الخلاء
لتَكُن معركة حامية وحشية، وَلْتَشفِ غليلَ عشرين عامًا من التصبُّر والتربُّص والانتظار. قدح وجه الرجل شررًا وهو يحيط به الأعوان، وامتدَّت جموعهم خلفه قابضين على العِصِي ذواتِ العُقَد، كل عُقْدة تُنذِر بحفرِ ثغرةٍ في العظام، وقد انخرط في أحضان الموكب حَمَلةُ المقاطف المملوءة أحجارًا وزلطًا. تَقدَّم الرجال في طريق الجبل المُقفِر بعزائم مُتوثِّبة للقتال، جاءك الويل يا شرداحة. وبين آونةٍ وأخرى يَتطلَّع زبالٌ أو ترابيٌّ إلى الموكب الغريب مركِّزًا بصره على الرجل الذي يحتلُّ القلبَ في استطلاعٍ ودهشة وإنكار، يتساءلون عن الفتوة الذي لم يَرَه من قبلُ أحد، سوف تعرفونه وتحفظونه عن ظهرِ قلبٍ يا ذباب الخليقة. وألقَت الشمسُ المائلة على اللاثاتِ المُزركَشة أشعةً حارة، ودار هواءٌ خماسينيٌّ مجنون، فلَفَح الوجوه، ونفخ في الجو اكفهرارًا ومقتًا، ومال أحدُ الأعوان إلى أُذن الرجل، وسأله: معلم شرشارة، هل تقع شرداحة على طريق الجبل؟
– كلا، علينا أن نخترق إليها حيَّ الجوَّالة.
– سيطير خبرُنا إليها فيَستعِدُّ عدوُّكَ.
عبس وجه شرشارة، وهو يقول: عز المطلوب، فالغَدرُ يُحقِّق النصر، ولكنه لا يَشفي الغليل.
غليل عشرين عامًا في المنفى، بعيدًا عن القاهرة الساهرة، وفي مَجاهِل الميناء بالإسكندرية، ولا أمَلَ لك في الحياة إلا الانتقام. الأكل والشرب والنقود والنساء والسماء والأرض غرقت في عماء، وانحصر الإحساس في التحفُّز الأليم، ولا فكرةَ تخطر إلا عن الانتقام، لا حب ولا استقرار ولا إبقاء على ثروة، ضاع كل شيء في الاستعداد لليوم الرهيب. هكذا ذابت زهرة العمر في أتون الحنق والحقد والألم، لم تَهنَأ بتفوُّقِكَ المتمهِّل الأكيد بين عمال الميناء، لم تجنِ ثمرةً حقيقية من انتصارك على الجعافرة في معارك كوم الدكَّة. ما كان أسهل أن تعيش فتوةً مُهابًا، وأن تتخذ من الإسكندرية موطنًا يدوي تحت سمائه اسمُ شرشارة، ولكن عينَك الدامية لم تَرَ من الوجود إلا شرداحة بطُرقها الضيِّقة، وحاراتها المتفرِّعة الصاعدة، وفتوَّتها الجبَّار البغيض لهلوبة. الويل .. الويل.
انتهى طريق الجبل المقفِر عند البوابة، فمرق منها الموكبُ إلى حيِّ الجوَّالة المزدحم، وصاح شرشارة بلهجةٍ آمِرة حادة كضربِ الفأس في الحجر: لا كلامَ مع أحدٍ ولا جواب.
أوسَع المارة للموكب، واشرأبَّت إليه الأعناق من الحوانيت والمشربيَّات، وتطلَّعوا إلى القائد الجديد، ثم شاع الاضطراب والخوف، وقال صاحبه محذرًا: سيظنون أننا نَقصدهم بسُوء!
قلَّب شرشارة عينَيه في الوجوه الشاحبة، وقال بصوت مسموع: يا رجال، لكم منَّا السلام.
انفرجَت الأسارير، وارتفعَت الأصوات بالتحيات، وإذا به يقول مخاطبًا القوم، وهو يلحظ صاحبَه بنظرةٍ ذات معنى: نحن قاصِدون شرداحة!
