الحياة استنادًا إلى ما احتفظت به الطبيعة لها من أوساط ملائمة، وعناصر طيعة لها ومعينة إياها على التقدم والنهوض والازدهار والتلون والتنوع، على حين أن كل انحراف إلى اتجاه غير صالح لهذه الأنواع والأصول لا بد أن يفضي إلى فنائها، فالأصلح للحياة والبقاء هو الذي يبقى؛ ومن ثم جاءت نظرية بقاء الأصلح.
وقد أطلق «داروين» على هذا المعنى اسم «الانتخاب الطبيعي». وفي ٢٤ نوفمبر ١٨٥٩ طبع داروين كتابه في «أصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي، أو حفظ الشعوب الممتازة في كفاحها من أجل الحياة والبقاء»، وقد تناول في الفصول الثلاثة الأخيرة من هذا الكتاب بحث قضية التطور. وفي ١٨٦٨ أخرج بحثه عن تباين أنواع الحيوان والنبات تحت التدجين، موضحًا تجاربه عن المادة وما يستند إليه في دعم كتابه سالف الذكر، ومنشئًا نظرية تخلق الجنين بصفات والديه والتكوين التناسلي العام، ذاكرًا أن كل خلية في الجسم ممثلة في خلايا الجرثومة أو النطفة الملقحة، ومن ثم تؤدي مهمتها في التوالد وإخراج صورة أخرى مطابقة للأصل.
وفي ١٨٧١ أخرج كتابه عن انحدار الإنسان والانتخاب فيما يتصل بالجنس، متحدثًا عن الأصول والسلالات التي ينتمي إليها الإنسان وبعض أنواع القردة، من غير أن يقرر في جزم أن الإنسان متسلسل من القرد، فقد كان حسبه أن يبين ما هناك من التشابه بين شبيهين للإنسان، وأن يوضح ما سبق أن تحدث عنه في ١٨٥٨ في نظرية الانتخاب الجنسي. هذا وقد مضى «داروين» يعمل في حديقة داره في «داون» مجربًا ومدونًا ما أسفرت عنه التجارب من النتائج وخاصة فيما يتصل بالنبات. وقد كان همه من تجاربه أن يوضح الحقائق كما تبدو له على الصورة التي يشهدها، معنيًّا بإقامة الدليل في غيرما تعصب، غير حافل بأن يدرس سر الحياة نفسها.
وقد خلف خمسة من الذكور بينهم ثلاثة من العلماء الباحثين الممتازين.
ولقد أحدثت نظريات داروين وبحوثه ثورة علمية واستثارت حربًا قلمية، فرمى الرجل بالإلحاد ومكايدة العقيدة الدينية. ولئن كانت هذه الحملة قد خفت حدتها في القرن الحالي، فإنه لا يزال لداروين خصوم من العلماء ورجال الدين، ولا يزال للنظريات الداروينية نظريات أخرى تناقضها، بل لقد بلغت الحملة عليها حدًّا جعل ولاية تينيسي في الولايات المتحدة الأمريكية تحرم تدريسها في المدارس وإخراج أستاذها منها، ولكن المحكمة العليا الأمريكية قضت بأن هذا القرار باطل وغير دستوري، على أن حسب الرجل أنه أعد الأفكار لشيء جديد جدير بالتمحيص.
خلاصة النظرية الداروينية
- (١)
إخلاف الأحياء لنسل كثير؛ أي إن الكثير من الحيوان والنبات، لا يتسنى له من الغذاء والمكان ما يكفل له بلوغ مدى الحياة.
- (٢)
هذا يفضي إلى تنازع البقاء، وتنازع البقاء يفضي إلى:
- (أ)
زوال الضعيف وبقاء الأقوى.
- (ب)
وفي الوقت ذاته تظهر صفات جديدة تساعد أصحابها على الفوز في معترك الحياة، فيبقى صاحب الصفة، صفة التباين الجديدة، كما تبقى الصفة مورثة نفسها للأجيال التالية.
