كلمة غير مفهومة
تثاءب المعلم حندس طويلًا، وهو يزيح الغطاء عن جسده، وجلس في الفراش مُعتمِدًا بذراعَيه على ساقَيه، متقوسًا تحت وطأةِ غمٍّ لاحت آياتُه في وجهه الممتلئ العريض، ورأى زوجته واقفةً وسط الحجرة، وهي تجمع شَعرَها المشعَّث تحت منديلها البُني، فقال بنبرة ناعسة: حلم غريب!
التفتَت نحوه باهتمام قائلة: خيرًا إن شاء الله.
– طول الليل مع حسُّونة الطرابيشي.
تجلَّت في عينَي المرأة نظرةٌ فارغة من كل معنى، فراقَبها بعينَي صقرٍ تطلان من سحنة أطبقَت على أديمها آثارُ طعناتٍ وجراحٍ قديمة، ثم قال: حسُّونة الطرابيشي! .. أنسيتِ الرجلَ الذي طَمِع يومًا في الفَتْونة؟
ندَّت عنها آهةٌ وتمتمَت: نعم .. يا له من عُمْر!
– حوالي خمسة عشر عامًا.
– وماذا رأيتَ؟
– رأيتُه كما رأيتُه آخِرَ ليلةٍ في الخيامية، صريعًا تحت قدمَي، والدمُ يغطِّي فاه وذقنه وأعلى جلبابه!
– أعوذ بالله.
– وردَّد آخِرَ كلماته: «سأقتلك يا حندس وأنا في القبر.»
– أعوذ بالله.
– رأيتُني بعد ذلك أُجالِسه في مكانٍ غيرِ محدَّد المعالم، وكنا نضحك عاليًا كما كنَّا نفعل قبل أن تفرِّق بيننا البغضاء، وقال لي مُعاتبًا: أنت قتلتَني. فقلت له: وأنت تَوعَّدتَني بالانتقام. فضحك طويلًا ثم قال: انسَ كلَّ شيء، أنا نسيت، وأمسِ زرتُ ابني وقلت له: لا تفكِّر إلا في الحياة ودَعِ الموتَ والأموات للخالق. وجعلنا نضحك حتى استيقظتُ.
تجمَّدت ملامح المرأة، وغشيَتها سحابةٌ مُظلِمة من الذكريات، فقال حندس بصدرٍ مُنقبِض: أنت خائفة؟!
– أبدًا، ولكني أتساءل عن تفسيرٍ للحُلم.
– المهم أنه ذكَّرني بأشياءَ نسيتُها.
سألَتْه عن «الأشياء» بهزةٍ من رأسها، وهي غارقة في التفسير، فقال: ذكَّرني بما قيل يومَ دُفِن حسُّونة من أن زوجتَه رفعَت طفله فوق القبر، ونذرَت إن عاش الطفل أن يكون مَقْتلي على يَدَيه.
– ولكنَّ زوجةَ حسُّونة اختفَت منذ دَفْنه.
– نعم، ولعلَّ طفلَها اليومَ في عز الشباب!
قالت مُلتمِسةً الطمأنينةَ له ولنفسها: أنت سيِّدُ الحي، رجالُه رجالُك، وربنا الحافظ.
فقال مُقطِّبًا: أنا لا أبالي بعدوٍّ ما دمت أعرفه، أما الذي لم أعرفه ولم أره …!
جلست المرأة على كنبة واجمة، فقال: الحُلم يُفسَّر بعكسِ ظاهرِه، وهذا يعني أنه يُحرِّض ابنَه على الانتقام.
– كيف وهو ميِّت من خمسة عشر عامًا؟
– كما خاطَبني الليلةَ الماضية!
غالَبَت المرأةُ نكدَها بابتسامة، وقالت: حيُّنا معروف لا يختفي فيه غريب، وأنت سيِّده، واللهُ هو الحافظ.
وغادَر المعلم حندس منزلَه، يسير وسطَ هالةٍ من الأتباع، ويتقدَّمه سائق الكرتة، ومال من درب الأعور إلى قهوة حلمبوحة، فجلس على الأريكة التي لا يمسُّها أحدٌ غيره، وراح المعلم يروي حُلمَه لأتباعه، فضحك طمبورة باستهانة وقال: أي أمٍّ تحرِّض ابنَها عليك يا معلم؟
ولكن سمكة كان أميلَ إلى الحذَر، وهو يقول: حارتُنا يقتل بعضُها البعضَ مُذ خلق الله الأرض وما عليها.
– لكن أحدًا لم يسمع عن ابن حسُّونة ولا أمه.
فقال القهوجي عنارة، وكان لحندس بمنزلةِ الأب: هذا يعني أنه يستطيع أن يوجد في أيِّ وقت، وفي أيِّ مكان!
وضحك المعلم حندس مُعلنًا عن استهتاره، فقال طمبورة: نحن حولَك كالجدار.
ولكن عنارة قال وهو يرمش بعينَيه الدامعتَين المرمودتَين: الحُلم له معنى، إنه يُذكِّرك بما نسيتَ!
