زيارة
مُلقاة على الفراش بلا حول، عاجزة تمامًا عن أي حركةٍ جِدِّية عدا حركة الجفنَين والعينَين، أو رفع اليد إلى مستوى الصدر من حينٍ لآخَر، وقد امتصَّ المرضُ حيويتَها ولحمَها، فلم يَبقَ إلا جلدٌ أصفرُ مَشُوب بزُرقة وعِظام بارزة تكاد تمزِّق الجلد عند المفاصل، وهي تنظر إلى لا شيء أو تغمض عينَيها، وفي أحسن الأحوال لا ترى أبعدَ من جدران حجرتها.
نادت بصوت ضعيف رفيع كصوت طفل: عدلية.
ولكن عدلية لم تسمع، ستدَّعي أنها لم تسمع، وستجد عذرًا في ضَعْف الصوت أو بُعْد المطبخ أو وَشِّ مَوقِد الغاز، وهي لا تستطيع أن ترفع صوتها، ولا تستطيع أن تهدر مَطالبها الصغيرة، ونادت مرة ثانية: عدلية.
ستَجبن كالعادة عن لومها، إنها واقعة تحت رحمتها، تحت رحمتها تمامًا، هي لا تَأْلو أن تسترضيها بالأجرة المحترمة والكساء والغذاء، إلا أنها تستأثر بتدبير شئون البيت، فهي سيدته الحقيقية، وما الحيلةُ في ذلك؟ إذا قرَّرت عدلية يومًا التخليَ عن خدمتها، تركتها للضياع والموت، وهي تتجنَّب أن تُثقِل عليها أكثرَ مما تقتضيه الضرورة المُلِحة، ولكن ما العمل ونداء الحياة لا يكفُّ عن التردُّد حتى النفَس الأخير.
واستجمعت قواها الخائرة ونادت للمرة الثالثة: عدلية!
وتجمَّع الغضب بين عظام صدرها، ولكنها لم تستسلم لطغيانه. عدلية على أي حال مُرهَقة بالعمل، إنها تكنس وتغسل وتطبخ، تتسوَّق وتَستبضِع، وتقوم من شخصها مقامَ اليدَين والقدمَين والحواسِّ جميعًا، هي كل شيء لها، فهي تُطعِمها وتَسْقيها وتُنظِّفها، تُجلِسها وتُنِيمها وتُريحها من جنبٍ لجنب.
وارتفع صوتها قليلًا مُتشكيًا مُتباكِيًا وهي تنادي: عدلية!
ترامى وقْعُ أقدامٍ ثقيلة، ثم ظهرت عدلية عند باب الحجرة، بوجهٍ جامد يحمل طابعَ تذمُّرٍ ثابت، وتساءلت بنبرة لا تخلو من جفاء: تنادينني يا ستي؟
– بُحَّ صوتي وأنا أناديك يا عدلية.
اقتربَت من الفراش، فقالت المرأة: سيجارة يا عدلية.
تَناوَلت عدلية علبة السجائر من فوق الترابيزة، أشعلت سيجارة، ثم وضعتها بين شفتَي سيدتها، وهي تقول: أنت تعلمين أن التدخين مُضِر بصحتك.
وغادرَت الحجرة.
إذا ضاقت بها يومًا قُضي عليها بالهلاك، لا أحدَ لها في الواقع سِواها، أما عن أبناءِ وبناتِ إخوتِها، فمَن ذا الذي يهتم بالخالة عيون؟! إنها مُلقاة مَنْسية، تتعلَّق بأذيال الحياة بخوفٍ ويأس، وتتمنى الموتَ بلسانها. والقلب قبل أن يهتصره الداء، قتَله الحزنُ لفقْدِ الابن الوحيد في مُظاهَرة دامية. من عجبٍ أنها لا تفقه للسياسة معنًى، ولا يتحرَّك في نفسها لها ساكن، ورغم ذلك فقد الْتَهمَت وحيدَها، وتُوفِّي الأب بعد استشهادِ ابنه بعام واحد، وها هي ذكريات الأحزان تختلط بأنَّات المرض ومخاوف الضياع.
في العيد زارتها بثينة ابنةُ المرحومةِ أختها، ناظرةُ مدرسة ابتدائية، والوحيدة التي تَتذكَّرها في المواسم، وقد أهدَتها باقةَ وردٍ وعلبةَ حلوى، وجلست على كرسي على كثب من الفراش. دمعت عينا عيون، وهي تقول: أشكرك يا بثينة، كيف حالكم؟ كيف حالُ الجميع؟ كم أني مُتشوِّقة لرؤيتكم، ولكن لا يسأل عني أحد.
