أبناء للبيع
مدير مكتبي الأستاذ سمير توحيد أخذ على عاتقه مسئولية أن يكون خط الدفاع الأول عن أعصابي، فهو يستقبل الأخبار ويفرزها ويقرر الطريقة المناسبة لإبلاغي بها، وغالبًا ما تكون ملامح وجهه وصوته ووقفته القريبة من المكتب، أو البعيدة عنه، هي محطة الإنذار الأولى بالنسبة لي، والتي أتخذ استعداداتي للمواجهة طبقًا لمؤشراتها.
في تلك المرة فشل الأستاذ سمير في الإيحاء لي بما يريد، أو فشلت أنا في استقبال رسالته، فرأى أن يقذف بالخبر في وجهي مباشرة: منذ أسبوع اتصل بي رجل كان يصرُّ على مقابلتكم شخصيًّا، فأخبرته أن جدول مواعيدكم لا يسمح بذلك في الوقت الحالي، وأننا سوف نقدم له كل مساعدةٍ ممكنةٍ إن كان له مطلبٌ معين.
– ولماذا تذكرت أمره الآن بعد مرور أسبوع؟
– تكررت محاولاته أربع مرات خلال الأسبوع الماضي، تغاضيت عن الأمر فكثيرًا ما نستقبل مثل تلك الاتصالات، إلى أن قال اليوم شيئًا كان ينبغي أن أتوقف عنده، وأن أبلغك به على الفور.
قلت: هذه المقدمة الطويلة لا توحي بخير.
– ذكر هذا الشخص أن كريم ما زال حيًّا، وأنه يعرف مكانه.
سألته: كريم من؟
– ابن سيادتك.
جاء أوتوبيس المدرسة في موعده، وهبط كريم من المركبة تصطحبه المشرفة التي سلمته يدًا بيد إلى بواب العمارة، اتصل البواب بالمنزل كي يخبر أمه بعودة كريم كما اعتاد في كل مرة، ولكن أحدًا لم يرد على التليفون. كان المصعد معطلًا، فتحامل الرجل على نفسه وصعد إلى الشقة في الطابق السادس، دق جرس الباب عدة مرات، ولا أحد يجيب، ظن أنه لا يوجد أحد بالمنزل، فهبط السلم وعاد إلى جلسته على مقعده الخشبي في مدخل العمارة، وأجلس كريم إلى جانبه.
نادرًا ما كان كريم يمكث أكثر من ربع الساعة مع البواب في انتظار أمه، ورغم هذا فقد كان يستقبلها باكيًا ومعاتبًا، في هذه المرة طال انتظارُه حتى بدأ يشعر بالخوف، فأخذ يبكي ويعلو صراخه ويرفض كل ما يُقدم إليه من حيلٍ لإلهائه. تجمع بعض الجيران يتساءلون عما يحدث، واهتدى أحدهم إلى أنه من الأصوب أن يتصل بي على الفور، وعندما أبلغوا كريم أنني في الطريق إليه صمت بعد عناء، وعاد إلى جلسته بجوار البواب.
المسافة التي كانت تفصل بين منزلي ومقر عملي كانت طويلة، وكان الوقت وقت الذروة، فحاولت الإفلات من الشوارع الرئيسية المزدحمة واللجوء إلى طرقٍ فرعيةٍ بديلة، ومع هذا وصلت بعد أكثر من ساعة.
وفقًا لما أخبرني به جاري في التليفون، فالأمر بسيط، هكذا ظننت، سوف يهدأ كريم بمجرد رؤيتي، فأحتضنه وأداعبه ونصعد سويًّا إلى منزلنا، ولن أنسى أن أشكر كل من اهتم بالأمر، لكن ما حدث هو أنني أبصرت حشدًا من الناس يسد باب العمارة، وآخرين يتجمَّعون على الطوار المقابل يراقبون ما يحدث في الناحية الأخرى. انقبض صدري، وأوقفت السيارة كيفما اتفق، وهبطت منها مسرعًا واتجهت صوب مدخل العمارة. أسرع البعض يلتفون حولي، لم أفهم ما قالوه، لكن أياديهم التي ربتت على كتفي مستني كصواعق من نار، فاندفعت أشق طريقي بينهم حتى بلغت البوابة. جالت عيناي سريعًا في المكان فلم أجد كريم ولا البواب أيضًا.