- (أ)
ألفريد والاس
كان «ألفريد راسيل والاس» من علماء التاريخ الطبيعي المعاصرين لداروين، فقد وُلد والاس في ٨ يناير سنة ١٨٢٣ وقام برحلات إلى منطقة الأمازون.
كذلك وُفق إلى الحصول على مجموعات قيمة من الحشرات في أرخبيل الملايو، وهناك درس حياة الحيوان والنبات، كما أنه رسم الخط الفاصل المعروف باسم «خط والاس»، الذي يفصل بين الشرق وبين الجهات الأسترالية. وفي بورنيو دوَّن مقاله المشهور عن القانون الذي يبين نوعًا جديدًا، صائغًا نظرية داروين في بقاء الأصلح. ولما بعث والاس إلى صديقه داروين بنسخة من هذا المقال، تبين فيها أنها نص للنظرية، وتلا داروين هذا النص مع توضيح له أمام جمعية لينيان في أول يوليو سنة ١٨٥٨، وقد آثر والاس أن يتعاون مع داروين في دراسة نظرية التطور، فأخرج في سنة ١٨٨٩ كتابًا عنوانه «الداروينية» متحدثًا عن هذه النظرية، وقد مات في سنة ١٩١٣.
توماس هاكسلي
وجاء «توماس هنري هاكسلي»، وهو بريطاني أيضًا كداروين وزميله والاس، فأيد نظرية التطور وأصل الأنواع، غير قانع بما تقوله من أن التطور عملية من عمليات التقدم الطبيعي ليس غير، بل إن هناك قفزات مفاجئة قد مضت بهذا التطور حثيثًا. وقد مهد بحثه هذا إلى نظرية النشوء الفجائي.
وقد ولد هاكسلي في ٤ مايو ١٨٢٥ في أيلنج، واعتمد على نفسه في التعلم وتوفي في ٢٩ يونيو ١٨٩٥ بعد أن أخرج الكثير من المقالات والبحوث في علم وظائف الأعضاء، مبينًا أنه ليس هناك تدرج من الأسفل إلى الأعلى، بل إن هناك تطورًا تامًّا أو ناقصًا لكل نوع، ومما ساعده على دراساته التحاقه بخدمة البحرية في منصب الجراح، وفي سفينة للمساحة، ثم اشتغاله بتدريس العلوم الچيولوچية والطبيعية والعضوية والمورفولوچيا؛ أي علم هيئة الأجسام الحية وتركيبها.
وعند «لوك» أن الدنيا نتيجة عمل إنشائي، ذلك أن المادة محدودة ومخلوقة وهي — إلى هذا — عاجزة عن الحركة المنتجة ولو قيل إنها خالدة.
وعند «هيوم» في كتابه «محادثة عن التاريخ الطبيعي»، وعند العلماء الإنجليز في القرن الثامن عشر أن الدنيا تشبه تكوين الحيوان أو النبات. وعلى هذا فإنها قد وجدت بالتوليد لا بالخلق.
وقد عالج هذا الموضوع علماء فرنسا وألمانيا ﮐ: شوبنهاور، وكانت الذي تحدثنا عنه قبلًا، ثم شيلينج، وبوفون، وهارفي، وكومت، وهكسلي، وسانلي.
التحولات الفجائية ومراحل ما قبل التاريخ
وعند «لوتسي» الهولندي، أستاذ علم التناسل في كلية العلوم في جامعة فؤاد الأول المصرية سنة ١٩٣١، أن التحولات الفجائية هي نتيجة التنغيل فتظهر الصفات الكامنة.
هذا وقد قام الدكتور مورجون الأمريكي وزملاؤه وتلاميذه، الذين اشتهر بينهم «مولار» الأستاذ في جامعة تكساس الأمريكية بإنشاء المعامل والمستنبتات لتربية ذباب الفاكهة الكثير البيض، مستحدثين تحولات فجائية في هذا الذباب بتوجيه الأشعة السينية — إكس — إلى الخلايا التناسلية في دور خاص من أدوار انقسامها، فكثر عدد التحولات الفجائية.
