فردوس
كلُّ شيء يتحرَّك بلا ضابط، والجدران على الجانبَين تتموَّج. لا غرابةَ في ذلك، ولكن الغريب حقًّا هو تهافُت الأضواء التي كاد يبتلعها الظلام، وأغربُ من كل شيء ذلك الصمت — أو ما يشبه الصمت — كأن النوم يلفُّ الطريق، إما أن الذاكرة خدَّاعة كاذبة تختلِق ما لا أصلَ له، وإما أن الدنيا تتغيَّر بقوةٍ لا ترحم الذكريات. على ذاك لم يَخطر له التراجُع على بال، ولم يَفْتر حنينُه؛ حنينه إلى فترة من العمر ذهبت إلى غير عودة، ولعن من الأعماق إحساسًا مُلحًّا لم يُعْنَ بتسميته، ولكن أليس التغيُّر أفدحَ مما تَصوَّر؟! ما معنى وقوف سيارات النقل هنا وهناك؟ أين المقاهي الكثيرة والحانات؟ وعلى أيِّ ضوء تَخطِر النساءُ بحليهن الزائفة وملابسهن المتهتِّكة؟ تكلَّم يا طريق السرور والحزن، لا تقف متجهِّمًا كأنك لا تعرفني، ها هي البواكي على الجانبَين، ولكنها لا تنطوي على ضوء يُذكر، ولا منظر، ولا صوت! ماذا جرى؟ وها هو السُّلَّم الصاعد إلى الدرب، ولكن أين العسكري؟ ولا حنجرة تُغنِّي ولا وتر يعزف ولا شتمة واحدة، والصيدلي العجوز السيئ السمعة ودكَّان كل شيء لزوم الشيء أين؟ لا نكتة، لا صرخة، لا معركة ولا تهديد بمعركة، لا قدم تزلُّ ولا استغاثة، لا سحنة غريبة ولا أحدَ يقيء، لا أحد يرقص ولا أحد يحاول الانتحار، لا خلافَ على الحساب، ولا نشَّال ولا نصَّاب ولا قوَّاد، لا عصا ارتفعت ولا كرسي طار في الهواء، لا يوجد إلا سيارات النقل والحوانيت المغلَقة، والظلام الشامل وبِضعة فوانيسَ متباعدة.
عند مطلع الدرب، رأى قهوة صغيرة فتحوَّل نحوها كالمندفع، لعلها النقطة الوحيدة التي يلتقي عندها الماضي والحاضر. جلس في نفس المكان، ربما على نفس المقعد، ولكنْ واضحٌ أنَّ صبيَّ القهوة وجهٌ جديد، وكذلك المعلم صاحبها، لم يَرَ من مجلسه شيئًا يستحق الذكر، وثمةَ شيءٌ غامض في الجو كالنذير، وقال للصبي الذي مَثَل بين يدَيه: أين أهل الحي؟
فأجاب الغلام الذي توقَّع سؤالًا آخر: في بيوتهم.
– لا يوجد أحدٌ في الطريق، ولا توجد أنوار؟
دارى الغلام ابتسامة، فقال الرجل لنفسه إنه قد أفرط، وإنَّ منظره ولا شكَّ مثيرٌ للغاية. وسأله الغلام: ماذا تحب أن تشرب؟
– واحد كونياك.
لم يَعُد في وسع الغلام إخفاءُ ابتسامته، ولبث متحيرًا.
– واحد كونياك من غير مَزَّة.
– قهوة .. شاي .. قرفة .. جوزة.
– قلت واحد كونياك.
– لا يوجد.
– لكني شربته هنا مرات ومرات.
– غير مُصرَّح بها في الأحياء البلدية.
هذا الغلام أبله أو أن رأسه هو يَتطوَّر تطورًا شاذًّا.
– ومَن مطرب القهوة؟
– أي مطرب؟ .. لا مطربَ للقهوة.
أشار له أن يذهب. ثَمةَ سرٌّ سينجلي عن قريب، وأراد أن يناقش صاحبَ القهوة، ولكن ظهرت أولُ امرأة في الطريق، جاءت من ناحية السُّلَّم ملفوفةً في مِلاءتها، سافرةَ الوجه، فانتزعته من هواجسه. هي نقطة الالتقاء الحقيقية لا القهوة الخَرِبة، وثمةَ امرأةٌ واحدة تمشي بمِلاءتها في الحي كله. فردوس، فردوس دون غيرها من نساء الحي، ولما اقتربَت ابتسم إليها. هَمَّ بدعوتها لمُجالَسته، ولكنها مضَت داخل الدرب دون أن تُعِيره التفاتةً تصاحبها دقَّات كعبها العالي فوق البلاط. لعلَّها لم تَرَه، لا يمكن أن تنسى العِشْرة الطويلة والسرور والحزن، والأحاديث التي لا تنتهي حتى مطلع الفجر. وغادر القهوة ليتبعها على الأثر، ومالت نحوَ ثالثِ باب، فدفعَته بيدها ودخلت. أوسَعَ خُطاه ثم دخل وراءَها.