اعتذرَت بثينة بابتسامة، وقالت: الدنيا شواغلُ يا خالتي.
– لا أحدَ لي غيركم، وحتى الأموات يجدون مَن يَتذكَّرهم.
– كَم تَرِدِين على خاطري يا خالتي، ولكن الدنيا شواغل.
– نسوني تمامًا يا بثينة.
لاذَت بثينة بالصمت، فقالت عيون: إني خالتهم الوحيدة الباقية على قيد الحياة، ولو تركَتني عدلية لَمتُّ جوعًا فوق فراشي.
وزفرت لوعة، ثم قالت: كنا — أنا وأمك وخالتك — أَخَواتٍ سعيدات، وكانت أيامًا سعيدة.
– رحمهما الله!
– كنتُ الصغرى، ولم يكن يُعجِبني العجب!
– ربنا يشفيك يا خالتي.
– يا له من دعاء لن يتحقَّق يا بثينة، إني وحيدة مهجورة، وقد وكَّلتُ عني أحدَ الجيران لتَسلُّم معاشي.
وجفَّفَت دمعةً بيدها النحيلة المعروقة الزرقاء، وقالت: إني خائفة يا بثينة، وأعمل ألفَ حساب لليوم الذي تذهب فيه عدلية.
– هيهات أن تجد بيتًا كبيتك يا خالتي.
– إن خدمتي الشخصية شاقة وغير سارة؛ لذلك لا يفارقني القلق.
– إنها في الواقع تهيمن على بيتك ومعاشك، فكيف يهون عليها أن تهجرك؟
– ولكنني قَلِقة، دائمًا قَلِقة، لا يَتخلَّى عني الوسواس، وخوفي منها لا يقلُّ عن خوفي عليها.
وسكتَت بثينة؛ إما لأنها لا تجد ما تقوله، وإما لأنها ملَّت تكرارَ الأكليشيهات، فقالت عيون: آسفة يا بثينة، نفد رصيدي من الكلام الطيِّب، ولكن لا يصح أن أُضايِق أكثر من ذلك، الإنسانةَ الوحيدة التي حافَظَت على الوفاء لي.
وغيَّرت لهجتها من التشكِّي إلى الحياد أو الإشفاق، ثم سألت: خبِّريني الآن عن العلاقة بينك وبين زوجك؟
فتنهَّدت بثينة، وقالت بإيجاز: بين بين يا خالتي.
– كيف، وأنتِ شابة ولا كل الشابات؟!
ثم مُستدرِكة، وابتسامة باهتة ترفُّ على شفتَيها الجافتَين المُمتعضِتَين: أنتِ جميلة يا بثينة، وكما قالوا، فأنتِ أشبهُ نساء الأسرة بخالتك عندما كنتُ في سنِّك!
أحنَت بثينة رأسَها بالإيجاب وهي تبتسم أيضًا.
– عندما كنت أسير في الطريق أو أطلُّ من نافذة، كانت الأعيُن تلتهمني التهامًا!
فضحكت بثينة، وهي ترنو إليها بعطف.
– وتقولين إن حالك مع زوجك بين بين؟! .. متى يشعر بنعمةِ الله التي نعَّمَه بها؟!
– هكذا هي الدنيا يا خالتي.
– دنيا لعينة يا بثينة.
– ولا أمانَ لها يا خالتي.
ها هي عدلية قادمة بصينية الغداء، أجلَسَتها مُسنِدةً ظهرَها إلى وسادة، ثم شرعت في إطعامها.
وأرادت هي أن تَتودَّد إليها، فقالت: طعامُكِ لذيذ يا عدلية.
لم تبتسم ولم تشكر، وكأنها لم تسمع، وكالعادة تَبدَّد ثناءُ الضعيف في الهواء.
– ما لك يا عدلية؟
أجابت بنبرة لم تخلُ من خشونة: أفكِّر في بنتي.
– ربنا يُسعِدها يا عدلية.
– ولكنها شقيَّة مع الرجل.
– مهما يكن من أمره، فهو لن يفرِّط في أم أبنائه السبعة.
– إنكِ لا تعرفينه يا ستي.
