العصور الچيولوچية وعصور المصنوعات المعدنية
رأينا في (الفصل الثالث: الحياة على الكرة الأرضية) أن الحياة على الأرض قد تقلبت في مراحل كثيرة، وأنه كان هناك عصر لم تكن فيه حياة ما على الأرض وهو «العصر الآزويكي» كما يؤخذ من الصخور والبقايا التي خلفها، وأن عصر البليزويك الأدنى قد ظهرت فيه أمارات الحياة كقشر المحار والقواقع والدنيئيات والديدان البحرية، وأن الأرض قد استهدفت لصنوف من الطقس خاصة عصور الجليد، وأنه قد تبع هذا ظهور البرمائيات فالزواحف «الفصل الرابع»، فاللبونات «الفصل الخامس»، فالقردة والإنسان الناقص «الفصل السادس»، فالإنسان التام «الفصل السابع».
هذا وقد تتابعت على الأرض أزمنة أو عصور چيولوچية.
(١) الچيولوچيا: علم طبقات الأرض
«چيولوچيا» يونانية: «چو» أرض و«لوچيا» علم، وعلى هذا كانت الچيولوچيا علم البحث عن التاريخ الطبيعي للأرض. فهو يتتبع التقدم التركيبي للأرض منذ ابتدائها متمشيًا مع عصورها إلى الآن. كذلك يبين حالة تطور مظاهر سطح الأرض وكيف انفصلت بعض القارات عن بعض، وبرزت الجبال وانفتحت الوديان وعرفت رءوس الصخور والمهاوي التي بينها. والچيولوچيا — إلى هذا — توضح حالة النبات والحيوان وسلالاتهما الدائبة التطور. وهناك الچيولوچيا التنجيمية والفلكية التي تتحقق ظواهرها بالمجهر والمرقب الطيفي وبالتحليل الكيمائي فيما يتصل بحالة الأجسام الأخرى السماوية. وهناك الچيولوچيا الكيمائية والنهرية والحيوانية. ولكن الصخور هي في الواقع موضوع الچيولوچيا: تكوينها وتغييراتها.
ومما يقدره الأرضيون أن أفريقيا كانت متصلة برًّا بأوروبا وفرنسا بإنجلترا وآسيا بأمريكا شمالًا. وأن حوادث وأسبابًا وتقلبات خطيرة قد أحدثت هذا الانفصال.
هذا والطبقات التي تألفت بالتبريد التدريجي ليس تنضيدها أفقيًّا في حين أن الصخور التي جاء بها الماء المالح أو العذب كانت أقرب إلى الأفقية. وليس في الأولى بقايا الحيوان والنبات. ومن أمثلة هذه الطبقات الصخرية الجرانيت وحجر السماق «البوفير». أما الثانية فهي الرواسب وهي التي وجد فيها بقايا الحيوان والنبات.
وإلى هذين النوعين — الصخور المنضدة المبردة والرواسب — يوجد نوع ثالث هو الحجر الجيري بأنواعه الثلاثة: (١) المائي العذبي، و(٢) الماروني القوقعي، و(٣) السليسي. أما النوع الرابع فهو الصخور المبعثرة والرمل والأحجار الرملية والأرض الخصبة والطمي. وهذا النوع الرابع قد ظهر في الزمن الرابع. إذ إن لكل نوع من الأنواع الأربعة زمنه أو عصره.
وجملة القول أن مراتب الطبقات الأرضية من الأسفل إلى الأعلى كما يأتي: (١) الأراضي الأصلية المؤلفة من الصخور النارية المبردة تدريجًا، ومنها الصخور الحبوبية والميكا والطلق؛ وهي في الزمن أو العصر الحجري الأول. و(٢) الرواسب، وفيها البقايا الحيوانية والفحم الحجري والحجر الجيري السكري وحجر الرمل الأحمر القديم والقوقعي والصغير، والطفل الأخضر والمارد والحجر الرملي الأخضر والطباشير الأبيض — وهي في الزمن أو العصر الثاني. و(٣) الحجر الجيري المكون من الماء العذب والحجر الجيري المارني القوقعي والحجر الجيري السلسي وهو في الزمن أو العصر الثالث. و(٤) الطبقة الأرضية الظاهرة التي نعيش عليها الآن.
وعند الچيولوچي أن العناصر المتجمعة لديه قد تألفت على صورة منسقةٍ، القديمة منها في القاع، والجديدة في القمة، يضاف إليها — حين يدرسها — بقايا النبات والحيوان في الصخور، وبقايا البحور والأخاديد ومنثورات البراكين البائدة وعظام الحيوان والقواقع والقشور والنوى، وما يوجد داخل الأشجار والقشور والفحم وحشرات الغابة وآثار الطيور والزواحف والديدان عند الشواطئ؛ إذ بدراستها يعرف عصرها وتغييراتها الجغرافية.
هذا وقد نشأت الجبال من ارتفاع في قشرة الأرض على أثر الغازات الملتهبة وبرودة الجزء المرتفع. أما التربة الزراعية فقد نشأت عن تحلل الصخور بتأثير الماء والهواء وتفاعل العناصر، فوجد الرمل والطفل والسماد الناشئ من تحلل المواد العضوية بإيجاد الآزوت والكربون والأملاح.