وذاع الحُلم في الحي كله، وكثرت التأويلات، وتَوثَّب الرجالُ للبطش، وجعل حندس يذهب ويجيء وكأنه لا يبالي شيئًا. وذاتَ مساءٍ جاء القهوةَ الشيخُ درديري، وهو مُقرِئٌ ضرير، يَتعيَّش من التلاوة في المقاهي والغرز، وتَرُوج سوقُه في المواسم. صافَحَ المعلم ثم تلا الصمدية، وقال وهو يتَّخذ مجلسَه بين يَدَيه: يا معلم، إن كنتَ تريد ابنَ حسُّونة، فأنا أعرفه!
سرعان ما تركَّزت فيه الأعين، وأحدَقَ به الرجال، حاز في ثوانٍ أهميةً لم يَحظَ بعُشر عُشرها طيلةَ عمره البالغ الستين. وانتبه إليه حندس لأول مرة في حياته، وكأنما يَكتشف عينَيه الممطورتَين وجبينَه البارز كمشربية، وسأله: متى عرفتَه؟
– منذ عام أو أكثر.
– كيف؟
– صدفة وأنا أتجوَّل بين المقابر.
– أين يُقِيم؟
– لا أدري، ولكني دُعِيت للقراءة في المدفن بالمجاورين في موسم، وهناك عرفتُه كما عرفتُ أمَّه.
– ما اسمه؟
– لم يُنادَ به على مَسْمعٍ مني.
– ولم تَرَ وجهه طبعًا!
– ولكني أعرف صوتَه!
سأله بازدراءٍ: متى زرتَ المدفن آخِرَ مرة؟
– في عيد الفطر الماضي.
– ماذا يقولان وهما في المدفن؟
– يستمعان للتلاوة أو يَتبادلان حديثًا لا يَستحقُّ الذِّكر.
– ألم يَجرِ الحديثُ مرةً عن الميت؟
– لم أسمع.
نفخ قائلًا: لم تَقُل شيئًا يا أعمى!
ولكن عنارة قال بنبرةٍ ذاتِ مَغزى: قال إنه يعرف المدفن.
ولما ذهب الشيخ درديري، قال طمبورة: نذهب في العيد الكبير، لنرى بأَعيُننا.
– وبعد ذلك؟
– دعوا الباقي لي!
– أنقتله من غير أن يُثبِتَ لنا سُوءَ نِيته؟
– إنه لن يَزيد الميِّتين عدًّا، ولن يُنقِص الأحياء!
وفي موسم العيد، تَفرَّق حندس وأعوانُه في البقعة حول المدفن الذي دلَّهم عليه الشيخ درديري. وقد ذابوا في الزحام الذي ناءت به الأرض بمنجى من الريب، وظلت أعيُنُهم تدور حول المدفن الذي تراءى وراء سوره المتهرِّئ قبرٌ مكشوف ونخلةٌ وحيدة، على حين قام بابُه الخشبي في هُزال منحوت القشرة، مُزعزَع المفاصِل، خليقًا بأن يُقتلَع لدى أولِ لطمةٍ قوية من الهواء. ومرَّ النهارُ كلُّه دون أن يَطرق البابَ طارق، وكان الشيخ درديري يسترزق هنا وهناك، وكلما جاء المدفن وجَدَه مُغلقًا فيمضي في تَجْواله، واقترب سمكة من الشيخ درديري، وهمس في أُذنه: كذبتَ علينا يا أعمى.
فهتف الشيخ: واللهِ ما كذبتُ على أحد.
فلكزه بكوعه قائلًا: اسأل الترابيَّ ثم عُدْ إلينا.
غاب الشيخ قليلًا، ثم عاد إليهم ليخبرهم بأن الترابيَّ لا يعرف شيئًا عما عاق الأسرةَ عن المجيء.
– ألم تسأله عن مَسْكنه؟
– في باب الربع، ولكنه لا يعرف أكثرَ من ذلك.
وبعد وقفةٍ قصيرة استطرد الشيخ قائلًا: ومن عجبٍ أن الرجل لا يعرف اسمَه ولا عملَه، وختم حديثه عنه بقوله: «حد الله بيني وبينه.» فلما سألته عمَّا جعله يقول ذلك، دفعني قائلًا: «تَوكَّل على الله!»
رجع الرجال إلى درب الأعور بوجوهٍ مُتجهِّمة. وضح لهم أن الشابَّ غامضٌ حقًّا، أو أنه يحيط نفسَه بالأسرار، وأنه خطير يجب أن يُحسَب له حساب.
وتساءل طمبورة: إن يكن حقًّا كما يُقال عنه، فما الذي أقعَدَه حتى الآن عن الانتقام؟
فقال عنارة بكآبة: لا يهمُّنا ذلك بقَدْر ما يهمُّنا المستقبل.
ثم وهو يعصر عينَيه الملتهبتَين: والأحلامُ لا تُرى عبثًا!
عند ذاك قال الشيخ درديري: سأسأل عن مسكنه بحجةِ الاطمئنان عليه.