– عليكِ دائمًا أن تعقِّليها وتصبِّريها!
– ولكن ما العمل إذا طلَّقها؟
أجل ما العمل؟ ما العمل لو جاءتها بابنتها وعيالها؟ لو أرادت ذلك ما وسعها هي الاعتراض، إنها تحت رحمتها تمامًا؛ سيضيق المسكن الصغير بهم، وسينقلب سوقًا، كيف تتحمَّل الضوضاءَ والشقاوة، ومن أين لها أن تُطعِمهم وتكسوهم! تهديد جديد يا عيون، تُرى كيف قال لك الشيخ طه وهو يباركك ليلةَ دُخلتك: «العزُّ قدامك والسعد خدَّامك.» ولِمَ كانت أمُّها مَزهوَّة بها لحد الهوس؟ وقد بادَأها الحظُّ بزيجة سعيدة حقًّا، من قاضٍ أصيل تزوَّجَت، رآها ذاتَ يومٍ مع والدَيها في بنوار بسينما كوزمو جراف. كانت زوجةً مدلَّلة وأمًّا سعيدة، وكان يتأبَّط ذراعها إلى الأوبرا متباهيًا بجمالها، وغازَلها مرةً أحدُ الباشوات، فكادت تنشب معركة من أجلها، وقد انتهى ذلك التاريخ كله فوق هذا الفراش الكئيب، وتحت رحمةِ هذه المرأة الصلبة التعيسة، التي تَأْبى أن تجودَ عليها بابتسامة. ودقَّ جرس الباب الخارجي، فاختلج جَفْناها بلهفة، هل من زائرٍ جديد؟
– مَن يا عدلية؟
– السبَّاك يا ستي.
السبَّاك أيضًا! دائمًا السبَّاك، لصنبور المطبخ جاء أو الحمَّام، أو لعلها الماسورة أو البالوعة، فَلْتتجنَّب السؤالَ فضلًا عن الاستجواب؛ اتقاءً للعواقب الوخيمة. سيجيء السبَّاك مرةً ثانية وثالثة ورابعة، كلما طاب له المجيء أو دَعَتْه الخنزيرة!
وأغلقت عدلية بابَ حجرتها كيلا تقع عيناه عليها! من قديمٍ والشكوكُ تُساوِرها، ولكن ما الحيلة؟ هكذا تقع الحوادث في مَسْكنها الصغير، خارجَ الباب المغلَق، الذي يُغلَق بلا إذنها أو إرادتها باسم حمايتها، وهي لا حيلةَ لها ولا قوةَ ولا مُعين. ولو طمع الرجل فيَّ أكثرَ مما بين يدَيه، لو ظنَّ يومًا أنها عَقبة في سبيله، لو خطر له أيُّ خاطر شيطاني، فمَن ذا يدفع عنها الأذى؟! أرهفَت السمع وهي في غاية من الكَدَر، وغلى الدم في عروقها، لا شكَّ أن وحيدها الفقيد قد عانى انفعالًا كانفعالها هذا، هو الذي دفعه إلى الموقف الذي أودى بعمره اليافع، ولكنها نصفُ ميتة وطريحةُ الفراش.
وفتحت عدلية الباب، وهي تقول: ذهب.
ألم يَستغرِق من الوقت أكثر مما يَتصوَّر العقل! وسألَتها دون أن تشير إلى ذلك: ماذا فعل؟
– ماسورة الحوض.
غالَبَت الغيظ حتى غلبته، ثم قالت: ولكن ماسورة الحوض …
فقاطَعَتها بحِدة: إنها قديمة وبحاجةٍ إلى إصلاحٍ مُتواصِل!
لن تنتهي حاجتها إلى الإصلاح، ولو استبدلت بها أخرى جديدة، فسيوجد دائمًا ما يَستدعي حضورَه من أسبوع لأسبوع. فَلْيأتِ كلما شاء هواه أو شاء هواها، وَلْيقنع بذلك. على أي حال، فعدلية بمثابة يدَيها وقدمَيها وحواسها جميعًا، ومهمتها في هذا البيت ليست بالمريحة ولا السهلة ولا السعيدة، وإلى ذلك كله، فالشقاء لا يعفيها من ضريبته، ولن يخلو رأسها من أسباب الأرَق.
وذاتَ يومٍ طرَق البابَ طارقٌ غريب، وقالت عدلية لسيدتها: شيخ ضرير يا ستي، يدَّعي أنكِ تعرفينه من قديم.