(١-١) العصر الطباشيري
يقدر علماء الچيولوچيا أن العصر المعروف بالعصر الكريستاسي أو الطباشيري، انتهى منذ مدة تختلف من خمسة وخمسين مليون سنة إلى مائة وعشرين مليون سنة. وقد شهد هذا العصر انقراض الحيوانات والزحافات الهائلة التي كانت تسود الكرة الأرضية، وفي مقدمتها الحيوان المعروف بالديناصور. ولكن علماء الچيولوچيا لا يعرفون شيئًا عن الحشرات والهوام في ذلك العصر السحيق. وقد وفق المعهد الشمسوني — هو من أعظم المعاهد العلمية — إلى اقتناء بقتين حجريتين من بق ذلك العصر.
(٢) عصور المصنوعات المعدنية
عند المؤرخين والچيولوچيين، علماء طبقات الأرض، أن الإنسان في مجتمعه البدائي، كان يستعمل الأدوات الصالحة لمعيشته مما كان يعرفه، وأنه لا بد أن يكون الحجر هو أول المعادن والمواد التي عرفها؛ لأن الحجر بارز على الأرض، فالأدوات المصنوعة من الحجر عُرف زمنها باسم «عصر الحجر». وبعدئذ عرف الإنسان النحاس فالبرنز «عصر البرنز»، ولما عرف الحديد استخدمه الإنسان في صنع أدواته فسمي هذا «عصر الحديد». أما عصر الحجر فهو العصر الأول للصناعة؛ إذ كان الإنسان يتخذ من الحجر أدواته يصنعها ساذجة، والحجر هو قطعة منفصلة أو شظية من الصخر فهي تشمل ما على الأرض والطرقات من الجزئيات والحصى في البحر وقاع النهر والشاطئ، وفيما يستعمل في مواد البناء وهي على الأخص تدل على ما يُتخذ من الجبال لنحت ما يلزم للقبور والطواحين في شكل خاص وحجم خاص.
أما الأحجار الثمينة فهي تدل على المعادن التي لها بريق ولمعان ولون أو ندرة ومن خواصها الصلابة. فهي تقوم تبعًا لاستخدامها في الحلي. وكذلك تطلق على النوى كنوى البلح والمشمش.
وإذا اختير الحجر للبناء وجب أن يكون صالحًا للعلو عليه ولمواجهة الطقس المحلي، وكذلك من ناحية اللون ومقدار ما يوجد منه في المحاجر وثمنه. وقد يصعب الحصول على نوع معين.
ولما كان لكل حجر رطوبته، وجب انتظار جفافه منها ومن أنواعه: الجرانيت المنضد، وحجر البلاط، والكلس.
(٢-١) عصر الحجر الباليوليتيكي «القديم»
يقسم الأرضيون عصر الحجر ثلاثة أقسام: أولها «عصر الحجر الباليوليتيكي»، وهو أطول من الثاني؛ أي عصر الحجر الأول أو القديم، حين كان الإنسان يشترك مع الماموث ودب الكهف ووحيد القرن ذي الشعر الصوفي وغيره في سكنى أوروبا. وكانت أدوات هذا العصر مصنوعة بالحك خشنة غير مصقولة وضخمة لا فن فيها، والسلاح شحفة من الحجر، تستدق من الطرف ولم يخلف عصر الحجر الأول هذا آثارًا للكلب والخروف والفرس والدين. أما في عصر الحجر الأول المتوسط فإن الأدوات والآلات كانت تُصنع بالضغط عوضًا عن الحك، والأسلحة عفناء. ومن الأدوات القوس والنشاب وآلات تثقيف العيدان والرماح، والرمح، والحربة، والمسطرين، والإبرة العاجية، والفرو، والجلد والرسم، والصور، ومخلدات الميت.
هذا وفي فرنسا وشمال إيطاليا قليل من بقايا إنسان عصر الحجر القديم؛ لأن العظام لم توجد إلا في الكهوف والمخابئ الصخرية؛ إذ إن الدفن لم يكن معروفًا. وقد وجد «بوشيه دي برتيه» في سنة ١٨٤١، أول أداة حجرية أولية عند أحد السواحل الرملية وفي منشكور، وقد ظهرت كشوف أخرى بعدئذ.
وقد قسم الأرضيون عصر الحجر الأول أقسامًا تبعًا لما عثروا عليه من بقايا الماموث والدب والأيل.
(٢-٢) عصر الحجر النيوليتيكي
كان لورد «أفيبوري» أول من أسماه بهذا الاسم «عصر الحجر الجديد»، فقد أطلق منذ يومئذ على المدة التي كانت فيها الأدوات المصنوعة من الحجر مصقولة ودقيقة على نقيض صناعة الأدوات في المدة الأولى من عصر الحجر أو «عصر الحجر الباليوليتيكي»، عصر الحجر الأول. وقد عرف «عصر الحجر النيوليتيكي»؛ أي الجديد حين كشفت المدافن القديمة، وأغوار البحيرات السويسرية وبعض أراضي الدنمرك والمغارات التي وجدت بها العظام. هذا ولم يوجد شيء من المعادن سوى الذهب، الذي يبدو أنه كان يستعمل في الحلي أحيانًا. ومن ظواهر عصر الحجر الجديد معرفة الزراعة، والفخار والنسيج وتأليف الحيوان، ودفن الموتى في مدافن. وقد قسم الأرضيون هذا العصر أقسامًا غير قليلة.
