المسطول والقنبلة
ليس الطريق هو الطريق، ولا الدنيا هي الدنيا. الناس في عَجلةٍ ولهوجة، الطِّوَار مُزدحِم، والشارعُ يَموج بحركةٍ لا تنقطع، والجنودُ يرمون بنظرات جهنمية من تحت الخوذات. ما الخبر؟! وكلما رغب أن يركِّز ذاكرتَه تَطايَرت كغبار الأعاصير، كلُّ ما يَذكره أنه ذاهبٌ إلى دكان صديقه محسن الكوَّاء. يا عم محسن، أين أنت؟ .. الطريق لا نهايةَ له؛ كأنه يسير إلى القمر، وهو ثقيل جدًّا، تكاد تخذله قدماه. والشمس ترسل أشعةً سوداء، ورغم حيرته ابتسم. وندَّت عنه ضحكة، ونظر إلى الناس باستغراب. أيُّ شيءٍ يستحق هذه العَجلة؟! وتَساءَل، تُرى هل لبس طربوشَه؟ إنه يشعر بقشعريرة في دماغه، ولكنه ليس متأكدًا من الطربوش، ولم يَجِد لا القُدْرةَ ولا العزيمةَ ليرفع يدَه ليتأكَّد من وجود الطربوش، ولكنه صادَف دكانَ أثاثٍ قديم، فمال إليه ونظَر في مِرآةٍ مَسْنودة إلى ضلفةِ بابه، فرأى طربوشه منطرحًا إلى الوراء كاشفًا عن مقدم شعره الأسود. وسوَّى رباطَ رقبته وهو ينظر، وخُيِّل إليه أن عينَيه منتفختان وأنهما شِبهُ مغلقتَيْن، واشتدَّت الحركة بالطريق وانتشرَت الضوضاء. ما الخبر؟ وفتَح فاه ليُدندِن أغنية، ولكنه سرعان ما نسيها، وساءَه ذلك جدًّا ونغَّص صفْوَه، ولكن حركة زئبقية رقصت في باطنه فانبسط وابتسم، وقال إنه بما يملك من قوةٍ يُمكِنه أن يطير، وأن يغوص في الأرض، وأن يخاطب ساكِني القُطْب، وها هو أخيرًا دكان محسن الكوَّاء، ونسي تمامًا أسئلةَ الطريق وحيرته، ولما صار أمام عم محسن، انحنى تحيةً كأنه حيال ملك، ولبث منحنيًا إعرابًا عن امتنانه وكسلًا، وابتسم الكوَّاء، فقال ويده لا تكفُّ عن العمل: أستغفر الله يا أيوب أفندي.
– أنت تستحق أكثرَ من ذلك.
ووضع له الصبي كرسيًّا عند باب الدكان، فاعتدلَ في موقفه، وكرَّرَ التحيةَ برفع اليد، ثم مضى إلى الكرسي فانحطَّ عليه، وأشار إلى رأسه وهو ينظر إلى الكوَّاء، وقال: ليس بالإمكان خيرٌ مما كان.
فقال الكوَّاء بفَخَار: ألم أَقُل لك؟
– صنفٌ لا مثيلَ له.
– وقلت لك خُذ أوقية قبل أن يَنفَد، ولكنك لم تُصدِّقني.
وبالجلوس في الشارع، عاد مرةً أخرى إلى الحيرة والأسئلة، وتَساءَل عن معنى ذلك، فقال الكوَّاء: عمَّا قليلٍ ستَشهَد المَوكِب.
– المَوكِب؟!
– هووه .. عاد الرجل من لندن، وها هم الجنود ينتشرون للصيد الحرام!
ودارَت عينا أيوب بلا إرادة، واشتدَّ شعاع الشمس إظلامًا، واكتظَّ الطريق تمامًا، وتَساءَل: لماذا؟
لم يفهم الكوَّاء المقصودَ بالسؤال، ولكنه قال: عودة مظفَّرة سيَعقبها سقوطُ الوزارة.
ونظر أيوب إلى السماء، فانطرح رأسه على ظهر الكرسي بلا حَرَاك، فابتسم الكوَّاء، وتساءل: أَلَا يسرُّكَ أن تغور الوزارة؟
لم يُبدِ أيوب حركةً أو اهتمامًا، فكتم الكوَّاء ضحكةً وسأله: خبِّرني، مَن الذي يحكمنا الآن؟
أرجَعَ رأسه إلى وضعه الطبيعي وكأنه لم يَسمع، فعاد الآخَر يتساءل: أَلَا يسرُّكَ أن يعود الدستور؟
فراح يُدندِن بنغمةٍ غامضة، فضحك الكوَّاء قائلًا: يا بختك!