روى لي أحد جيراني ما حدث: أفاق البواب من غفوةٍ قصيرة فلم يجد كريم يجلس إلى جواره على المقعد، فانتفض وظل يجري يمينًا ويسارًا لكنه لم يعثر عليه، سأل المارة والعاملين في المحال المجاورة فلم يظفر بإجابة مفيدة، أسرع يرتقي درجات السلم وقد تقطعت أنفاسه حتى بلغ سطح العمارة، ولا أثر للطفل. عاد يدق الجرس ثم ظل يهوي بقبضتيه على باب الشقة، ولم يُجِبه أحد.
انفرجت أساريري للحظة، ربما صعد كريم إلى والدته في غفلة من البواب، لكن الخوف عاد يتملَّكني سريعًا، هل من المعقول أن طرقة رقيقة بيد كريم على باب الشقة أيقظت زوجتي، بينما فشلت كل محاولات البواب؟! المعتاد أنها لا تبرح المنزل في مثل هذا الوقت، فكيف لم تستيقظ مع كل هذه الجلبة؟ صعدت مسرعًا ولحق بي بعض الجيران، فتحت الباب فوجدتها قد سقطت على الأرض والدماء تسيل من رأسها. ماذا حل بها هي الأخرى؟ دارت بي الدنيا، فارتميت على كرسي مجاور.
لا أدري من الذي أحضر الطبيب، سألته، أجاب: «غيبوبة سكر داهمتها، فخارت قواها وفقدت الوعي.»
عندما أفاقت زوجتي لمحت في عينيها الحيرة والدهشة؛ فقد كان عدد المحيطين بسريرها يفوق كل توقع. جالت بعينيها في الحجرة ثم جلسَتْ تسأل عن ابنها. أخفينا عنها الخبر حتى لا تزداد حالتها الصحية سوءًا، وأخبرتها جارة لنا، كما اتفقنا، أنها أبقت على كريم وسط أبنائها كي لا يراها على هذه الحالة، ويبدو ساعتها أنها صدقت ما قيل.
خرجت وصحبني أخي وشقيق زوجتي طاهر لنبدأ رحلة البحث عن كريم، وفي الطريق أُبْلِغت أن زوجتي علمت بحقيقة ما حدث، وأنها نُقلت إلى المستشفى في حالة سيئة. وكأن المصائب يستدعي بعضها بعضًا.
عندما رأتني أخذت تلطم خديها وتردد: أنا السبب في ضياع كريم.
قلت: لا تحملي نفسكِ ذنبًا لم تقترفيه، كنتِ في غيبوبة وكدتِ تفقدين حياتك.
– سوف أقتل نفسي إذا لم تعثر عليه.
طرقت كل الأبواب؛ الشرطة والصحافة والإذاعة والتليفزيون وشيوخ الحارات، ورصدت مكافأة كبيرة لمن يعثر على كريم. وقادني اليأس إلى أوكار البلطجية واللصوص، وقبلت أعتاب السحرة والمشعوذين وقارئي الطالع. أنفقت الكثير ولم أكن أبالي؛ فلقد فقدت أعز ما أملك. كان طاهر، شقيق زوجتي، خير معين لي في مأساتي، فصلاته متعددة ومعارفه منتشرون أينما ذهبت، من المكاتب الوثيرة إلى كهوف الشياطين وغياهب السجون.
مرت أيامنا ثقيلة كئيبة، يداوي النسيان جرحًا، وينكأ الحزن جرحًا آخر، وإخفاقنا في العثور على كريم يسلمنا لليأس، وأملنا في رحمة الله يملؤُنا بالإيمان بأن المستحيل يمكن تحقيقه.