هذا ويرجح أن الزمن النيوليتيكي — الحجري الأخير — بدأ بعد عصر الجليد؛ أي منذ ١٥ ألف سنة، وانتهى منذ ٨ آلاف. أما عصر البرنز فقد بدأ منذ انتهاء عصر الحجر الأخير إلى ثلاثة آلاف سنة حين بدأ الحديد. ومن أدوات هذا العصر، زوارق الصيد والأكواخ والفخار والمساكن الخشبية في البحيرات. ومن حيوانه الكلب المستأنس.
(٢-٣) عصر البرنز
هو عصر الصناعة الثاني، هو العصر الذي أعقب عصر الحجر سالف الذكر إذ أخذ الإنسان يستخدم البرنز في صنع أدواته.
والبرنز مؤلف من خليط من النحاس والصفيح في حين أن الحديد يمكن تخليصه من الخام حالًا بمطرقة لشكله. وكان الأجدر أن يُعرف قبل البرنز، ولكن الآثار تدل على أن عصر البرنز قد سبق عصر الحديد.
هذا وفي أول عصر البرنز لم تكن السيوف والأسلحة والدروع معروفة، فلم يعرف إلا المحور والسكين والحربة.
وكان عصر البرنز أقصر زمنًا من عصر الحجر الجديد أو الأخير وأكثر منه ثقافة، أما وجود الأدوات مدفونة مع جثة الميت في عصري الحجر والبرنز، فليس معناه أن الميت سيُبعث حيًّا وسيستعمل هذه الأدوات، ولكن قد يكون معناه كراهة أن يستعملها الحي.
هذا ويقال إن النحاس قد سبق البرنز، فقد وجدت حوالي البحر المتوسط وفي أوروبا الوسطى وأرلنده أدوات من النحاس فقط. أما البرنز فيتألف من جزء من عشرة من الصفيح وتسعة من النحاس.
ويوجد في الصين وكورنوال، مادتا النحاس والصفيح معًا.
ومع أنه لا يوجد الصفيح في مصر وأرض الجزيرة فقد وجدت مصنوعات فيهما قبل ٣٠٠٠ و٤٠٠٠ قبل الميلاد.
ولا بد أن خلط النحاس بالصفيح كان في جملة جهات. وليس معروفًا من أين جاء إلى مصر.
وعند «و. جولاند» في بحوثه المقدمة إلى جمعية الآنتيكوراي في لندن في ١٨٩٩ أن النحاس الخام كان حصًى أو صخرًا كبيرًا سائبًا في قاع المجري، حين كان الإنسان في عصر الحجر ينقب عن الحجارة. أما الصفيح فقد كان في قاع النهر. ثم إن مادتي النحاس والصفيح قد صهرتا معًا بين حجرين قبل أن يعرف الإنسان الأفران، التي بدأت ثقبًا في الأرض يلهبه الهواء إلى أن اخترع المنفاخ فاستخدم في إشعال النار.
(٢-٤) عصر الحديد
هو العصر الثالث الذي عرف فيه الإنسان الحديد وطفق يستخدمه في صنع الأسلحة والأدوات والعدد. على أن هذه العصور الثلاثة، «الحجر والبرنز والحديد»، لم تكن دائمًا وفي كل الأزمنة والأماكن متسلسلة على هذا النسق.
جزر الباسفيك الجنوبي وفي شمال أمريكا وجنوبها وداخل أفريقيا، بلاد تنقلت من الحجر إلى الحديد دون أن تجوز عصر البرنز. وفي أوروبا ظهر حديد في أواخر عصر ما قبل التاريخ وأوائله.
أما في مصر وكلدة وآشور والصين فقد ظهر فيها الحديد متأخرًا؛ أي في ٤٠٠ق.م.
وقد وجد «چاستون ماسبيرو» بعض قطع من الحديد في خلف أهرام أبو صير (الأسرة السادسة)؛ أي ٣٠٠٠ق.م، كذلك ذكر الحديد في نص بيبي الأول في ٣٤٠٠ق.م، واستعمل الحديد في أوروبا الشمالية قبل غزو قيصر.
وفي شمال روسيا وسيبريا عرف الحديد في ٨٠٠ب.م. وفي جنوب أوروبا عرف الحديد قبل شمالها؛ أي إنه جاء من أفريقيا، يؤيد هذا أنه وجد في الهرم الأكبر الحديد، فقد وجد قليل منه في الآثار المصرية، وكان يعد غير طاهر منسوبًا إلى «سيث» روح الشر الحاكم على صحراء أفريقيا الوسطى في رأي المصريين القدماء!
هذا وقد عرف الحديد منذ ٥٠٠٠ سنة على الأقل في الصين. ثم في مصر منذ ٤٠٠٠ سنة. ثم اليونان منذ ٢٧٠٠ سنة.
أما تأخر علم الإنسان بمعدن الحديد مع أنه في الأرض منذ ملايين السنين يرجع إلى لونه وهو خام؛ إذ هو أسود كالحجر الأسود، لا يسترعي النظر على نقيض النحاس؛ كذلك لأن القطع الحديدية خشنة وصغيرة، هذا ولا يلين الحديد الغفل ولا يتطرق حين يدق طويلًا ومكررًا على النار.