لئن كانت «تينيسي» إحدى ولايات جمهورية الولايات المتحدة قد حرمت تدريس نظرية التطور الداروينية، وجاءت المحكمة العليا الأمريكية فقضت ببطلان هذا القرار، وأن هناك ما يعزز هذه النظرية التي نادى بها داروين وباشوفن ومورجان على صورة علمية، فعند «چورچون» أن ما قبل التاريخ أقسام ثلاثة: أولها عصر الهمجية. وثانيها البربرية. وثالثها المدنية. وأن لكل عصر مراحل ثلاثًا: (١) المرحلة السفلى. و(٢) الوسطى. و(٣) العليا، وأن ارتقاء الإنسان في إنتاج وسائل التغذية والتحكم في وسائط الحياة، هو ما يميز الإنسان عن سائر الكائنات الحية.
ففي عصر الهمجية، وهو الأول، كانت المرحلة الأولى للحياة الإنسانية هي مرحلة الطفولة؛ إذ كان الإنسان لا يزال يعيش حيثما ظهر. أعني في الغابات الحارة وشبهها، معتصمًا بالأشجار خشية الضواري ولحاجته إلى اتخاذ فاكهتها وبندقها وجذورها طعامًا له. وبدأ يُخرج أصواتًا هي أصول الكلمات الناطقة ومبادئ اللغة.
وفي المرحلة الثانية؛ أي الوسطى، آثر الإنسان أن يمشي على الأرض وعلى الشواطئ، فعرف السمك وعرف النار التي يشوي عليها السمك، ووسعه أن يسير مع مجاري الأنهار منتقلًا من مكان إلى آخر، مستخدمًا النار إلى شواء السمك، في طهي الجذور والخَبز في التراب الساخن أو أفران الأرض متخذًا من الحجارة أدوات غير مهذبة، وهي أدوات العصر الحجري الأول «البالايوليتيك»، ومبتدعًا السلاحين الأولين: الحربة والنبوت، وبهما عرف القنص والصيد وتذوقه.
وأما المرحلة الأخيرة، العليا: فقد ابتدع الإنسان فيها القوس والسهم والوتر بعد تجارب عقلية وصعاب استغرقت الألوف من السنين، وأصبح الصيد أهم وسائل الإنسان إلى الطعام اليومي، وشرع الإنسان في سكنى القرى ومراقبة الطعام وإعداد الأوعية الخشبية، ونسج لحاء الأشجار باليد وعمل السلال من قصب الغاب واللحاء، وتحديد الأدوات الحجرية، فإن النار والفأس الحجري كانا من أدوات الحفر، كما كانت أخشاب الغابات صالحة لبناء الدور.
أما عصر البربرية، وهو العصر الثاني: فتبدأ مرحلته الأولى منذ عرف الإنسان الطين واتخذه غطاء للخشب والأوعية وقاية لها من النار، ثم أدرك أن النار تجعل الطين ذاته يصلح كأوعية. ومن هنا عُرف الفخار وفي هذه المرحلة أخذ الناس يتباينون أقوامًا تبعًا لموارد الأرض الطبيعية، كما شرعوا يدجنون الحيوان ويعرفون النبات في الدنيا القديمة: عرف الحيوان المستأنس والحبوب الزراعية حين كانت أمريكا لا تعرف غير حيوان اللاما والقمح.