وقبل أن تضيف كلمة، جاء من الخارج صوتُ الغريب وهو يهتف: الشيخ طه الشريف يا ست عيون هانم!
ذلك الصوت، ذلك الاسم، فَلْتُسعِفها الذاكرة المحتضرة. وتَلقى قلبها رعشة، ثم انساب من شغافه المهزوز فيضٌ من الذكريات، كدفقةِ نسيمٍ عَطِرة، فاجتاحها إحساسٌ بالسعادة غامر: تعالَ يا شيخ طه، خذي بيده يا عدلية.
أقبَلَ مَقُودًا، يتحسَّس الأرض بطرفِ عصاه، قد انحسرت عمامته البالية عن جبين بارز، وغار جَفْناه في محجرَيهما. مُنحني الظهر من الكِبَر، تُطوِّق جبتُه الباهتة المنجردة الأطراف جسدًا مهزولًا، وقالت له عيون بعد أن اتخذ مجلسَه: هاك يدي ممدودة يا شيخ طه، ولكن لا تشدَّ عليها فهي ضعيفة.
صافَحَها برِقَّة وحنان وهو يقول: سلامتك يا ست عيون!
– حمدًا لله على سلامتك يا شيخ طه، متى رأيتك آخِرَ مرة؟
هزَّ رأسَه يَمْنةً ويَسْرة، وقال: يا له من عُمْر!
– تلك الأيام الحلوة يا شيخ طه.
– ربنا يجعل أيامك كلَّها حلوة.
– ولكن كيف؟ إني طريحةُ الفراش، وحيدةٌ تمامًا يا شيخ طه.
فأشار إلى فوق وتمتم: عنده الرحمة.
– وكيف اهتديتَ إلى مَسْكني؟
– صادَفَني عم آدم بوَّاب البيت القديم.
رنَت بعينَيها الكليلتَين إلى أخاديد وجهه، وهو يقتعد الكرسي كتمثالٍ للفاقة، كم كان قويًّا ممتلئًا أيامَ كان مُقرِئ البيت القديم، يزورهم كلَّ صباح، فيشرب القهوة، ويقرأ ما تَيسَّر من القرآن، ويفتي أمَّها فيما تستفتيه فيه، وهو الذي قال لها ليلةَ دخلتها: «العزُّ قدَّامك والسعد خدَّامك.» ومن حنايا الماضي تَدفَّق شعورٌ ودود أليف، ممزوجًا بالحنين والدمع، وإذا به يسلت من قدمَيه الحذاءَ المتهرِّئ، فيتربَّع فوق الكرسي، ثم يتلو: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى.
ولما شرب القهوة وخلَت لهما الحجرة، راحت تقول له: إني وحيدة يا شيخ طه.
فقال كالمحتجِّ: لكن الله موجودٌ يا عيون هانم.
– دائمًا قَلِقة وخائفة.
– الله موجود يا ست عيون.
– ليتك تزورني بقدرِ ما تستطيع!
– هي أمنيةُ الأماني عندي.
– وكيف تسير الأمور يا شيخ طه؟
– جرَت مشيئةُ الله بأن يقطع الراديو أرزاقَنا، ولكنَّ الله لا ينسى عبدَه، المهم ألَّا تستسلمي للحزن ولا لليأس.
– إنه القلق، لا أحدَ لي إلا عدلية، وإذا تخلَّت عني …
– لن يتخلَّى الله عنك.
– ولكني وحيدة بكل معنى الكلمة.
فلوَّح بيده آسفًا، وقال: يا للخسارة!
– أأنا مخطِئة يا شيخ طه؟
– كلا، ولكنك غير مؤمنة!
– ولكني مؤمنة، لقد فقدتُ ابني وزوجي في عامَين متعاقبَين، ولكني ما زلت مؤمنة.
– لستِ مؤمنةً يا عيون هانم.
غلبها الكدر، فلاذَت بالصمت، فعاد يقول: لا تغضبي، المؤمن حقًّا لا يعرف الخوفَ ولا القلقَ ولا اليأسَ قلبُه.
– إني مؤمنة، ولكني طريحةُ الفراش، وتحت رحمةِ عدلية.
– المؤمن لا يكون تحت رحمةِ أحدٍ إلا ربه.
– ما أسهلَ الكلام، ولكن ما أصعب العمل.