وترامى هتافٌ من بعيد، فانطلقَت شرارةُ الحماس في الطريق، وصاح المأمور بصوتٍ مِلْؤُه الوعيدُ: «النظام.» وخرج الكوَّاء من الدكان واندفع يهتف مع الهاتفين. وضحك أيوب دون أن يَبرح مجلسه، ومرَّ الموكب كزلزال، وجرى في إثره ألوفٌ وألوف، ولم يَبقَ قاعدًا في الطريق كلِّه إلا أيوب، وتَراجَع لِصْقَ الجدار ليتفادى من الراكضين، وراح يغنِّي بصوتٍ لم يسمعه أحد:
ووقف المأمور ببدلته البيضاء وشريطِه الأحمر في وسط الطريق، والتيار المندفِع يَتجنَّبه فينحرف إلى يمينه أو إلى يساره. ولم يحدث من الجنود اعتداءٌ إلا حوادث شِبه فردية، وإذا بشابٍّ يَنقضُّ على المأمور فجأة، ويُوجِّه إلى بطنه لكمةً ضارية. تَرنَّحَ المأمور ثم سقط، وفرَّ الشاب كالريح، ووقفت النغمة في حلق أيوب، وحملق وهو يُدارِي إغراءً بالضحك، ورأى الجنود وهم ينفجرون، فيَهوُون بهِراواتهم على الناس جزافًا، وطارَد المخبِرون الشاب، ولكن فصلت بينهم وبينه موجاتٌ مُتلاطِمة من البشر، وتَتابَعت الأحداث بسرعةٍ جنونية؛ دوَّت طلقاتٌ نارية، وفي ثوانٍ تَفرَّق الناس في كل عطفةٍ حتى خلا الطريق، وأُغلِقت الدكاكين، ونهض المأمور مُعتمِدًا على ذراع ملازم، وصاح برئيس المخبِرين: الويل لك إذا لم تأتِ به.
وأرهَقَت الأحداث عينَي أيوب، ولم يَبقَ في الطريق أحدٌ سواه، حتى الجنود ركضوا في أعقاب الهاربين، وأغمض عينَيه ليستريح، وأخذته نوبةٌ من الضحك في الطريق الخالي، والْتَفت إلى دكان الكوَّاء فوجده مُغلقًا، ورغب في تذكُّر الأغنية ولكنه لم يُفلِح، وأغلق عينَيه مرةً أخرى، غير أن وَقْع حذاءٍ ثقيل دعاه إلى فتحهما، رأى المخبِر يُقبِل نحوَه بنظرةٍ صلدة. كيف انشقَّت عنه الأرض؟ ومضى يقترب منه حتى أخفى عنه الطريقَ والسماء، وحملق أيوب فيه دونَ أن ينبس وهو يعاني قساوةَ الوحدة، وصاح المخبِر بصوت كالسوط: ماذا يُضحِكك يا مجرم؟
فانكمش أيوب فوق الكرسي مُغمغِمًا: لم أضحك.
فصاح وهو يُقرِّب منه وجهَه: تضرب المأمور ثم تضحك؟
فمدَّ أيوب ذراعَيه، كأنما ليتَّقي الشر، وقال: معاذ الله .. أنا لم أبرح مكاني.
– فاهمني أعمى يا ابن الحيَّة؟
ولطمه لطمةً شديدة طرحَته أرضًا، وأطاحَت بطربوشه عشرين مترًا. تأوَّه أيوب دونَ أن يحاول النهوض، ولكن المخبِر شدَّه من رباط رقبته حتى احتقن وجهُه، ثم قام وهو يَترنَّح، وقال بصوت منكسِر: حرام .. والله ما تركتُ مكاني طول الوقت.
– اخرس .. عيني لم تَتحوَّل عنك لحظة.
وصفعه مرةً أخرى، وأخرَج صفَّارته ونفخ فيها، وجاءت قوةٌ من الجنود، فأشار إلى أيوب قائلًا: اقبضوا على المجرم الذي ضرب مأموركم.
ودوَّى انفجارٌ شديد فتجمَّدوا في أماكنهم، وقال جندي: صوت قنبلة.