وقد كشف خنجر من الفولاذ في مقبرة توت عنخ آمون.
أما أنواع الحديد فمنها: الخام والغفل والمشغول والمطروق والمصهور والصلب. والحديد الغفل قسمان: (١) حديد فوسفاتي، و(٢) غير فوسفاتي، تقل فيه كمية الفسفور عن ٣٪، ومن أهم أنواعه الهيماتيت، الذي يكثر في إسبانيا والبحيرات العليا الأمريكية، ثم في كمبرلند وشمال لنكشير في البلاد الإنجليزية التي تعول عليه في صناعتها. ويقال إنه وجد في حضرموت شيء منه.
وقال «چنيزيز»: إن «طوبال كين» وهو السادس بعد آدم هو الذي كشف الحديد، وإن الآشوريين كان لديهم سكاكين ومناشير، وإنها لا بد أن تكون مصنوعة من الحديد الشديد الصلابة، كذلك وجدت أداة حديدية في الأهرام القديم في كفرون ٣٥٠٠ق.م، وعرف تعدين الحديد في عصر تحتمس الثالث ١٥٠٠ق.م.
الحديد وصناعته في مصر
يقول الدكتور حسن صادق باشا وزير المالية الأسبق: إن الحديد كعنصر مستقل غير متحد بعناصر أخرى قليل الوجود في الطبيعة. وما يوجد منه خالصًا إما قطع صغيرة منتشرة في بعض الصخور البركانية، وإما من النيازك أو الشهب التي تهبط سطح الأرض من السماء. وأما مركبات الحديد، ولا سيما أكاسيده، فهي كثيرة الانتشار في الصخور المكونة للأرض.
ولما كان الإنسان في عصوره الأولى غير عالم بسر استنباط المعادن واستخلاصها من خاماتها، فكان عليه أن يعتمد في صناعة آلاته للصيد وللدفاع عن نفسه على ما يتفق له من مواد صلبة تصلح لصنع هذه الآلات. فكان أول ما لجأ إليه الأحجار كالصوان وغيره، ومكث دهورًا طويلة لا يعرف سوى الآلات الحجرية، ثم عرف النحاس، ثم سرعان ما وفق إلى العثور على سر صناعة البرنز، وهو خليط من النحاس والقصدير، فكان توفيقه هذا خطوة واسعة نحو تقدم مختلف الصناعات؛ فارتقى درجات عديدة في سلم المدنية.
أما حضارة المصريين القدماء فهي، بحق، مدنية برنزية أو في القول الأصح مدنية نحاسية؛ إذ انفرد المصريون دون غيرهم من الأمم بالوقوف على سر سقاية النحاس وتقسيته بطريقة تجعله من الصلابة، بحيث يصلح لصنع كافة الأدوات والآلات التي تتطلب متانة وصلابة خاصة.
أما الحديد فلندرة وجوده خالصًا في الطبيعة لم يتجه الإنسان القديم إلى استعماله، ومع انتشار خاماته فإن استنباطه منها لم يكن بالسهولة التي للنحاس. هذا إلى أن تهذيبه بعد ذلك غير مستطاع إلا إذا حُول إلى فولاذ، وطُرق وهو في حرارة الاحمرار، مما كان يتطلب من الإنسان القديم مجهودًا لم يكن له قِبَلٌ به، فتأخر استعمال الحديد عن النحاس آلافًا من السنين.
وقد يتعذر علينا أن نقرر على وجه التحقيق الزمن الذي بدأ فيه الإنسان استعمال الحديد، ولا العصر الذي وقف فيه على سر استنباطه من خاماته والشواهد من آثار مصر القديمة غامضة غموضًا كبيرًا في هذه الناحية.
ومن أقدم ما عثر عليه من قطع الحديد بعض حبيبات من (الخرز) في حفائر جرزة بمديرية الجيزة التي ترجع إلى ما قبل تاريخ الأسرات المصرية الأولى، وقد أثبت تحليلها الكيمائي أنها من حديد النيازك لاحتوائها نسبة مرتفعة من النيكل.
يلي ذلك قطع من آلات حديدية وجدت في آثار بعض الأسرات القديمة على أن صحة انتسابها لما وجدت فيها من آثار محل تشكك أغلب علماء الآثار؛ ولهذا نرى أن نضرب عنها صفحًا. وقد وجدت بين الآثار التي كان يحتويها قبر توت عنخ آمون بعض آلات حديدية، منها: خنجر، ومسند مصغر للرأس، وعين ضد الحسد مصنوعة في سوار من ذهب، وأسلحة صغيرة دقيقة ذات أيدٍ خشبية يبدو أن قيمتها كانت دينية؛ إذ لا يعقل أنها كانت ذات فائدة عملية تذكر. ولما كان حديد هذه الآلات المختلفة لما يحلل، فلا يمكن البت في هل صنعت من حديد النيازك أو من حديد مستخلص من خامات أرضية، والغالب أنها كانت مستوردة من الخارج.
ومنذ نهاية الأسرة الثامنة عشرة، التي كان توت عنخ آمون من أواخر ملوكها، زادت الأشياء المصنوعة من الحديد بين آثار المصريين القدماء، حتى إذا وصلنا إلى الأسرة السادسة والعشرين، حوالي سنة ٦٠٠ قبل الميلاد، شاع استعمال الحديد شيوع النحاس والبرنز، ولبث هذا حتى إذا جاء عام ٢٥٥ قبل الميلاد كان الحديد قد أصبح بالكثرة التي سمحت باستعماله في أعمال المحاجر.