وفي المرحلة الثانية، الوسطى: أخذ الشرق يدجن أنواع الحيوان، أما الغرب فقد أخذ يزرع الحبوب ويرويها، ويستعمل الحجارة والطوب المجفف في الشمس في البناء، بينما كان هنود شرقي المسيسيبي لا يزالون في مرحلة البربرية السفلى زارعين مساحات صغيرة من القمح والبطيخ ونبات الحدائق، مقيمين في دور خشبية وحقول مسورة، وكان سكان الشمال الغربي الأمريكي وعلى نهر كولومبيا خاصة في مرحلة الهمجية، وكان هنود البويبلو في المكسيك الجديدة والمكسيكيون وسكان أمريكا الوسطى والبيروفيون في مرحلة البربرية الوسطى، وكان عندهم من الحيوان الأليف اللاما والديك الرومي وبعض الطيور، وبعض المعادن عدا الحديد.
وقد اتسمت مرحلة البربرية الوسطى في الشرق بتدجين الحيوان اللبون ومكتنز اللحم، في حين أن زراعة النبات تأخرت طويلًا، وأن استئناس أنواع الحيوان وتحسين نوعه واقتنائه قطعانًا، هو — كما يبدو — الذي فصل الآريين والساميين عن الأقوام البربرية، وأن أسماء الحيوان مشتركة بين لغات الأوروبيين ولغات الآريين والساميين، في حين ليس ثمة اشتراك في أسماء صنوف النبات.
وقد أدى اقتناء القطعان إلى الحياة البدوية كما بدت عند الساميين في سهول الدجلة والفرات، وعند الآريين في سهول الهند والدون والدنيير، كما أن تدجين الحيوان بدأ عند ضفاف الأنهر القريبة من مراعي الماشية، والتغذية باللحم واللبن ساعدت الآريين والساميين على الارتقاء، يدل على هذا أن هنود البويبلو الذين سلف ذكرهم، كانوا يأكلون النبات، وكانت دماغهم أصغر من دماغ خلفائهم في المرحلة السفلى البربرية حين أكلوا لحم الحيوان والسمك.
وفي المرحلة العليا: بدأ صهر الحديد واخترعت حروف الكتابة، التي استُخدمت في التدوين والرسائل كما حدث في عهد أبطال الإغريق والقبائل الإيطالية التي تقدمت تأسيس روما، كما عُرف المحراث الحديدي، وكشفت الغابات واستصلحت للزراعة وللرعي في مساحات كبيرة، وابتدع الفأس والشفرة الحديديتان، فزاد عدد السكان.
وقد وضعت أشعار إلياذة هوميروس في هذه المرحلة العليا البربرية، ففيها ورد ذكر الأدوات الحديدية المهذبة والمنفاخ وطاحونة اليد والعجلة، وتجهيز الزيت والخمر والعربة والسفن والمدن المسورة والقلاع.
أما في العصر الثالث، عصر المدنية؛ أي الحضارة التي عرفت الأسر المالكة، فقد توسع الإنسان في الزراعة وإجادتها، كما حذق الصناعة وبرز في الإنتاج العقلي بروزًا مطرد التقدم منذ بدأت الحضارة إلى اليوم.
طبائع الحياة الثلاث
وعند الفيلسوف العصري المجدد «برچسون» في كتابه «التطور الخالق» أن الحياة ثلاثة فروع: أولها فرع النبات وطبيعته الخمود، وهو لا وعي له ولا حركة ومن ثم لا دراية ولا تردد عنه؛ وثانيها فرع الحيوان الدنيء وأبسطه الحشرة وأرقاه النمل والنحل، وطبيعتها الغريزة، وهي قليلة التردد، ومن ثم كان لها وعي ولكنه ضعيف جدًّا؛ أما ثالثها فهو نوع الحيوان العالي وأسمى مراتبه الإنسان وطبيعته العقل، ومن ثم كان له وعي وتردد.
ولما كانت الحياة تشتعب هذه الأنواع الثلاثة، كان في الإنسان، وهو كائن حي، هذه الطبائع الثلاث: الخمود، والغريزة، والعقل. وكانت الحياة ترمي — وهي تسير متخطية المادة والعوائق — إلى تحقيق غاية معينة.