جعل يقترب منها في الطرقة، في جوٍّ تغشاه الظلمة، لولا بصيصٌ من النور يترامى إليه من الدرب خلال الباب الموارب، التفتَت مُتسائِلة: مَن؟
أجاب بثقة: أنا.
فسألَت بحِدة وحذَر: مَن أنت؟
– صاحب هذا الصوت، أَلَا تذكرين؟
– كلا.
– فردوس.
– اذهب.
– فردوس.
– فردوس في عينك يا قليل الحيا!
فضحك قائلًا: هذه هي فردوس، إني أعرف ألاعيبَك.
ومد يده ليمسك بساعدها، فأفلتَت منه وهي تصرخ غاضبة، ثم هَوَت على وجهه بقبضتها. توقَّف منزعجًا، وهروَلت أقدامٌ فوق السُّلم. وتَلاطَمت الجدران بزمجرة ولغط، ثم تجلَّت أوجه غاضبة على ضوء مصباح تحمله امرأة، وقال في جفول: ماذا جرى؟ .. أنا زبون!
أُحِيط به، وانهالت عليه الصفعات: لص!
– دَعُوني أتكلم.
– تكلَّم يا جبان.
– أنا زبون.
– زبون! .. مَن قال إن بيتنا قهوة؟!
وانهالت عليه الأكُفُّ حتى صرخ، وأمسكوا عن ضربه مَلِيًّا، وهم يقرِّبون المصباح من وجهه مُستطلِعين.
– أفندي!
– عجوز!
– سكران!
توسَّل قائلًا: لنتفاهم بلا ضرب.
– ماذا جاء بكَ إلى هنا؟
– زبون والله .. ومستعد أن أدفع إلى آخِر مليم!
وانهالت عليه اللطمات بشدة حتى سقَط تحت الأقدام، وحال أحدهم دون الاستمرار في ضربه؛ خشيةَ أن يموت، ثم جرى لاستدعاء البوليس. تُرِك مُلقى فوق أرض تربة وهو يغمغم: الله يسامحك يا فردوس!
ووقف الجميع أمام ضابط القسم، أدلَتِ المرأةُ والرجال بأقوالهم، وسأله الضابط: ما أقوالك؟
أطلَّ الوجه النحيل المتجعِّد المتورِّم في هيئةٍ زريَّة، وقد انبسطت صلعته مكان الطربوش المفقود، وتَدلَّى البابيون من بنيقة القميص الممزَّق، وتَلطَّخت جاكتته السوداء بالجير والتراب، وتَراقَص شِدْقاه حول فمٍ أثرم، وقال بصوت مُتعَب: أقوالهم دليل عليهم، شَهِدوا بالاعتداء عليَّ بلا سبب، إني أُطالِب بكشفٍ طبي عاجل.
– إنك سكران لحد الموت.
– هذا شأني ما دمت لم أعتدِ على أحد.
– ولكنك اعتديتَ على السيدة!
– بل ذهبتُ وراءها إلى البيت كما تَقْضي الأصول!
– الأصول؟
– نعم، كأي رجل.
– بأي حق؟
– الحق المشروع، وأنت سيد العارفين.
– تَكلَّم ولا تُضِع وقتي!
– طلبتها وفي نيتي أن أدفع لها أجْرَها، فانهالوا عليَّ ضربًا.
– أتعترف بذلك؟
– طبعًا، لست لصًّا ولا نصَّابًا، ولكنني زبون قديم.
– زبون؟!
– نعم، ولا أطلب ذلك لِلَّهْو أو الفجور، ولكنني أقدِّم للمجتمع خدمةً مشكورة!
– ما شاء الله!
– إني أدرس أحوالَ النساء بالحي، وخدماتي مُقدَّرة ومشكورة.
– مَن كلَّفَك بذلك؟
– واجبٌ إنساني تَطوَّعتُ له بلا تكاليف.
– لا تَتوهَّم أنك تخدع أحدًا بسُكْرك الفاضح.
ابتسم الرجل ابتسامةً بلهاء، ضرب كفًّا بكف، أجال بصرًا زائغًا مُتعَبًا في الوجوه، ثم تهاوى مُغمى عليه.
•••
فتح عينَيْه، فوجد نفسه مستلقيًا فوق سرير في حجرة صغيرة ناصعة البياض، ذات رائحة طيِّبة. ومضت دقائق قبل أن يعرف أنه هو هو، وأنه في مكان. ودخل رجل لم يَرَه من قبل، ولكنه ذو وقار وطابع رسمي. قال إنه المأمور، فنظر إليه باستغراب، وقال إنه يعرفه من قديم، ويَذكر نشاطَه مُذْ كان يَكتب في الجرائد والمجلات.
– الحق أنني كنتُ من قرائك المغرَمين.
تمتم الرجل، وهو يَتحسَّس جبينه وفكَّيْه: فرصة طيِّبة.
– عرفتك في القسم وأنت مُغمى عليك، فأمرتُ لك بالإسعافات الضرورية، أرجو أن تكون أحسن.