بلغ بي الإعياء والحزن حدًّا جعلني أتمنى لو عجل الله بقضائه فاسترحت. تدهورت صحة زوجتي ولم تُفلح كل جهود الأطباء في شفائها، مالت إلى العزلة، لا تخرج عن صمتها إلا لتبكي وتتضرع إلى الله أن يعفو عنها ويعيد إليها ولدها، أهملتْ شئونها الخاصة وأهملتْ شئون بيتها وأهملتْني، حتى أصبح تدبير أمورنا المعيشية أملًا بعيد المنال. تركتني أتحمل وحدي ما لا أطيق؛ حزني على ولدي، وخيبة أملي لإخفاقي في استعادته، وتعثُّري في العمل، ومشقة المعيشة، ومزاجي الكئيب، وعقلي المشتت، وشقائي مع شريكة عمري. لا أنكر أنني فكرت في تركها، ولولا أنني خشيت لوم كريم ما تراجعت عمَّا اعتزمته مرارًا.
وأتَتْ رحمة ربِّك دون قصدٍ منا وعلى غير انتظار، أخبرها الطبيب أنها تنتظر طفلًا، فعادَت الحياة تنبت في بيتنا المقفر.
دعوت الله سرًّا أن يرزقني بولد، فرزقنا بثلاث بنات، فحمدت الله على نعمته راضيًا بنصيبي. أما زوجتي فقد أفصحت لي عن شوقها لإنجاب ولد، وأنها لن تكف عن الإنجاب حتى يأتي. واجهتها: كأنكِ تُعاندين إرادة الله!
صدمتها كلماتي، وكأن معناها لم يرد بخاطرها من قبل. بكت طويلًا، ثم نهضت فتوضأت وصلت. قالت: أريد أن أحج إلى بيت الله الحرام هذا العام.
اليأس أهون على النفس من أملٍ يصعب تحقيقه، والجرح الذي ينزف بعد أن التأم قد لا يشفى أبدًا. من الصعب جدًّا أن أصدق أن ولدي سوف يعود إلينا بعد كل هذه المدة، كيف يكون وقع هذا الخبر على أسرتي؟ قد يكون هينًا على بناتي الثلاث فلم يسبق لهن مجرد رؤية كريم، ولكن كيف يكون وقعه على زوجتي؛ أمه؟ لقد كنت في شكٍّ كبيرٍ حين فقدَت ولدها أنها سوف تعود إلى رشدها يومًا ما، وظننت أنها أوشكت أن تذهب ضحيةً لحزنها على فَقْده وإحساسها بالذنب.
ما أدراني أن الشخص الذي اتصل بمكتبي كان جادًّا فيما يقول، وأن كريم ما زال على قيد الحياة فعلًا ويمكنني الوصول إليه؟ لماذا ظل ذلك الشخص صامتًا طوال خمسة وعشرين عامًا؟ وما الذي دفعه الآن للإفصاح عما أخفاه؟ لم أجد خيرًا من شقيق زوجتي طاهر ألتمس عنده المشورة.
تعجب طاهر، ونصحني بألَّا أُخبر أسرتي بالأمر، وأن عليَّ أن أتريث قبل الإقدام على أي خطوة. قال إنه لا بد من مقابلة ذلك الرجل لنستشف نواياه؛ فربما كان أحد الأشقياء وقد علم بأمر اختفاء كريم بمحض الصدفة فسعى لابتزازي ليس إلا. لاحظ طاهر أن معرفة الرجل باسمي ومقر عملي رغم السنوات الطويلة التي مرت، تعني أنه على صلة ما بي، وقد يكون هذا الشخص أقرب إلينا مما نتصوَّر.
كأنَّنا كنا على موعد، فما إن فرغت من الاطلاع على الأوراق الموضوعة أمامي، واسترخيت في مقعدي وأغمضت عيني وأخذت شهيقًا عميقًا، حتى دخل مدير مكتبي وأشار نحو التليفون وأومأ برأسه يؤكد توقُّعي. رفعت السماعة وأشرت لسمير توحيد بالجلوس، حولت صوت المكالمة إلى الميكروفون، كنت أريد شاهدًا على ما يجري. أصغى سمير لكل ما قيل ونصحني بأن أبلغ الشرطة على الفور.