وغاب الشيخ يومًا كاملًا، ثم رجع ليُعلِن في ظفرِ اهتدائه إلى بيت الشاب، قال إنه جالَسَه وعلم بسبب تخلُّفه عن زيارة قبر أبيه، وهو مرضُ أمِّه، وأخبَرهم بأقصر طريق إلى المسكن من ناحية الخلاء؛ إذ لا يدري بهم أحد، ولكن هل يقتلونه أو يَكْتفون برؤيته وإرهابه؟
وأدرك الأعوان من صمتِ المعلم أنه يترك لهم الكلمةَ لغرضٍ لم يَعُد يخفى عليهم بحكم مُعاشَرته الطويلة، فقال طمبورة ساخرًا: وُجِد المسكينُ مقتولًا بيدِ مجهول!
فاعترض عنارة متسائلًا: ماذا تَدْرون عن قُوته وأعوانه؟
وتبادَلوا نظراتٍ قاسية، ثم استقرَّ رأيهم على خطةٍ عركوها منذ القِدَم.
وفي ليلة شديدة الظلام، خرج حندس وأعوانه، وقد استقلَّ هو وخلصاؤه الكرتَّة، مُوسِّعين للشيخ درديري مكانًا عند الأقدام، وأوغلوا في الصحراء حتى صعدوا ما يشبه التلَّ عند مفترقٍ تتَّجه طريقُه الرئيسية نحو باب الربع، وعند ذاك قال السائق: لا يمكن أن تتقدَّم العربةُ قيراطًا واحدًا في هذا الخراب.
غادروا الكرتَّة، وحثَّهم الشيخ درديري على البحث عن سبيلِ ماءٍ قائم على رأسِ منحدرٍ طويل، وكان قائمًا على مبعدةِ أمتارٍ منهم، كما لاح شبحه تحت ضوء النجوم، وقال الشيخ: في نهاية المنحدر يقع البيت، وهو في عُزلة؛ إذ تحيط به الخرائب من جهتَين، ويُحدق بالثالثة فناءٌ واسع لوكالة، تَوكَّلوا على الله، أمَّا أنا فإني ذاهب.
قال له حندس: انتظر حتى لا تضلَّ الطريقَ في الظلام.
فقال وهو يهمُّ بالذهاب: الأعمى لا يضلُّ طريقَه في الظلام.
مضوا في الطريق مُتمهِّلين حَذِرين؛ لوُعورته ولكثرة ما يَعترضه من أحجارٍ ونُفايات، وأحدقَت بهم خرائبُ تَفُوح منها روائحُ عَطِنة، وأحيانًا نَتِنة كريهة، كأنما تَصدر عن جُثثٍ في جوف الليل، وغلظت الظلمة حين بلغوا ممرًّا مسقوفًا بغطاء لم يَتبيَّنوه، تقوم على جانبَيه المتقارِبَين جدرانُ مبانٍ غير مرئية، فكأنما فقدوا الأبصار. مات كل شيء في ظُلمة الممر حتى أشباحهم، وندَّ عن أقدامهم ارتطاماتٌ كخشخشة زواحف، وعن أفواههم زفراتٌ كالفحيح، وعلى بُعدٍ سحيق تراءى نورٌ خافت، فقال عنارة: سنَطرُق البابَ ثم نندفع كالمصيبة، ولا مَن سمع، ولا مَن رأى.
فردَّدت أصواتٌ بهيمية: ولا مَن سمع ولا رأى.
ثم ارتفع صوت حندس قائلًا بوحشية: وينتهي الحُلم!
وإذا بصرخةٍ تنطلق من حلقه كالعواء، وإذا بجسمه الضخم يتهاوى على الأرض. صرخوا في صوت واحد «معلم حندس»، وتَطايَرت زعقات الغضب والويل، وحملقوا في الظُّلمة المستحيلة، ولكنهم لم يَرَوا إلا العمى، ونادى سمكة بأعلى صوته السائقَ أن يحمل إليهم فانوسَ العربة، وتأوَّه حندس فساد الصمت، ثم قال بصوتٍ متقطِّع محشرج: عنارة، قُتِلت .. بينكم.
وعلى ضوء الفانوس تَبدَّى المعلم حندس مُنكفئًا على وجهه، عاريَ الرأس، مكشوفَ الساقين، ودمُه ينساب بطيئًا بين الحصى. قتلهم الغيظ وأذلَّهم الحنق. لم يشعروا من قبلُ بعجزٍ مهين كهذا العجز، فهم لم يرفعوا نبُّوتًا ولا سلُّوا خنجرًا ولا قذفوا طوبة، وخُطِف الرجل وهم يُبادِلونه الحديث. وأين القاتل، بل أين منزله؟ وجدوا مكانَ المنزل ضريحَ وليٍّ في خلاء تشتعل في كوةٍ بجداره شمعتان، ولم يشعر أحد منهم بالقاتل عند تسلُّله، ولا عند انفلاته، لم يُسمَع له حس، ولا عُثِر له على أثَر.