ولوَّح بعصاه المُخِيفة وهو يتقدَّم في طريقه. ما زالوا يَتطلَّعون إليك باستغراب، كأنك لم تُولد في هذا الحي، في صميم شرداحة، ولكن لا ذِكْر يَبقى إلا للقَتَلة والمجرمين. شاب في العشرين، عامل في السرجة، هوايتُه لعب البلي تحت شجرة التوت، يتيم، حتى مَرقَده لا يجده إلا في السرجة صدقة من عم زهرة صاحبها، وأول مرة حمل الزيت الحار إلى بيت لهلوبة، صفَعَه هذا على قفاه، تلك كانت تحيتَه. وزينب ما كان أجملها! لولا جبَّار شرداحة لبقيَت زوجتَكَ منذ عشرين عامًا. كان بوسعه أن يطلب يدَها من قبل أن تطلبها أنت، ولكنها لم تحلُ في عينَيه إلا ليلة الزفَّة، وتحطَّمت الكلوبات، وفرَّ المُطرِب، وتكسَّرت آلاتُ الطرب، وخُطِفت أنتَ كأنك وعاء أو قطعة من أثاث. لم تكن ضعيفًا ولا جبانًا، ولكن المقاوَمة كانت فوق طاقتِك، ورُمِي بك تحت قدمَيْه، وأحدقت بك عشراتُ الأقدام.
وضحك ضحكة كريهة، وقال متهكِّمًا: أهلًا بعريس الزيت الحار!
تمزَّقَ الجلباب الجديد، وفُقِدت اللاثة، وسُرِقت بقيةُ تحويشة العمر، وقلت: أنا من شرداحة يا معلم، كلنا رجالك وفي حِماك.
فصفَعَه على قفاه معلِنًا عطفَه، وخاطَبَ رجالَه قائلًا في سخرية: أي مُعامَلة يا أنذال؟!
– أنا خدَّامك يا معلم، ولكن دَعْني أذهب.
– العروس في انتظارِك؟
– نعم يا سيد الحي، وأريد نقودي، أما الجلباب فالعوض على الله.
قبض على قُصَّتك وجذَبك منها، وقال بلهجة جديدة جادة ومُرعِبة: شرشارة!
– أمرك يا معلم؟
– طلِّق!
– ماذا؟
– أقول لك طلِّق، طلِّق عروسك، الآن.
– لكن …
– هي جميلة، ولكنَّ الحياةَ أجمل!
– كتبتُ كتابَها العصر.
– وتكتب طلاقَها في الليل، وخيرُ البر عاجِلُه!
ندَّت تأوُّهاتٌ يائسة، وركَلَه ركلةً قاسية، وفي ثوانٍ جرَّدَه من ثيابه الممزَّقة. انطرح أرضًا على أثر ضربة في الرقبة، وانهال عليه بخيزرانة حتى أُغمِي عليه، وغرز وجهَه في نقرةٍ مليئة ببول فرس، وعاد يقول: طلِّق!
بكى من الألم والقَهر والذُّل، ولكنه لم يعترض بكلمة، وقال الآخَر بلهجةِ عطفٍ ساخرة: لن يُطالِبك أحد بمؤخَّر الصداق.
فهزَّه رجلٌ من الأعوان بعنف قائلًا: احمد ربنا، واشكر سيدك!
الألم والهوان والعروس الضائعة، وها هي روائحُ العطارة بالجوَّالة تُرجِعك إلى الماضي أكثر مما أرجعَتك العودةُ الحقيقية. الملاعب القديمة، ووجهُ زينب الذي أحبَبْتَه مُذ كانت في العاشرة، وطوال العشرين عامًا لم يتحرَّك بغير الحقد قلبُك. قبل ذلك لم يعرف إلا الحب واللهو، وبعد قليل، فلن أتحسَّر على ضياع ما ضاع من عُمر، عندما أطرحُك يا لهلوبة تحت قدميَّ، وأقول لك «طلِّق» .. بذلك أستردُّ عشرين عامًا مفقودة في الجحيم، وأتعزَّى عن مالي الذي بعثرتَه على هذه العصابة، المال الذي دبَّرته بالشقاء والجهد والسرقة والنهب والتعرُّض للمهالك.
ولما لاح عن بُعدٍ قريبٍ القبوَ المُفضِي إلى شرداحة، الْتَفَت إلى رجاله قائلًا: احملوا على الأعوان، ودَعُوا لي الرجل، ولا تمسُّوا بسُوءٍ أحدًا من غير هؤلاء.
لم يُداخِله شكٌّ في أن نبأ غزوتِه قد سبقه إلى شرداحة، وأنه عما قليل سيقف أمامَ لهلوبة وجهًا لوجه، ولم يَعُد يَفصله عن هدفه إلا قبوٌ قصير. تَقدَّمهم في حَذَر، ولكنه لم يصادف داخل القبو أحدًا، واندفعوا مرةً واحدة وهم يشدُّون على عِصِيهم، ويُطلِقون صرخاتٍ مرعبة، ولكنهم وجدوا الطريق خاليًا، لاذ الناس بالبيوت والحوانيت، وامتدَّ طريق شرداحة مُقفرًا حتى الخلاء الذي يحدُّه من ناحية الصحراء، وهمس صاحبه في أُذنه: مكيدة! .. مكيدة وسيدي أبو العباس!