– أظن ذلك، ولكن لا فكرةَ عندي عما جرى.
– لذلك قصة مُؤسِفة، ستَتذكَّرها في حينها.
تجلَّت في عينيه نظرةٌ ممتعضة، فقال المأمور: دَعْني أولًا أتلو عليك المحضر.
– المحضر؟
تلا عليه المحضر بأناةٍ ووضوح، تابَعَه مقطِّبًا ذاهلًا. أجل! شيء كذاك الجحيم قد لفحه على نحوٍ ما، وسأله المأمور: كيف حدَثَ ذلك؟
تمتم بارتباك وحزن: لا أدري.
– ثابت أنك كنتَ في حالِ سُكرٍ بيِّن، ولكنَّ هذا لا يكفي.
لم ينبس.
– وقد شكَّ الضابط فيما هو أخطر من السُّكْر، واقترح عليَّ عملَ تحليلٍ للمعدة.
– لا.
– لم يحصل.
– لا أدري كيف أشكرك.
ابتسم المأمور، وقال: كنتُ من المتابعين لدراساتك القيِّمة، ولكن كيف حدث ذلك؟
تأوَّهَ الرجل قائلًا: واضح أنني فقدتُ عقلي تمامًا.
– ولكنك اعتديتَ على امرأة في بيتها، وتلك جريمةٌ مزدوجة.
– لا أصدِّق!
– وسنجد مصاعبَ حقيقية في محاوَلة التفاهم مع المرأة وأهلها.
– يا له من مصيرٍ أسود!
– حادِث خرافي، أرجو ألَّا يَتسرَّب إلى الصحافة.
تنهَّد الرجل لدى ذِكْر الصحافة، قال إنه كان من أعلامها قبل الاعتزال، قبل أن يعتزلها منذ خمسة عشر عامًا. رجع إلى قريته كهلًا، جفَّت به بواعثُ النشاط. عاش في خمولٍ دهرًا، ثم تاقَت نفسُه إلى زيارة القاهرة. ذهب إلى تافرنا كالأيام الخالية، ثم ساقته قدماه كالعادة إلى الدَّرْب إياه.
– ولكنك أولُ مَن يَعلم بأنه لم يَعُد حيًّا للبِغاء، وأولُ مَن يَعلم متى أُلغِي البِغاء.
– غاب عني ذلك تمامًا وأنا فاقد الوعي.
– وكان ما كان.
– وكان ما كان!
ضحك المأمور بروح مُطمئنة لن تَتوانى عن مساعدته، وجعل يُنوِّه بكتابه الضخم عن البِغاء والبغايا، فقال الرجل: كانت جولةً رائعة، وزرتُ من أجل تأليفه بلدانًا كثيرة في الشرق والغرب، كان دائرةَ معارف.
– وكنتَ تُطالِب بإلغاء البِغاء، والعناية الإنسانية بالبغايا!
– وعندما وقع الإلغاء، تَوَّجت حياتي بالنصر، وأقام لي الزملاء حفلَ تكريمٍ في شبارد.
– أجل، كأني أذكر ذلك، ولكن لماذا هجرتَ الصحافة؟
– كان البِغاءُ المشكلةَ الجوهرية التي كرَّستُ لها قلمي؛ تاريخه وأشكاله وضحاياه وجميع ما يتَّصِل به، وجعلتُ من إلغائه هدفي، فلمَّا تحقَّق، ولما شبعتُ من النصر، وضح لي أنه لم يَعُد لي شيءٌ يثير اهتمامي!
– ولكنَّ قلمك … أعني أنَّ البِغاء ليس إلا مشكلة من مشكلاتٍ لا حصْرَ لها.
– لم يَعُد لي قلم، مات ميتةً غريبة، وتمزَّقَت الأسباب بيني وبين الأشياء.
– الحق أني …
ولكنه قاطَعَه في ضجر: لقد وقَع الإلغاء على البِغاء وعليَّ في آنٍ، ذهبنا معًا، أصبحتُ غيرَ ذي موضوع، وبلا عمل ولا حماس ولا هدف.
تبادَلا نظرة، ثم استطرد: رجعت إلى قريتي، وسرعان ما ابتلعني النسيان.
وتبادَلا نظرةً أطول، ثم ابتسم المأمور قائلًا: كان الحي ضمن منطقتي وأنا ملازم، وكنت أراك كثيرًا في قهوة العربي!
– ذاك كان بعض عملي.
– ولكنك … أعني … كنتَ تمرح وتلعب.
– أجل، كنت القلب الذي يُصغي إلى أنَّاتهنَّ في الهزيع الأخير من الليل.
وخُيِّل إليه أن المأمور يجد حرَجًا في الإفضاء بما لديه من ذكريات، فقال: كأننا جزء من الشرِّ الذي نحارِبه!
ومدَّ يده للمأمور، فأعطاه يده، فشدَّ عليها ممتنًّا وهو يقول: أرجو — بفضلك — أن أعود إلى قريتي مَصُونًا، ولن أغادرها ما حييت.