وإذ نعلم أن ملوك الأسرة الثامنة عشرة والتاسعة عشرة كانوا قد قاموا بغزوات موفقة إلى الشام وغرب آسيا، فلا عجب أن يكونوا قد مهدوا الطريق لتسرب الحديد إلى مصر من مواطنه في تلك البلاد. وفي ذلك ما يشير إلى أن استعمال الحديد قد بدأ في تلك البلاد قبل أن يستعمله المصريون.
أما عملية استخلاص الحديد من خاماته فقد أثبت العالِم الأثري الأستاذ فلندرز بيتري أن في نوقراتس بشمال الدلتا الغربي، كانت هذه الصناعة قائمة حوالي القرن السادس قبل الميلاد، ويغلب على الظن أن الخام الذي كان يستعمل لذلك مما استورد من وراء البحار. على أنه بعد أن دخلت مصر في حكم الرومان، وكانوا يميزون خامات الحديد ويعلمون سر استنباط الحديد منها، فالدلائل متوافرة على أنهم كانوا قد استغلوا بعض خامات الحديد بالصحراء الشرقية لصناعة ذلك المعدن. على أنها صناعة أُهملت بعد ذلك إلى وقتنا هذا.
خامات الحديد في مصر
- (١)
«في شبه جزيرة سينا» يوجد أوكسيد الحديد مختلطًا بأكاسيد المنجنيز في مساحة واسعة، تبلغ نحو ٢٠٠ كيلومتر مربع على مسافة ٢٠ كيلومترًا من شاطئ خليج السويس، وعلى مسافة ١٢٠ كيلومترًا جنوبي مدينة السويس. والمنطقة التي يوجد بها هذا الخام هي هضبة تعلو عن سطح البحر بنحو ٦٠٠ متر، تقطعها أودية عميقة وعرة المرتقى، وصخورها من الحجر الرملي تتخللها طبقة من الحجر الجيري، وفي أسفل هذه الطبقة الجيرية الخام الحديدي المنجنيزي. والخام في بعض أجزائه مجموعة من أكاسيد المنجنيز الخالصة، وفي البعض الآخر أكاسيد الحديد، وفي غالبية المنطقة هو خليط من الاثنين معًا.
هذه الخامات تُستغل الآن على نطاق واسع في هذه المنطقة حول نقطة أم بجعة؛ إذ إن فيها خام المنجنيز. وفي الواقع فإن الشركة القائمة بهذا الاستغلال تقصر استغلالها على الأنواع التي تحتوي نسبة مرتفعة من المنجنيز، تاركة وراءها في الوقت الحاضر خامات الحديد. وقد وصلت الشركة مناجمها بخط من السلك المعلق على أبراج من الحديد عبر هذه المنطقة الوعرة إلى سفح الجبال، ومنها بخط سكة حديدية إلى ميناء أبي زنيمة، حيث المرفأ الذي تصدر منه إلى الخارج. وإذا اقتصر النظر حتى الآن على إعداد هذه الخامات لمعدن المجنيز، فإنها، كما قدمنا، مصدر محتمل لخام الحديد في المستقبل.
ثم إن الدكتور هيوم المستشار الچيولوچي للحكومة المصرية، قد أشار إلى وجود عروق من المرو في بعض الجبال القائمة في جنوب شبه جزيرة سينا محتوية خام الحديد. وقد حللت بعض نماذج منه فظهر أن بها نسبة تختلف من ٩٦ في المائة إلى ٥٩ في المائة من أوكسيد الحديد، على أنه لا يمكن إعداد تلك المنطقة مصدرًا لخام الحديد إلا بعد أن تبحث بحثًا مستفيضًا؛ للتعرف على مقدار ما تحتويه منه ومتوسط ما بها من معدن الحديد نفسه.
- (٢)
«الصحراء الغربية» توجد أكاسيد الحديد والمغرة الحمراء والصفراء في أغلب الواحات الواقعة بصحراء لوبيا، وقد تكون أغناها جميعًا الواحة البحرية. فهناك رواسب من خام أوكسيد الحديد الأصفر (الليمونيت) والأحمر مختلطة بأحجار رملية تدل أوصافها وأوضاعها الچيولوچية على أنها رسبت في قاع بحيرة، كانت تمتد فوق تلك المنطقة في أحد العصور الچيولوچية الحديثة، وقد حُللت منها بعض النماذج، فظهر أن الخام الأصفر يحتوي ٨٤ في المائة من أوكسيد الحديد؛ أي نحو ٥٨٫٨٪ من معدن الحديد، بينما الأحمر يحتوي ٥٨٫٧ في المائة من أوكسيد الحديد؛ أي ٤١٫٠٧ في المائة من المعدن نفسه.