فقال شرشارة باستغراب: لهلوبة لا يستعمل المكائد!
وبأعلى صوته صاح: لهلوبة .. اظهر يا جبان!
ولكن لم يُجبِه أحد، ولم يخرج إلى الطريق أحد، نظر فيما أمامه بترقُّب وذهول وهو يَتلقى تيارًا من الغبار الخانق الحار، كيف يُفرِغ شحنةَ عشرين عامًا من الغضب والحقد؟! ورأى باب السرجة القصير المقوَّس المغلَق، فمضى إليه في حذَر، وطرَقَه بعصا، حتى جاءه صوتٌ مرتعشُ النبرة، وهو يهتف في ضراعة: الأمان!
فصاح بظفر: عم زهرة! تعالَ ولكَ الأمان.
ظهر وجه العجوز من كوَّةٍ في الجدار أعلى من الباب، ورمى ببصرٍ زائغ كليل.
– لا تخف، لا أحد يريد لك السوء، ألم تَتذكَّرني يا رجل؟!
نظر العجوز إليه طويلًا، ثم تساءل في حيرة: مَن أنت يحفظك الله؟
– أنسيت صبيَّكَ شرشارة؟
اتَّسعَت العينان الغائمتان، ثم صاح: شرشارة؟! وكتاب الله هو شرشارة ولا أحدَ غيره!
وسرعان ما فتح الباب، وهرع إليه فاتحًا ذراعَيْه في ترحيبٍ ظاهر وخوفٍ باطن فتَعانَقا، وصبر شرشارة حتى انتهى، ثم سأله: أين لهلوبة؟ ما له لم يَجِئ للدفاع عن حيِّه؟
– لهلوبة!
– أين فتَّوتُكم الجبان؟
شهق العجوز رافعًا رأسَه عن رقبةٍ نحيلة معروقة، ثم قال: ألم تَدرِ يا بني؟ لهلوبة مات من زمان!
صرخ شرشارة من أعماق صدره، وهو يترنح تحت ضربة مجهولة: لا!
– هي الحقيقة يا بني.
بصوتٍ أقوى وأفظع من الأول: لا .. لا يا مخرِّف!
قال العجوز وهو يتراجع خطوةً في خوف: لكنه مات وشبع موتًا.
تَراخَت ذراعاه، وتهدَّمت قامتُه، فعاد العجوز يقول: منذ خمسة أعوام أو أكثر.
آه! ما بال جميع الكائنات تختفي ولا يبقى إلا الغبار!
– صدِّقني لقد مات، دُعي إلى وليمة في بيتِ أخته، فأكل الكسكسي، ثم تَسمَّم هو وكثيرون من أعوانه، ولم يَنجُ منهم أحد.
آه! إنه يتنفس بصعوبة كأن الهواءَ استحال طوبًا. وهو يَغوص في أعماق الأرض ولا يدري ماذا بقي منه فوق سطحها. وحدج زهرةً بنظرةٍ ثقيلة خابية وتمتم: إذن مات لهلوبة؟
– وتَفرَّقت البقية من أعوانه، إذ سهل على الناس طردهم.
– لم يَبقَ منهم أحد؟
– ولا واحد والحمد لله.
وصاحَ فجأةً بصوتٍ كالرعد: لهلوبة .. يا جبان .. لماذا متَّ يا جبان؟!
انذعر العجوز من عنفِ صوته، فتوسَّل إليه قائلًا: هوِّن عليك ووحِّد الله.
همَّ بالتحوُّل إلى أصحابه في حركةٍ مُتهاوية، ولكنه تَوقَّف في فتور، وعاد يسأل: وماذا تعرف عن زينب؟
تساءل العجوز في حيرة: زينب؟!
– يا عجوز، أنسيتَ العروس التي أجبَرَني على تطليقها ليلةَ دُخلتها؟
– آه .. نعم .. هي اليومَ بيَّاعةُ بيضٍ في عطفة الجحش!
نظر إلى رجاله في انكسارٍ وهزيمة، العصابة التي استنفدت عمرَه ومالَه وصبرَه، ها هو العمى يَهَبها للعدم، وقال بضجر: انتظروني عند الجبل.