وعند «ماكوستون» أستاذ البيولوچيا في الجامعة الأمريكية بالقاهرة أنه لما بدأ الناس يظنون، على أثر دراستهم للآثار المتحجرة، أن في نشوء أنواع النبات فعلًا تطوريًّا وتدريجيًّا؛ قالوا: إنها نشأت بفعل التطور من أحياء بسيطة ذات خلية واحدة. وهذا ما يعرف عند طائفة كبيرة من الناس «بنظرية التطور» الآن. ولكنه في عرف السواد من علماء الأحياء «حقيقة التطور»، وهم لا يحسبونها «نظرية» فقط؛ لأن الأدلة التي تؤيدها كثيرة مستمدة من الچيولوچيا «علم طبقات الأرض» والمورفولوچيا «علم شكل الأحياء»، وعلم تفرق النبات والحيوان وعلم الأجنة، ومن التجارب العلمية في استحداث أصناف جديدة من أنواع النبات والحيوان الداجن.
نمو الجنين يؤيد النظرية الداروينية
ومما اتخذ دليلًا على مذهب التطور أنه حين تستقر الخلية المذكرة اللاقحة في الرحم، تنقسم نصفين، وكل منهما نصفين، وهلم جرًّا، إلى أن تتألف مجموعة من الخلايا تتخصص في الجنين إلى خلايا الدم وألياف العضل ونسيج العظام، وفي أثناء الانقسام والتخصص تتخلف خلايا صغيرة تحتفظ بمهمة التناسل، وإبقاء مادة الوراثة أو النواة الجرثومية في شكل خيوط يبلغ عددها في النواة الجرثومية للإنسان ٤٨، ينتقل نصفها من الوالدين إلى المولود، وهذا النصف قد يكون هو الذي ينتقل في حمل آخر أو يكون نصفًا آخر، وقد يكون حاملًا لأكثر الصفات العقلية والشكلية والبدنية لأحد الوالدين أو كليهما أو لأقلهما. ومن هنا يكون التفاوت بين المولود وبين والديه وبين إخوته كبيرًا أو صغيرًا والمشابهة بينه وبينهم كثيرة أو قليلة، وهذا خليق بأن يفسر لنا انتقال المواهب والنقائص والأمراض لا بين الوالدين وولدهم وحسب، بل بين الأجداد والأحفاد، وتوارث أسباب طول العمر أو قصره أو اعتداله في الأسر، ووجود المماثلة التامة بين توءمين من جنس واحد كذكرين أو أنثيين متى كانا ناشئين عن انتصاف خلية واحدة.
هذا وليس في وسع العلم إلى الآن أن يتحكم في تغليب الصفات الممتازة على غيرها في المادة الجرثومية عند تخلقها، مع أن التهجين قد نجح في الحيوان والنبات.
على أن النواة الجرثومية قد يطرأ عليها تحول مفاجئ ويجعلها تنقل إلى الجنين صفات أخرى غير صفات والديه أو بعضها. هذا ويقال إن مشابهة الولد لأبيه ترجع إلى أن الأم أقوى من الأب. أما مشابهته لأمه فترجع إلى نقيض هذا أي إلى أن الأب أقوى من الأم. والقوة هنا إما أن تكون بدنية أو عقلية أو هما معًا.