وقد قدر الدكتور هيوم مجموع ما بالواحة البحرية من الرواسب الحديدية بنحو ٩ ملايين متر مكعب. على أن المسألة في حاجة إلى بحث أدق للوقوف على حقيقة امتداد هذه الرواسب ومتوسط ما بها من حديد. وعلى الجملة فإن مثل هذه المنطقة لا يمكن عدها — في الوقت الحاضر — من المناطق التي لها قيمة اقتصادية كبيرة؛ إذ تعوزها طرق المواصلات إلى البلاد المعمورة، وإنشاء مثل هذه الطرق؛ مما يكلف نفقات كبيرة قد لا تتناسب مع قيمة هذه الخامات، وإذا لم تكن صالحة للاستغلال على أساس صناعة الحديد نفسها، فقد يجد القائمون بصناعة الألوان والأصباغ في بعض الأكاسيد الحمراء والصفراء في تلك الواحة موردًا لبعض حاجتهم. وقد يكون في مستطاعهم في هذه الحالة تحمل تكاليف النقل بالسيارات؛ إذ المقادير قليلة وسعر الأصباغ أعلى كثيرًا من سعر الحديد، كذلك توجد في الواحتين الخارجة والداخلة رواسب من أكاسيد الحديد والمغرة ذات ألوان ساطعة يقدرها صانعو الأصباغ، وقد أقبلوا للحصول عليها إقبالًا كبيرًا في السنين الأخيرة.
ويفسر وجودها في تلك الواحات على أساس أنها رسبت في المياه الأرتوازية التي تنفجر من عيون في مختلف نواحيها. ولما كانت هذه المياه الأرتوازية تخترق في صعودها من باطن الأرض إلى سطحها طبقات من الحجر الرملي الذي يحتوي أكاسيد الحديد، فإنها تحملها معها وترسيها على السطح نقية نظيفة دقيقة الحبيبات جدًّا. وقد علمت من بعض المشتغلين بهذه الصناعة أن هذه الأكاسيد هي من الجودة بحيث لا يستعملونها وحدها إلا نادرًا، والأغلب أن تضاف إلى أصناف أقل جودة منها لتحسين نوعها.
- (٣) في «الصحراء الشرقية» بين شواطئ البحر الأحمر ووادي النيل، هنا توجد خامات الحديد في نقط عديدة وعلى صور مختلفة بقدر اختلاف الأشكال الچيولوچية في تلك الصحراء الواسعة. وسنقتصر على الإشارة إلى بعض الجهات التي يوجد بها الحديد بشيء من الإيجاز:
- (١)
عند السفح الشرقي لجبل الجلالة البحرية، حيث يوجد خام الحديد متخللًا الطبقات الحجرية الرملية في الوضع الچيولوچي ذاته، الذي توجد فيه خامات الحديد والمنجنيز في المنطقة المقابلة لها من شبه جزيرة سينا.
على أن هذه الخامات لم تحظَ حتى الآن بأي عناية من البحث؛ إذ إن ما قد ظهر منها لا يغري بهذا البحث. هذا إلى أن التحليل الكيمائي الجديد أظهر أنها تحتوي ٣٣ في المائة من أوكسيد الحديد؛ أي نحو ٢٣ في المائة من معدن.
- (٢)
«وادي العرب» على مسافة ٦٠ كيلومترًا من شاطئ خليج السويس، توجد عروق من المرو تحتوي معدن أوكسيد الحديد على صورة قشور رقيقة لامعة غنية بمعدن الحديد. وقد أظهر التحليل الكيمائي أنها تحتوي نحو ٧٨ في المائة من الأوكسيد؛ وهي لذلك منطقة خليقة بالبحث للوقوف على مقدار صلاحيتها للاستغلال.
- (٣)
«وادي أبو غصون» على مقربة من بئر رنجة القريبة من شاطئ البحر الأحمر على مسافة ٢٠٠ كيلومتر جنوب ميناء القصير. على جانب هذا الوادي توجد بعض الجبال التي تحتوي مقدارًا كبيرًا من الخام المعدني، أظهر تحليل نموذج منه أن به ٥٥٫٨ في المائة من أوكسيد الحديد، ونظرًا إلى قرب هذه المنطقة من شاطئ البحر، والارتفاع الكبير في أسعار خام الحديد في الوقت الحاضر؛ فقد تنال هذه المنطقة بعض العناية من البحث في وقت قريب.
- (١)
الحديد في أسوان
وقد تكون هذه المنطقة أهمها جميعًا لأسباب ثلاثة: (١) لاتساع مساحتها. و(٢) لأنها تُستغل الآن بعض الاستغلال لصناعة الأصباغ. و(٣) لاشتداد الاهتمام بتوليد القوى الكهربائية من مساقط الماء بخزان أسوان.
ومع أن الدكتور هيوم كان قد أشار عام ١٩٠٩ إلى وجود أكاسيد الحديد في الأحجار الرملية قرب أسوان، إلا أن فضل اكتشاف هذه المنطقة الكبرى وإقامة البرهان العملي على إمكان الاستفادة من خام الحديد بها من صناعة الأصباغ يرجع إلى جهود المهندس المصري «لبيب نسيم». وقد حفظت له الحكومة حق البحث في المنطقة منذ عام ١٩٢١ حماية لصناعة الأصباغ، التي كان قد بدأها، والتي بلغت شأنًا لا يستهان به، وإن كانت في حاجة كبيرة إلى التشجيع.
- (١)
تقدر المساحة التي بها الخامات بما يقرب من ٥٠٠ كيلومتر مربع.
