حُلْم
شجرة طويلة عريضة من الألقاب والأوصاف، ولكن بلا ثمرة؛ فهو عامل ميكانيكي بشركة الشرق للمعادن، وله من الأولاد سبعة، ولكنَّ يوميتَه ثلاثون قرشًا، وهو لا يطلق لحيتَه توفيرًا لتكاليف حلقها فحسب، ولكن لأنه أيضًا من رجال الطريق، ومُرِيدي الشيخ. عند انطواءِ نهار العناء، يُهرع إلى زاوية الكومي ويجلس بين يدَي الشيخ، ما أنبله! وما أطيبه ذلك البحر الذي يزخر بعلم الله، إنه يُلقِّنه آدابَ الدنيا والدِّين، ولكن برجوعه آخِر الليل إلى البدروم، يجد في انتظاره المتاعب، هناك المرأة التي أحَدَّها الدهر؛ أحدَّ لسانَها وأطرافَها ومزاجها.
– طبعًا لا تعرف ما فعل الأولاد، وما حصل؟
– يا سيدي يا كومي، أكان الأولاد يكدِّرون صفاءَ روحك؟ لماذا لا يحدِّث الشيخ عن الأولياء في بيوتهم؟!
– إني أعطيك جميعَ ما أملك، فلا تبقى معي إلا اللعنات.
ويجمح به الغضب، فيزلُّ اللسان وينحرف عن أدب الدنيا والدِّين، ويتبدَّد جهاد الليل سُدًى.
وذاتَ صباح، وجد نفسه أمام المدير وجهًا لوجه في الجراج الكبير، حيَّاه بخير ما يَجُود به الولاء، وهتف بالدعاء له، وقال: يا سعادة المدير، رأيتُ لك حُلمًا يجب أن تسمعه.
لكنه لم يُولِه أيَّ اهتمام، ومضى في سبيله.
•••
أي حُلم رآه ذلك الأحمق!
لم يَعُد للأحلام معنى، لم يَعُد للطمأنينة مُستقَر، الشركة وحديقة الموز بالشرقية وعمارة الخازندار، انقلبَت تُهمًا موروثة، وتَبخَّر الطموح السياسي، أي حُلم أيها السُّنيُّ القَذِر! والشائعات تنتشر في الجو مخلِّفةً وراءها ذيلًا طويلًا من القلق. أليس عجيبًا بعد ذلك أن يقول له صديق إن الغد هو الأمل؟ أيُّ أملٍ يا صاحبي؟! وقال له: لنَكُن واقِعيِّين.
فقال صاحبه: الأملُ واقعيٌّ أيضًا.
– إنَّ كل شيءٍ مُهدَّد بالزوال.
– إنك متشائم.
– كلا، ولكني لا أدري ماذا أفعل؟
– افعل ما يفعله المُطارَد.
– وما ذاك؟
– لا تَعتمِدْ كلَّ الاعتماد على الحديقة أو العمارة أو الشركة، لا بد من خِزانة في البيت، واحرص على الحلي والجواهر.
– وماذا عن جوِّ القحة الذي يُحاصِرنا؟
– ضَع أعصابَك في ثلاجة!
تَذكَّر السُّني بحنق، الخبيث الذي يحترف الطِّيبة، على حين تَقْدح عيناه شرًّا متأصلًا، ثم يزعم أنه رأى له حُلمًا! وإذا بصاحبه يقول: دَعْني أحدِّثك عن حُلمٍ رأيتُه ليلة أمس!
فضحك ضحكةً عالية، لم يفطن الآخَرُ بطبيعة الحال إلى مَغْزاها أو سببها!
•••
أصبح يؤمن بأن المدير يتجنَّب النظرَ نحوَه بازدراءٍ صامت كلما مرَّ به في طريقه إلى السيارة، ولا شكَّ أنه يَضِيق به ويَلعَن وجودَه، وأفضى بهواجسه إلى زميله في الجراج، فقال الرجل: إنك تخلق أوهامًا لا أساسَ لها، وأُقسِم لكَ إنه لم يَدْرِ بكَ قَط.