وأرهفوا السمعَ صامتين، ثم أفاقوا من دهشتهم، فقبضوا على أيوب وهو يصيح بأعلى صوته: أنا بريء .. لم أضرب أحدًا، ولم أتحرَّك من مكاني.
وساقوه إلى القسم، ثم أدخلوه حجرةَ المأمور، وأدى المخبر التحية، وقال: الجاني يا فندم.
وهتف أيوب: حرام عليك، أنا بريء.
وسأل المأمور المخبِر، وهو يحدج أيوب بنظرةٍ قاسية: أين قبضتَ عليه؟
– لحقت به في ميدان عابدين، جريتُ وراءه دون أن أرفع عيني عنه، قاوَمَ مقاوَمةً شديدة، ولكنني ارتميت عليه حتى أسعَفني الجنود.
واستمرَّ المأمور في طعنه بنظرته، ثم قال بحنق: تضربني يا كلب!
وهتف أيوب يائسًا: أقسم بالله …
ولكنَّه لطَمه لطمةً أسكَتَته، ثم أشار إلى المخبر إشارةً خاصة، وهو يقول: لا تترك به أثرًا يُمكِن أن تراه النيابة.
أحنى المخبِر رأسه إحناءةَ الفاهم، ودفع أيوب إلى الخارج، ودعا بمُعاوِنيه فأوثقوا يدَيه وراء ظهره، وانهالوا على وجهه بأكُفِّهم وهو يصرخ من العذاب، حتى سقط مَغْشيًّا عليه.
وأفاق، فوجد نفسه مطروحًا على أريكة خشبية في نطاقٍ من الجنود، وجذبه المخبِر من ذراعه، فاستجاب في إعياء وذهول، وسِيق إلى حجرة المأمور، وأُجلِس هذه المرةَ أمامَ مجموعةٍ من الرسميين في ملابسَ مدنية، وهو يشعر بأن وجهه مُنتفِخ حتى ليُوشِك أن يملأ الحجرة، وكلُّ موضع في جسده وروحه انهار انهيارًا، وسأله مَن ظنَّه رئيسَهم: أنت مُستعِد للتحقيق؟
فقال باستسلام: أنا بريء.
وطلب أن يشرب، فجِيء له بكوب، وسأله المحقِّق عن اسمه، فأجاب: أيوب حسن طمارة.
– عملك؟
– كاتب بالدفترخانة.
– عمرك؟
– ثلاثون عامًا.
– رآك الجنود والمخبِرون.
فصاح مُقاطِعًا: أنا بريء، وحقِّ كتاب الله بريء.
قال الرجل بحزم: أجِب على أسئلتي دونَ ضوضاء.
– لم أفعل شيئًا، ولا أدري لماذا جِيء بي إلى هنا.
– أَجمَعَ الشهودُ على أنك أنت الذي ألقيتَ القنبلةَ أمام المحكمة المختلطة!
لم يَفقَه شيئًا، إنهم مجانين أو مساطيل، وقال مُكذِّبًا أُذنَيه: لم أغادر الكرسيَّ أمام دكان محسن الكوَّاء، ولم ألمس المأمور.
– إنك تهذي، وهذا سيُعقِّد الأمورَ في وجهك.
– ولم أفعل شيئًا.
– أنت الذي ألقيتَ القنبلة!
قنبلة! .. حضرتك تقول قنبلة؟!
– عشراتٌ من الجنود والمخبِرين رَأَوك بأعيُنهم.
ضرب جبهتَه بكفه، وصاح: لا أفهم شيئًا مما تقول.
– كلامي واضح جدًّا، مثل فِعْلتك الشنعاء.
– يا حضرة البك، أنا لم يُقبَض عليَّ بتهمةِ إلقاء قنبلة، لقد قبَض المخبِر عليَّ بلا سبب، ثم أَلصَق بي ظلمًا وعدوانًا تهمةَ الاعتداء على حضرة المأمور.
– اعترف، فالاعتراف في صالحك، وإذا اعترفتَ بمَن دفعك إلى الجريمة، فلن تندم.
فهتف أيوب بصوتٍ محشرج: يا ناس حرام عليكم، أنا رجلٌ مسكين لم أَعتَدِ في حياتي على أحد، اسألوا عم محسن الكوَّاء.
– اعترِف ولن تندم.
وقال رجل يجلس إلى يمين المحقِّق: نحن نعرف الذين وراءَك، سنَذكُر لك أسماءَهم ونُطلِعك على صورهم لتتأكَّد من صِدق كلامنا، وأنت مسكين حقًّا، ولا شكَّ أنهم غرَّروا بك، لم تكن في أيديهم سوى لعبةٍ لعبوا بها بسفالة، وسوف يخفِّف ذلك من ذنبك، سيجعله لا شيء، ولكن يجب أن تعترف.