وتقول «مارجريت شباجلبرت» في كتابها «قصة جنين»: «إن حياة الإنسان تبدأ من «نطفة مذكرة دقيقة — تبلغ من التناهي في الصغر أن لو جمعت كل النطاف اللازمة لإنتاج الجيل المقبل بأمريكا الشمالية لوسعها رأس دبوس — هذه النطفة تصطدم في رحم المرأة ببويضة كاملة النمو، فينشأ من الإخصاب — أي امتزاج النطفة بالبويضة — شخص جديد. وفي الشهر الأول من حمل الجنين، عوضًا من أن تنشئ المضغة، العضو على الطراز الذي يستعمله الرجل دفعة واحدة. تنشئه على النمط الذي يوجد في حيوان أدنى كثيرًا من الإنسان كالسمك مثلًا، ثم تهمل هذا العضو وتنشئ عضوًا آخر كالذي يستعمله حيوان أرقى كالضفدع ثم تعود فتهمله، ومن ثم فلعلها تنشئ عضوها البشري من أطلال هذه الأعضاء السابقة جميعًا. ويعلل العلماء هذا التطور العجيب الشائع في نماء كل مراتب الحيوان العليا بأنه تكرار سريع لتاريخ التطور العضوي الطويل. وفي الشهر الثاني تخضع الجوارح لسلسلة مماثلة من التطورات؛ إذ تستطيل براعمها ويتفلطح الطرف المطلق لكل منها، حتى يصبح في مثل صفحة المجداف، ومن هذه الصفحات تتكون راحات الأيدي وأمشاط الأقدام.»
•••
ومن آيات التطور أن جواد اليوم ذا الحافر الواحد يرجع أصله إلى جواد ذي أصابع خمس.
التطور والشئون الاجتماعية
عند بعض المشتغلين بالشئون الاجتماعية أن نظرية التطور تصلح علاجًا لبعض أمراض المجتمع وعيوب التكوين الإنساني. ذلك بأن تعمد الحكومات والجماعات الإصلاحية إلى منع الذين أصيبوا، عن طريق الوراثة بالأمراض والإجرام، عن التناسل، وذلك بحقنهم بمواد خاصة ثم إلى إيجاد طراز الإنسان الممتاز بدنًا وعقلًا «السوبرمان»، وإلى التقريب بين الطبقات.
(٢) التدهور
رأينا فيما تقدم كيف نشأت نظرية «التطور»، ذاكرين في بداية عرضها أنه قد يكون انتقال الأشياء وتغييرها إلى النقصان والضمور أو الزوال، فيسمى هذا الانتقال «تقهقرًا» أو «تدهورًا»، عوضًا من أن يكون إلى الزيادة والنمو والارتقاء، وإلى الأحسن كما هو المشاهَد في «التطور» الاصطلاحي الفني.
وقد أشار الفيلسوف اليوناني القديم المعروف «أفلاطون» إلى شيء من هذا التدهور كما سيجيء بعد.
(٢-١) فلسفة أفلاطون
ولد أفلاطون في سنة ٤٢٧ق.م في جزيرة أچيفا وتوفي في سنة ٣٤٧ق.م، كان التلميذ الأول لسقراط وعنه أخذ الفلسفة، وقد زار أفلاطون إيطاليا ومصر وصقلية وأقام في أثينا.
وعنده أن الفلسفة معرفة العموميات والإلمام بالضروريات، وأنها منقسمة أقسامًا: (١) جدلية، و(٢) طبيعية، و(٣) أخلاقية. وأن للعقل ثلاث خصائص: الإحساس، والإدراك، والفكر. وأن الناس ثلاثة أقسام: المشرعون أو الفلاسفة الذين خُلقوا للسيادة، والمحاربون للحراسة، والصناع للطاعة، أما العبيد فماشية الدولة. وأن الأفكار هي أصول الأشياء وهي عالم مستقل متصل بنا من الله مباشرة، وهي قوالب الأشياء أو نماذجها، والرجل الفاضل هو الذي يعرف هذه القوالب وروح الإنسان خالدة ومتجددة الميلاد، وهي كامنة في الجسم الذي هو بمثابة سجن لها، ويحاول أفلاطون في «جمهوريته» أن يصف كيف يتعلم الحكام في الدولة المثالية التي ينادي بها ويبين أن الفلاسفة هم الذين ينبغي أن يكونوا ملوكها.