وحمل نفسَه على تصديقِ ذلك. أجل، فإن العدم الكامل خيرٌ من أن يكون مَثارَ سخطه، وأراد أن يعترف بمَخاوِفه للشيخ، ولكنه وجد نفسه يقول: حلَّت بركتك بابني فهد، فهو يَتقدَّم نحو الشفاء.
فقال الشيخ: لو أصاب مرضُه أحدَ أبناء الأغنياء لَحشدَ له الأطباء، فالله جل جلاله مع الفقراء.
فسأله: لماذا كان المؤمن مصابًا؟
فأجاب بثقة وإيمان: ذلك أنه لا يرتضي عن الجنة بديلًا.
إن جلسات الليل في الزاوية أو في منظرة البيت، شفاءٌ للقلوب الجريحة، وكلمات الشيخ أثمنُ من أشياءَ كثيرة يَعُدها أهلُ الدنيا سعادةً وزِينة، والجوزة التي يستعملها الضالُّون لإشباع الأهواء، تُعتبَر هنا بحقٍّ وعاءً للنور والحكمة الإلهية، وما أجملَ أن تكون محبوبًا كالشيخ، أن يهبك الناس — حتى أغنياؤهم — القلوب. لذلك تَتهادى إليه العطايا الطيِّبات، وهو يَقْبلها بسماحةِ نفس؛ إكرامًا لهم، لا حرصًا عليها أو وَلَعًا بها، وقد سأله ذاتَ يومٍ أخٌ في الطريقة: لِمَ لا يعطينا ممَّا أعطاه الله؟
فغضب وقال له: يا أخي، إنه يعطينا ما لا يُقدَّر بمال.
•••
قوانين يوليو .. قوانين يوليو، الكل يردِّد: قوانين يوليو. وجعل يذهب ويجيء وهو كالمجنون، وقالت له زوجُه: الصحة أغلى من أي شيء!
– أتدركين حقًّا ما الخسارة التي حلَّت بنا؟
– نعم، لستُ غِرَّةً ولا جاهلة، ولكن ما زال عندك الشركة والعمارة والحديقة.
– والضرائب الجديدة؟
– الصحة وحدها هي التي لا تُعوَّض!
وتأمَّلَ شحوبَ وجهها الذي يَشْهد بعكس ما ينطق به لسانُها، وتمتم: لا أحدَ يدري أين يقف الطوفان.
– ربنا موجود.
لم ينتبه إلى قولها إلا بعد مرور وقت، والحقُّ قد أذهَلَه، وكاد رغم الكرب يبتسم، وتخيَّلَ مرَحَها الطويل فشعر بأسى، وتمتم: ربنا موجود، ولكن أهو معنا أم علينا؟
فقالت بقوة: ليس في أموالنا ملِّيم حرام.
حتى ذلك لم يَعُد يُصدِّقه بلا تحفُّظ، الأصوات التي ترتفع كلَّ يوم وتُؤكِّد أننا شرُّ لصوصٍ سعَوْا فوق ظهر الأرض؛ ذكاؤنا خبث، اجتهادُنا انتهازية، سَعْيُنا أنانية، رِبْحُنا سرقة، وجودُنا شر واستغلال. كيف يصدق؟! الوجوه تبتسم، لا للتودُّد ولكن لتُدارِي الشماتة، وأحيانًا يَتسلَّل إليه صوت وهو يدخل السيارة: «على الباغي تدور الدوائر»، وإنه لَشرٌّ أن يَغضب أو أن يجادل، وشرٌّ منه أن يفكِّر في رد الاعتداء بمثله. البوليس الذي كان دِرْعه أمسى مُطارِدَه، ومعبد القانون تتهاوى أركانُه فوق رأسه، ولكن هل يَسَعه إلا أن يُردِّد مع زوجه: ربنا موجود.
•••
قال للشيخ بصوت متهدِّج من الفرح: يا له من يوم!
فقال له الشيخ بودٍّ: لنبدأ الدرس.
– ولكنَّ النفس … أعني أنه يجب أن نَتكلَّم.
– لنَدَع الخَلْق للخالق، وَلْنَمضِ في طريقنا.