- (٢)
المنطقة تتألف من هضبة يترواح منسوبها ما بين ١٥٠ مترًا و٣٥٠ مترًا فوق منسوب البحر، مع ملاحظة أن منسوب وادي النيل عند أسوان حوالي ٢٠٠ متر، وهي على الجملة منبسطة السطوح عدا الوديان التي يبلغ متوسط عمقها حوالي ٢٠ مترًا من سطح الهضبة.
- (٣)
يقطع المنطقة من الشرق إلى الغرب واديان كبيران هما: وادي أبي صبيرة في الشمال، ووادي أبو عجاج في الجنوب، ولهما روافد عديدة تمتد شمالًا وجنوبًا، مما يجعل من الميسور إيجاد طرق للمواصلات بين مختلف أجزائها.
- (٤)
يوجد خام الحديد في عدة طبقات رقيقة يختلف سمكها في مختلف النواحي من بضعة سنتيمترات إلى متر ومترين تقريبًا في بعض الأحيان، وهي طبقات تتخلل طبقات الحجر الرملي الأفقية الوضع تقريبًا.
- (٥)
وتختلف طبقات الخام من حيث نوعها؛ فبينما بعضها مؤلف من حجر رملي مشبع بأوكسيد الحديد، فالبعض الآخر وهو الأهم مكون من حبيبات كروية من أوكسيد الحديد الأحمر متماسكة بعضها مع بعض بمسحوق من المعدن نفسه، هذه الطبقات المكونة من حبيبات أوكسيد الحديد هي التي تهمنا في هذا البحث لكبر نسبة أوكسيد الحديد بها. أما الطبقات الرملية فإن نسبة ما بها من الأوكسيد ضعيفة إلى الحد الذي يخرجها من حسابنا في الوقت الحاضر.
- (٦)
أما التحليل الكيمائي لهذه الطبقات المحببة فيختلف اختلافًا كبيرًا من مكان لآخر بين ٥٤ في المائة من الأوكسيد؛ أي ٤٠ في المائة من معدن الحديد نفسه، إلى ٨٨ في المائة من الأوكسيد؛ أي ٦٠ في المائة تقريبًا من معدن الحديد نفسه. ويمكننا أن نعد الخام في المتوسط على أساس أنه يحتوي ٧٥ في المائة من الأوكسيد، وهي نسبة تجعله في مستوى الكثير من الخامات الحديدية المستعملة في صناعة الحديد في شمال فرنسا وفي بعض أجزاء الولايات المتحدة. وقد أجريت تحليلات كيمائية كاملة شملت عددًا كبيرًا من النماذج.
والذي يهمنا من هذه التحليلات: (١) ارتفاع نسبة الحديد المعدن نفسه، و(٢) انخفاض نسبة السليكون، و(٣) ارتفاع نسبة الفسفور قليلًا، و(٤) انعدام الكبريت.
وجميعها صفات ملائمة إلى حد ما عدا نسبة الفسفور التي تتعارض مع استعمال الوسائل لاستنباط الحديد نفسه، ولو أن هناك وسائل أخرى لا يضيرها وجود الفسفور.
- (٧) أما مقدار الخام فهو من المسائل التي لا يمكن تقريرها نهائيًّا؛ إذ إن البحوث العملية التي أجريت لا يمكن الاعتماد عليها في إعطاء رقم دقيق. وقد قدرها بعضهم تقديرًا تقريبيًّا كما يأتي:
٣٤٤ مليون طن ٨٤ مليون طن من الخام الظاهر المؤكد الوجود ٢٦٠ مليون طن من الخام المحتمل الوجود تبعًا لتقديرات علمية صحيحة وهذا عدا ما يرجى وجوده بعد تقدم البحث العملي والاستغلال. ولا أريد أن أقرر قبول هذه الأرقام أو رفضها، ولكني على كل حال أوافق على أن المقدار كبير جدًّا، وهو بالقدر الذي يحتمل قيام أي عملية استغلالية لمدة طويلة جدًّا. وأن نجاح مثل هذه العملية أو الفشل فيها لا يكون سببها جهل مقدار الخام.
- (٨)
إن وجود مقدار كبير من الخام على السطح أو قريبًا من السطح، يجعل الاستغلال في أول الأمر ميسورًا وعند الاضطرار إلى الحفر في باطن الأرض، فإن انتظام الطبقات ووضعها الأفقي، ووجود طبقات من الصخور المتماسكة فوق طبقة المعدن، كل ذلك مما يجعل عملية التعدين نفسها عملية يسيرة إذا قيست بما يقابله مهندسو المناجم عادة من الصعوبات من جراء ميول الطبقات أو العروق المعدنية. كذلك يساعد جفاف المنطقة وعدم الخشية من وجود ماء داخل المناجم على تيسير عملية الاستغلال.
- (٩)
أما النقل من المنطقة إلى وادي النيل، فيقتضي مد خط سكة حديدية أو سلك معلق وهي على كل من العمليات العادية في مثل هذه الحالات، ومتوسط المسافة من وسط المنطقة إلى النيل هو ٢٠ كيلومترًا تقريبًا. والآن وقد قدرنا مساحة المنطقة ومقدار ما بها من خام الحديد، وأوضحنا نوع هذا الخام وقررنا سهولة استغلاله ونقله، فما الذي يمكن أن نستفيده من هذا الخام؟ إن من الميسور: (استغلال الخام في صناعة الحديد والصلب) وهذه هي الوسيلة التي إذا تحققت وكان تحقيقها متفقًا مع القواعد الاقتصادية السليمة، كان لنا في هذه الخامات مصدرًا جديدًا من مصادر الثروة الأهلية، وكفانا مئونة استيراد الحديد والفولاذ لصناعاتنا الحالية، وأفضى إلى قيام صناعات جديدة، ودفع عنا غائلة المجاعة في هذه المواد في أوقات الحرب.