فاهتزَّ رأسه يَمْنة ويَسْرة، وقال بصوت ينمُّ عن النصر: أجل .. ما أسهلَ الكلام! ولكن ما أصعبَ العمل!
– لم أعد أفهم شيئًا.
– اسمحي لي بزيارتك كلَّ يوم!
– أستحلِفُكَ بالله أن تفعل.
– ولكن بغير الإيمان لن تجدي خيرًا في عجوزٍ ضرير مثلي.
تردَّدت قليلًا، ثم قالت بجزع: أخشى أن تضيق بك، أعني عدلية؟
– ولكني سأجيء.
– وإذا … وإذا … هبها …
– صدِّقيني، سأزورك كلَّ يوم، وإذا لم يعجبها ذلك فَلْتنطح الجدار!
فتمتمت بإشفاق: اخفض صوتك يا شيخ طه، فعلينا ألَّا نُغضِبها.
– انسي يا ست عيون أنك تحت رحمتها، أنت تحت رحمة الله وحده.
– أجل .. أجل .. كلنا تحت رحمة الله وحده، ولكن تصوَّر ما سيَحِيق بي لو غضبَت مني!
– لن يُصِيبك إلا ما كَتَب الله لكِ.
– هذا حق يا شيخ طه، ولكن تَصوَّرْ بالله وَحْدتي إذا هجرَتني!
– لن تهجرك يا ست عيون، فهي تعتمد عليك أضعافَ ما تعتمدين عليها!
– إني عاجزة، أما هي فقوية ويمكن أن تعمل في أي بيت!
– يمكن أن تعمل في أي بيت، ولكن كخادِمة، أما هنا فهي ربَّةُ البيت!
– كلامُكَ جميل ومعقول، ولكن الحقيقةَ مُرةٌ جدًّا، فأنا عاجزة تمامًا.
فضرب الأرض بعصاه الغليظة، وقال: إن نصف عجزك راجِع إلى اعتمادك الكلي عليها!
– ولكنَّ مرضي حقيقة، حقيقةٌ واقعة بشهادة الأطباء.
– أنا لا أُومِن بالأمراض ولا بالأطباء، ولكني سأُجارِيكِ في أفكارك إلى حين، إذا هجرَتكِ يا ست عيون كما تَتوهَّمين، فسوف أجيئك بابنتي الكبرى المطلَّقة.
شعَّ من عينها الغائمتَين نور طارئ، وتَساءَلت بلهفة: حقًّا؟!
– سأستغني عنها من أجل خاطرك.
فشعرت بخجلٍ من نفسها، وقالت: ولكنك لا تستطيع العيش بمفردك!
فضحك لأول مرة، وقال: عجوز ضرير، فكيف يعيش بمفرده؟! طالما عشت بمفردي قبل طلاقها!
– لا أريد أن أُثقِل عليك.
– إنما تُثقِلين على نفسك، كان الله في عونك.
وساد الصمت مليًّا؛ صمت مُشبع بالطمأنينة والسلام.
وتنحنح، ثم راح يتلو: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ
وآنَ له أن يذهب، فصافَحَها بحنانٍ ثم ودَّعَها وانصرف.
شعرت عيون بأُنسٍ لم تشعر به منذ دهرٍ طويل، ونادَت عدلية ثم قالت لها: عدلية، إذا جاء الشيخ طه فاستقبليه بلُطفٍ وإنسانية.
قطَّبت عدلية ساخطة، وقالت بتأفُّف: لكنه رجلٌ قَذِر يا ستي!
– إنه مُقرِئ بيتنا القديم، وقد ورثتُ صداقتَه عن أمي وأبي.
– لقد رأيت قملةً على جبتِه يا ستي.
فقالت بحنق: لا يهمني ذلك، إنه رجلٌ مَبارَك.
فقالت المرأة بنبرةٍ وشت بوعيد: ولكنني لا تنقصني المتاعب!
فقالت عيون بإلحاح: صبرك بالله، إنها رغبتي وأنتظر أن تحترِميها!
– قلت إنني رأيت …
فقاطَعَتها بتصميم: إنه رجلٌ مُبارَك، وعليكِ أن تنفِّذي مشيئتي.
تجهَّم وجهُ عدلية وهمَّت بالكلام، ولكن بادَرَتها عيون بإصرار: عليكِ أن تنفِّذي مشيئتي دونَ مناقَشة!