– الدنيا تَتغيَّر يا مولانا .. مَن كان يظن …
– أَلَا تودُّ أن تسمع شيئًا عن سيدنا الخضر؟
ولكنه وجد عند زوجه أُذنًا تسمعه، فقال لها: أخذوا أموالَ الأغنياء!
لم تَفهمني الغبية، وتساءلت: أليسَت هي رِزقَ الله لهم؟
لوَّحَ بيده مَغِيظًا، فعادت تسأل: ماذا أعطَوا للفقراء؟
لا تريد المرأة أن تشاركه فرَحَه، رأته مسرورًا فصمَّمت — كالعادة — على تكديرِ صَفْوه، وقد ترامى إليه نبأ عن حال المدير التي رُئِي بها، وهو يستقلُّ سيارتَه، ولكن فاته أن يراه بنفسه، ولم يَغِب الرجل عن ذهنه طويلًا، ووجد زميله يصخب بالحماس، ولما رآه أقبل عليه قائلًا: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا.
– ماذا تقول يا ابن والدي؟
– أقول: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا!
وأوشك أن يسأله عما أعطوه للفقراء مردِّدًا كلامَ زوجه، ولكنه لم يجد من نفسه مشجِّعًا، وسرعان ما انهلَّت من السماء قراراتُ التحسين. أجل يا ابن والدي، إننا نُخلَق من جديد.
وقال له الشيخ: أَصْغِ إليَّ.
وأراد أن يصغي، ولكنه كان مُكتَظًّا بالمشاعر، فقال له الشيخ: احذر الشماتة.
فقال إنه لا يشمت بأحَد، ولا عدوَّ له في الحقيقة، ولكنه بدا رغم قوله كالثَّمِل، فقال الشيخ: إنك تتقهقر في الطريق.
فأغمض عينَيه ليحجب عن بصره الدنيا التي تثيره، فقال الشيخ: استغفِر الله.
فقال متشكِّيًا: لم أذنب يا مولاي، والمال والبنون؟
واعتدل استعدادًا للاستماع، ولكن الشيخ قال: ما أبعدَكَ عن مجلسي!
•••
ذلك السُّني لا أمرُّ به حتى يُصِرَّ على الترحيب بي بصوت كأصوات المنشِدين! لا يختلف باطنه عن الآخرين، ولكنَّ له طريقته الشريرة الخاصة به، ولا يبعد أن يُفاجِئَني ذاتَ يومٍ بحُلْم جديد. لِمَ أشغل نفسي به، كأنه المكروه الأوحد في هذه الدنيا؟ إن أمراض الأحزان تزحف على أصحابنا، وعليَّ أن أُقاوِم، ألَّا أبالي، وغير ذلك من الكلمات التي لم يَعُد لها أيُّ معنًى البتة. وزوجُه تبالغ في إعلان المرح، وخاصَّةً في النادي. جدران النادي تضجُّ بالضحك كلَّ ليلة، ضحك المجانين. ويقولون — رغم ذلك — إننا وقعنا في شَرَكٍ كبير، ما زال به متَّسعٌ للحركة، ولكنه قُدَّ من صلبٍ لا ينكسر ولا يَلِين. وإذا به يقع في شَرَكٍ آخَرَ من صنْعِ يده. أجَلْ، قرَّرَ أن يعشق الراقصةَ الألمانية بمَلْهى الكونتننتال الليلي. أسَرَته كبرياؤها قبل شقرتها، عندما قالت له خلال حوار طويل: كنَّا وما زِلنا الأسياد!
فقال لها بتأثُّر: إني أعشق حزنَك كما أعشقك.
وهي حادَّةٌ كالنصل، ولكنها مُستكنَّة في غطاء حريري، أمَّا زوجُه فقد تدهور بها الحال رغم المرح التمثيلي، وقد رثى لها، ولكنَّ حبها مضى سريعًا نحو موتٍ غير متوقَّع، وعندما أُمِّمَت الشركة، جرى كلُّ شيء نحوَ الموت، وقالت زوجه إنه يجب الإسراعُ ببيعِ الحديقة والعمارة. هذا رأي، ولكن أين الشاري؟ وأين يضعون الأموال؟ وقال: خيرُ ما نفعل ألَّا نفعل شيئًا.