وعند أفلاطون أن الله بعد أن خلق الدنيا سيرها مقدرًا لها الفَناء بعد أن تعمر ٧٢ ألف سنة، ومن ثم لازمت جرثومة الفساد الإنسان عند نشوئه، هذا وتنعم الدنيا في النصف الأول من عمرها بالمستوى العظيم. أما في النصف الثاني فتهبط إلى هوة الفساد؛ لأن الله يتخلى عن رعاية الدنيا. ثم إنه بعدئذ يعيد إليها الحياة جديدة ويذهب «أفلاطون» إلى أن العصر الحاضر هو عصر التدهور، وأن العصر الذهبي الذي كان متسمًا بالبساطة قد مضى، خاصة بعد أن فقدت أثينا حريتها.
وعند الرواقيين والأبيقوريين في اليونان أن هذا العصر يبعث على التطير، وعند الرومان أن التاريخ يتداوله الصعود والهبوط مئات المرات.
وعند «باتيسون» أنه لئن صح أن هناك أصلًا للأنواع وانتخابًا طبيعيًّا بينها، فإن كثيرًا من الفروض والنظريات التي يقوم عليها المذهب الدارويني واهي القاعدة.
وذهب «مندل» القس النمسوي المعاصر لداروين — بعد تجاربه في حديقة الدير بين سنتي ١٨٥٦ و١٨٧٢ — إلى أنه إذا وجدت الصفتان المختلفتان في النباتين المتزاوجين، فإن الصفة السائدة هي التي تسيطر على نبات الجيل الأول ولا يستطاع التفريق بين وحداتها التي سيكون إنتاجها صريحًا وبين التي ستعيد ظهور الصفتين في إنتاجها.
وعند «سانت أوغسطين» في العصور الوسطى أن العالم قد أشرف على النهاية، وأن التقدم الإنساني مستحيل منذ عصى آدم ربه مورثًا دم سلالته الإثم والخطيئة.
وعند «بيكون» أن الجماعة البشرية قد شاخت ومن ثم فهي ستهبط إلى أن تفنى.
وعند «دي فريز» النباتي الهولندي أن أصل الأنواع يرجع إلى الطفرة؛ أي إلى تغييرات فجائية.
(٣) رأي المؤلف
أوردنا فيما تقدم آراء الفلاسفة القدماء والعصريين في نظرية «التطور»، ثم في نقيضها «التدهور»، وعندنا أن الفريقين قد غاليا في آرائهما، ذلك أن نشوء الحياة ونموها أو ضمورها من المسائل التي أعيت المفكرين، فإذا كان بعضهم، خاصة في نظرية التطور، قد وفق فيما أراد أن يقرره بعد القيام ببعض التجاريب فليس هذا التوفيق يناهض دليلًا على تعميم النظرية في كل شيء حتى في الشئون الاجتماعية.
وجملة ما يسعنا أن نقوله: هو أن في حياة الكون أشياء، قد ظهرت فجأة كثوران العواصف والبراكين والزلازل مهما نحاول تعليل حدوثها.
وثم أشياء لا تتكون ولا تنضج إلا بعد تدرجها في سلم الارتقاء كالجنين والعلوم والمستحدثات. كذلك هناك أشياء تنقص وتضعف وتتقهقر وتنمحي من الحياة محوًا، كحالة الإنسان حين يمرض أو حين يبلغ الشيخوخة إلى أن يموت، وكحالة الضواري المنقرضة واشتداد البرودة في إحدى البقاع.
وعلى هذا نستطيع أن نقرر أن الحياة مزيج من الثورة والتطور والتدهور، وأنه قد يكون الإنسانُ البدائي، الذي لم نعرف عنه شيئًا ما أو عرفنا عنه شيئًا كثيرًا، أعظمَ حضارة من خلفه. أو قد يكون ما نعده الآن أرقى مما مضى ليس تطورًا إلى الأرقى، بل هو خروج على الحياة الطبيعية، قد يفضي إلى نهاية غير سارة إذ إننا نقيس الأشياء بعقولنا لا بحقيقة الأشياء، هذه الحقيقة التي أكثرها لا يزال مجهولًا.