تراجَع وجه عدلية إلى صورته العادية في دهشة أو ذهول، ورمَقَتها بنظرةٍ قَلِقة مستطلعة، تَرامَقَتا طويلًا فلم تجفل عيون تحت نظرتها النافذة. وجدت نفسَها تُصِرُّ على التحديق أو التحدِّي، واستهانَت بعجزها ومَخاوفها، وتمادَت في التحدِّي. وارتعدَت في باطنها، ولكن بحمى النصر، فتَهيَّأ لها أنها تَتعملَق.
واختلج جَفْنا عدلية مليًّا، ثم غضَّت البصر، وغادَرَت الحجرةَ وهي ترطنُ بكلامٍ غيرِ مفهوم، ولكن عيون طمحَت إلى مزيدٍ من الطمأنينة والثقة، فنادَتها مرةً أخرى، وجاءت عدلية وهي تقول بتذمُّر وضِيق: الأكل فوق النار.
فسألَتها بإصرارٍ وتحدٍّ:
خبِّريني عما ستفعلين إذا جاء الشيخ طه؟
حدجَتها المرأة بنظرةٍ مُتسائِلة، ثم سألت: مَن هو الشيخ طه؟
اجتاحها الغيظ، فقالت: تَعْبثين بي يا عدلية؟!
– ماذا أغضبك؟ إني أسألك مَن هو الشيخ طه؟
– أَلَا تعرفين مَن هو الشيخ طه؟
– ما سمعتُ باسمه من قبلُ!
فقالت وهي تجمع عزيمتها على نضال مرير: ألم تَرَي الشيخَ الذي كان يُجالِسني منذ دقائق؟ أَلَم تُقدِّمي له القهوةَ بنفسك؟
تَفرَّسَت المرأة في وجهها بريبة وقلق، وقالت: لم يدخل بيتَنا اليومَ أحد، لا شيخ ولا أفندي، عم تَتحدَّثين؟
هتفَت بغضب: عمَّ أتحدَّث؟! ما شاء الله، أتَبلُغ بكِ القحَة …؟!
– إنكِ تُرعِبينني، مَن هو الشيخ طه؟
– جُنِنتُ أم تريدين أن تُجنِّنيني؟
قالت عدلية، وهي تزداد قلقًا: أقسم بالله، برأسِ بنتي، ما رأيتُ الشيخ طه ولا سمعتُ عنه.
ارتفع صوت عيون كما لم يرتفع منذ سنوات، وهتفت: تُقسِمين أيضًا، إذن فأنت تَتآمرين على عقلي، تُوهِمينني بأنني أرى أشياءَ لا وجودَ لها، بأنني مجنونة، أهذا هو غَرَضُك؟ أهذا هو تدبيرُكِ الأخير لسد الطريق في وجه الصديق الوحيد؟!
اتَّسعَت عينا عدلية من فزع، تَهاوى صلفها فتبدَّد، وهتفت بصوتٍ مُتهدِّج: اسم الله على عقلك يا ستي!
– اخرسي، أنا لا أخشاك، لستُ تحت رحمتك، سيَزُورني كلَّ يوم، هذه هي مشيئتي وعليك أن تُنفِّذيها بلا مُناقَشة، إياكِ وأن تعترضي سبيلَه، سأقطع عيشَك!
اصفرَّ وجهُ عدلية وجحظت عيناها، وقالت بضراعة: لا تُرهِقي نفسَك، ليهدأ خاطرك، سأنفِّذ مشيئتك على العين والرأس!
صاحت بها: كذَّابة، مُجرِمة، لِصَّة، زانية، تحمَّلتُكِ سنين بلا ضرورة، لستُ في حاجةٍ إلى وجهك المطين، وأنتِ بدوني لا تُساوين ملِّيمًا خردة، لا أريدك، اذهبي في داهية، في ستين داهية، بطرتك النعمة، لم تَقْنعي بامتلاك كل شيء في بيتي، فعملت ليلَ نهارَ على إذلالي وتخويفي وتعذيبي، إني أطردك، لا تريني وجهَكِ بعد اليوم، اذهبي، في ألفِ داهية، في ألفِ مليون داهية.
تَراجَعت عدلية خطوات، ركبها الذعر حتى زعزع جذورَ عقلها، استدارت وهي تَتلفَّت، ثم اندفعَت كريحٍ هوجاءَ وهي تصرخ بأعلى صوتها.