واستسلم بكلِّيَّته إلى غرامه، وقال إن عناصرَ بيولوجية وفسيولوجية تتعاون على تحطيمه من الداخل، فلا يجوز أن يقوِّيها بتعاسةٍ إرادية في سلوكه الخارجي.
وخطر السُّني على باله، وهو يحلق ذقنَه ذاتَ صباح، فغمغم: أيُّ حُلمٍ يا فاجر؟!
•••
سأله الشيخ: أتُصغِي إليَّ حقًّا؟
فأجاب بارتباك وحَياء: نعم يا مولاي.
رمقه بأسف، وقال: إنك لا تُواظِب على الحضور.
– الحق.
– شغلَتْك الدنيا.
– أبدًا، ولكنني أبحث عن شقة فوق سطح الأرض.
بدا الشيخ فاترًا على غير عادة، فتمنى الرجل ألا يكون انقطاعُ العطايا — نتيجةً لتغيُّر الظروف — وراءَ ذاك الفتور. وعاد الشيخ يقول: علاوات ومُشارَكة في الأرباح، ماذا تفعل بما مَنَّ الله به عليك من نِعَم؟
– ما يفعل العطشان إذا وجَد فنجال ماء.
– ولكن الدنيا لم تُشبِع طالبًا لها.
– ما طلبتُ إلا الستر.
– لقد غرَّتك الحياة الدنيا.
– أبدًا، واللهُ شهيد.
– أقول لقد غرَّتك الحياةُ الدنيا.
وفصل بينهما الصمت مليًّا، ثم قال الرجل بحذر: هل من بأس في أن أرشِّح نفسي لمجلس الإدارة؟
– الإدارة؟!
– عملٌ نافع، وأنا رجلٌ محبوب بين الزملاء.
– لا تَسَلْ أهلَ الطريق عن ذلك.
– قال رجل صادق إن الحياة في عبادةٍ كما في الخلوة.
فغضَّ الشيخُ بصره وهو يقول: لم يَبْقَ إلا أن تحلق لحيتَك.
وفرَّقَ الصمتُ بينهما.
•••
– بَلْوانا أخفُّ إذا قِيست ببَلْوى الآخرين.
فسأل صاحبه عما يعني، فقال باقتضاب: الحراسة، على سبيل المثال.
– لا يدري أحدٌ شيئًا عما يقع غدًا.
وتبادَلا نظرةً طويلة، ثم سأل صاحبه: ماذا جَنَيْنا؟
– التاريخ حافلٌ بالأحداث الدامية.
– إني أكاد أصدِّق أحيانًا ما يُقال عن إجرامنا!
فرَنَا إليه صاحبُه بنظرةٍ مُتسائِلة، فقال: إذا لم يكن ذلك كذلك، فلِمَ قد تَخلَّى الله عنا؟
وغرق في الغرام حتى أُذنَيْه، وتدهورت حالُ زوجه من سيئٍ إلى أسوأ، وقرأ ذاتَ صباحٍ اسمَ السُّني بين أسماء الناجحين في انتخابات مجلس الإدارة، فهتف بحنقٍ شديد: صاحِب الحُلم الفاجر!
وأضرَبَ عن قراءة الصحف.
وأثار دهشتَه صديقٌ بمرحه المتزايِد، رغم ما حاق به من خسائرَ مُذهِلة، وقال له: إنك تمثِّل دورًا غير لائق.
فضحك الرجل عاليًا، وقال: حقٌّ أن أموالنا قد اغتُصِبت، ولكن هل أدلُّك على رجل، قد تَنازَل عن أموال لا تُعد ولا تُحصى بلا اغتصاب؟
وراح يستعرض في ذاكرته الصحاب من الباشوات والبكوات، ولكن صاحبه عاجَلَه قائلًا: اسمه الجوتاما بوذا!
وحثَّه على السماع بإشارة من غليونه، وقال: سأقصُّ عليك قصتَه العجيبة.