وربما كان من واجبي أن آني على موجز عن كيفية تحضير الحديد والفولاذ، قبل أن نخوض في مسألة احتمال قيام هذه الصناعة في مصر، وتقرير الأسس التي يجب أن تقوم عليها.
فاستنباط الحديد من خاماته يقتضي تسخين هذه الخامات إلى درجة مرتفعة من الحرارة لاختزان الأوكسيد، وترك المعدن المنصهر فيصب في قوالب تعرف بماسيح الحديد الظهر، وهو في هذه الحالة يكون مختلطًا بعناصر غريبة كالكربون والسيليس والمنجنيز والفسفور وغيرها، مما تجعله قليل المقاومة سهل القصم غير قابل للطرق، وهو ما يستعمل للحديد الظهر المعروف في السباكة. أما تحويل هذه المادة إلى الصلب أو الفولاذ، فيقتضي إعادة وضعه في أفران خاصة للتخلص من الكربون وتكوين الصلب.
ولهذه العمليات وسائل تختلف تبعًا لاختلاف أنواع الخامات ولا محل لذكرها الآن.
هذه العمليات تحتاج إلى وقود إما الفحم الحجري وإما الفحم الكوك، وإما الفحم البلدي (فحم الحطب)، وإما إلى الغازات البترولية أو الطبيعية.
ولما كانت بلادنا تعوزها هذه المواد جميعًا فلا الفحم الحجري معروف، كما أنه ليست لنا مصانع تنتج الفحم الكربون، وليست لدينا غابات تمكننا من صناعة فحم الحطب. كما أن مناطق البترول حيث الغازات قد تكون متوافرة، بعيدة جدًّا عن مواطن خام الحديد. فقيامنا على صنع الحديد والفولاذ محليًّا على أساس استعمال أي نوع من أنواع الوقود معناه استيراد هذا الوقود من الخارج، ونقل الخام من أسوان إلى نقطة متوسطة كالقاهرة مثلًا؛ مما يجعل نفقات الصناعة تزيد على ما يمكننا أن نستورد به الحديد والفولاذ في الأوقات العادية.
وقد قام بدرس هذه المسألة الخبير الكيمائي لوزارة التجارة والصناعة، ولم يتردد في أن يقرر أن الإقدام على مثل هذه الصناعة على هذا الأساس مصيره الحبوط المحقق. كما أن الدكتور عباس محبوب — الكيمائي بمصلحة السكة الحديد — قدر تكاليف إنتاج الطن من الحديد الزهر الذي يصنع في وقت السلم بالقاهرة بنحو ٣٨٣ قرشًا، بينما يستورد عادة بأقل من ذلك. على أنني أخشى أن يُظهر التمحيص الدقيق أن الفرق على كل حال لا يشجع على الإقدام على صناعة الحديد في مصر على أساس استيراد الفحم من الخارج، ولا سيما أنه ليس في مصر نفسها من الفنيين أو العمال من يفهم صناعة الحديد، مما يتحتم معه استقدام المهندسين والفنيين بل بعض رؤساء العمال وبعض العمال أنفسهم. وكل ذلك مما يزيد في نفقات الإنتاج.
(صناعة الحديد والصلب بالكهرباء) على أن هناك بارقة أمل في الأفق، ذلك ما نراه في زيادة الاهتمام بمشروع هو في نظرنا من أكبر المشروعات الحيوية الصناعية في هذه البلاد؛ ألا وهو توليد الكهرباء من مساقط الماء في خزان أسوان. والكهرباء قد أصبحت من الوسائل التي تستعمل في صناعة الحديد والفولاذ.
ولئن كان استعمال الكهرباء في استنباط الحديد من خاماته، وصناعة الصلب من تماسيح الحديد لم تبدأ إلا في السنين الأخيرة، إلا أنه خطا خطوات واسعة. فأعدت لذلك أفران كهربائية مختلفة تعالج مختلف أصناف الخامات. وقد أصبح الفولاذ الناتج بالطرق الكهربائية يعادل أجود أنواع الصلب التي تصنع بالوسائل الأخرى. وقد قام البرهان على أنه حيث يكون توليد الكهرباء رخيصًا، فإن تكاليف إنتاج الفولاذ بالكهرباء تكون أقل كثيرًا من تكاليف إنتاجه على أساس استعمال الوقود، وهذا مع الاحتفاظ بجودة الصنف.
فالمنجنيز والكروم والتنجستن والمولبيدينوم والنيكل، وجميعها من المعادن التي تخلط بالحديد في صناعة أنواع من الصلب، بعضها يمتاز بصلابته والبعض يمتاز بعدم قابليته للصدأ وهلم جرًّا. هذه المعادن جميعًا في مصر وبعضها في حالة الاستغلال، فإذا وجد أن صناعة الصلب نفسها ممكنة في أسوان فإن الاستعانة بهذه المعادن قد تكفينا مئونة استيراد الأنواع الخاصة من الصلب.