تجمَّد نظره تجاهَهم وهم يختفون داخل القبو رجلًا في إثر رجل، هل سيلحق بهم؟ متى يلحق بهم، ولماذا؟! وهل يرجع من طريق الجوَّالة أو من طريق الخلاء؟ ولكن زينب، أجل زينب. من أجلها احترقَت عشرون عامًا من العمر، أمن أجلها حقًّا؟! لن تصل إليها فوق جبَّار منهزم كما رسمت، مات ولا جدوى من نبشِ القبور، ما أفظعَ الفراغ! وها هي في دكانها. هي هي دون غيرها، مَن كان يَتصوَّر لقاءً كهذا اللقاءِ الفاتر الغامض الخجلان! وجلس على مقعدٍ في قهوة صغيرة في حجم زنزانة، وراح يَرقب الدكانَ الغاصَّ بالزبائن، ها هي امرأةٌ غريبة ممتلئة لحمًا وخبرة، وقد أنضجَت الأعوامُ قَسَماتِها الساذجة، مُلتفَّة بالسواد من الرأس حتى القدمَين، ولكن وجهَها متشبِّث بقسطٍ وافر من الوسامة، وهي تُساوِم وتُناضِل، وتُلاطِف وتُخاصِم، كامرأةِ سوقٍ لا يمكن أن يُستهان بها، ها هي إن أردت، وبلا معركة، بلا كرامة أيضًا. فاتَك إلى الأبد أن تقف فوق صدرِ لهلوبة وأن تأمره بالطلاق. ما أفظعَ الفراغ! ولم يحوِّل عينَيه عنها لحظةً واحدة، وانهمرَت عليه الذكريات في غرابة وحزن وحيرة قاتلة، ولا فكرةَ عنده عما سيفعل، كم آمَن بأنها كلُّ شيء في الحياة، ولكنْ أين هي؟!
وهبَط المغيب كآخِر العمر، وذهب الزبائن تِباعًا، وجلست في النهاية على مقعدٍ قصير من القشِّ المجدول، وراحت تدخِّن سيجارة، قرَّر أن يُلقِي بنفسه بين يدَيها هربًا من حيرته، وقف حيالها وهو يقول: مساء الخير يا معلمة.
فرفعَت إليه عينَين مكحولتَين مُستطلِعة، ولم تعرفه، فتابَعت دخانَ سيجارتها متمتمة: طلباتك؟
– لا طلبَ لي.
أعادت النظر بشيء من الاهتمام المفاجئ، فتَلاقيا في نظرةٍ ثابتة، ارتفع حاجباها وانحرف جانبٌ فيها في شبه ابتسامة.
– هو أنا!
– شرشارة!
– هو نفسه، ولكن بعد عشرين سنة!
– عمر طويل.
– كالمرض.
– حمدًا لله على سلامتك، أين كنتَ؟
– في بلاد الله.
– عمل وأهل وأبناء؟
– لا شيء.
– وأخيرًا رجعتَ إلى شرداحة.
– عودة الخيبة.
الْتَمعَت في عينَيها نظرةُ ارتياب وتساؤل، فقال بغضب: سبَقني الموت!
تمتمت في غير ما ارتياح: كلُّ شيءٍ مضى وانقضى.
– دُفِن معه الأمل.
– كلُّ شيءٍ مضى وانقضى.
وتبادلا نظرةً طويلة، ثم سألها: وكيف حالكِ؟
أشارت إلى مقاطف البيض، وقالت: كما ترى، معدن!
بعد تردُّد: ألَمْ … ألَمْ تتزوَّجي؟
– كبر الأولاد والبنات.
جوابٌ لا يعني شيئًا، واعتذارٌ واهٍ كأنه مصيدة، ما جدوى العودة قبل أن تستردَّ الكرامةَ الضائعة؟ أَلَا ما أفظع الفراغ! وأشارت إلى مقعدٍ خالٍ في زاوية الدكان، وقالت: تَفضَّل.
نغمة ناعمة كأيام زمان، ولكن لم يَبقَ إلا الغبار، قال: في فرصةٍ أخرى.
وتردَّد في حيرةٍ مُعذِّبة ثم صافَحَها وذهب. لن تتكرر الفرصة. هكذا وجدتَ نفسك قبل عشرين سنة، ولكن الأمل لم يَكُن قد قُبر، وكره فكرةَ الذهاب إلى الجبل من طريق الجوَّالة، كره أن يرى الناس أو أن يَرَوه، وكان ثمة طريقُ الخلاء، فمضى نحو الخلاء.