– أعترف! .. ولكنني لم أضرب المأمور.
– من أين أتيتَ بالقنبلة؟
– يا رب السموات والأرض …
– إذن، فأنت لا تريد أن تَعترِف!
– أعترف بماذا؟ .. أَلَا تخافون الله؟
– احذَرِ العنادَ العقيم.
نظر إلى الوجوه المحدِّقة فيه، فرآها سورًا صلدًا يسدُّ أبوابَ الرحمة والأمل، وخطر له خاطرُ يأسٍ في أعماقِ مِحْنته، فقال: أتريدون حقًّا أن أعترف؟
فعكسَت أعيُنُهم اهتمامًا كاد أن يكون ودًّا، وقال المحقِّق: تَكلَّم يا أيوب.
فقال بصوتٍ منخفض: أعترِف بأنني مسطول.
فحلَّ محلَّ الاهتمام غيظٌ وحنق: أَتَهزأ بنا؟
– ربع قرش في معدتي، وبيني وبينكم الطبيب الشرعي.
– إنك تحرق مستقبلَك.
– أنا مسطول، ككلِّ يوم، هل سمعتم عن مسطولٍ ألقى قنبلة؟
– حيلة صبيانية للهرب.
– أنا أيضًا مُدمِن، ولم أضرب المأمور أو أُلقِي قنبلة؟!
– حذارِ يا أيوب.
– لماذا؟! .. لماذا؟! .. عمري ما شغلتُ نفسي بسياسة، ولا بدستور ٩٣٠ أو دستور ٩٢٣، ولا هتفتُ مرةً واحدة، هاتوا الطبيب الشرعي.
– طاوِعني واعترف، والأسماءُ تحت يدك والصور.
– صدِّقوني لا عملَ لي في الدنيا إلا حِفظِ الوثائق القديمة، واستحلاب ربعِ قرشٍ كلَّ يوم. هاتوا الطبيبَ الشرعي، واسألوا الناسَ جميعًا.
•••
وانقضى عام قبل أن يرجع أيوب مرةً أخرى إلى دكانِ عم محسن الكوَّاء، وُجِّهت إليه تهمةُ إلقاءِ قنبلة أمام المحكمة المختلطة، نُشِرت صورته في الجرائد، عدَّه الشعب بطلًا فدائيًّا. تقدَّمَ للدفاع عنه نخبةٌ من كبار المحامين. حكَمَت المحكمةُ ببراءته، ودوَّت القاعة بالهتاف، ولما عاد إلى دكان الكوَّاء تَعانَقا عِناقًا حارًّا طويلًا، ثم اتخذ مجلسَه المعتاد أمام الدكان، وقال محسن تحيةً ومودة: عندي صنفٌ يا هوه!
فضحك أيوب، وقال: مضى عام بلا كيف حتى نسيتُه.
– آنَ لك أن تَتذكَّر.
فلم ينبس بكلمة، فقال محسن بدهشة: الله يجحمهم! .. لقد تَغيَّرت حتى ما أكاد أعرفك يا أيوب أفندي.
فابتسم دونَ أن يتكلم، فقال الآخر مشجِّعًا: ولكنَّ كثيرين يحبُّونك اليومَ ويُعظِّمونك!
فضحك ضحكة بريئة سعيدة، فاستطرد عم محسن: ولا يُصدِّق أحدٌ بأنك مُدمِن، ولكنهم يؤمنون بأنك ضربتَ المأمور وألقيتَ القنبلة.
فقال بفخار: كانت المُحاكَمة قنبلة!
فتساءَل محسن بارتياب: وماذا تنوي بعد ذلك؟
فتَفكَّر الرجل قليلًا، ثم قال: أشار عليَّ بعضهم بأن أرشِّح نفسي في الانتخابات القادمة!
نظر محسن نحوَه بذهول، وقال: لكنهم يعرفون صاحبَ القنبلة!
– ولو! .. قالوا إنني رفضتُ أن أشترك في تلفيقِ تهمةٍ ضدَّ أحد منهم.
– ولكنك لا تهتمُّ بشيءٍ في هذه الدنيا؟!
فقال وهو يبتسم: لقد تَزوَّجتُ الاهتمامَ في المجلس الاحتياطي والمحكمة.