مراوغة الرجل وتحوُّطه الشديد لكل كلمة، جعلاني على يقينٍ أنه مجرم محترف. لم يُجِب على أي سؤال، وأنذرني بألَّا أغامر بحياة ابني وأبلغ الشرطة، وطلب أن أذهب إليه بمفردي ومعي عشرة آلاف جنيه، هي مقدم الأتعاب كما قال، تصبح بعد ذلك مائة ألف عندما أرى كريم.
رأى طاهر أن أمثال هذا الرجل لا يردعهم شيء، وربما كان صادقًا في قوله بأنه قد وجد كريم، فلا يتورع عن إيذائه إن أنا أبلغت الشرطة. رجوته أن يذهب معي، فقال إن من الأفضل أن يكون بعيدًا عن أيدي هؤلاء، حتى إذا ما استشعر خطرًا يهددني، وجد الفرصة كي يتصرَّف.
تبعني طاهر بسيارته، وعندما بلغت المكان الذي سألتقي فيه بالرجل، أوقفت سيارتي، فتخطاني طاهر وواصل سيره حتى غاب عن ناظري. كان عليَّ أن أترك السيارة وأستكمل الطريق سيرًا على الأقدام، فالحواري والأزقة هناك لا تسمح بمرور السيارات.
كان الوقت ليلًا، ولا تكاد تقع عيناك على أي كائن حي حتى يختفي وسط عشش الصفيح التي تتزاحم في بقع متناثرة، ويعلو بعضها فوق بعض كأكوام القمامة. واصلت سيري على غير هدى فقد كنت على ثقة بأن هناك أحدًا بانتظاري. أوقفني ثلاثة شبان أكره أن أسرد وصفهم. سألوني عن سبب تواجدي في المكان، فأجبت بما أوصى به الرجل الذي اتصل بي: أبحث عن المعلم شحاتة البرنس.
فحصوني من رأسي إلى قدمي، ولا أدري عن أي شيء كانوا يبحثون. سألني أحدهم عما يربطني بشحاتة، لم أجب خشية إفشاء السر، فصفعني الشاب الثاني على وجهي، وانشغل الثالث بإفراغ جيوبي مما فيها، ثم وضعوا شيئًا يشبه المنديل على عيني، وجروني كما تجر البهائم خلفهم إلى حيث لا أعلم.
عندما توقفوا، ركلني شخص ما فأوقعني على الأرض وانقطع تنفُّسي للحظات، لعنت كريم، وأمه، وطاهر، وبناتي الثلاث، وسمير توحيد، واليوم الذي جئت فيه إلى هذا العالم.
نزعوا المنديل عن عيني، فأبصرت أمامي شابًّا قصير القامة مكتنز الجسم، ليس بين ملامح وجهه ما يميزه عن المكان وساكنيه إلا آثار جرح غائر يمتد من جبهته إلى ذقنه. سألني: ماذا تريد من شحاتة البرنس؟
لم أرد، وكأنني لم أتعلَّم الدرس بعد، ركلني في ساقي فصرخت. استعطفته: أنا في مثل سن والدك. صحتي لا تتحمل هذه المعاملة.
لعن أبي وأباه، وببرودٍ كرَّر: ماذا تريد من شحاتة البرنس؟
سريعًا أجبت هذه المرة: قال إنه سوف يدلني على ابني المفقود منذ سنوات.
– كم طلب منك؟
أجبته. ابتسم ساخرًا، وأمر من حوله بإحضار البرنس على الفور. ثم جلس وأخرج من جيبه زجاجة خمر وسكب بعضًا مما فيها في فمه، ومد يده بالزجاجة إليَّ، أقسمت بالله أني لا أقرب الخمر، فسحبها وأعادها إلى جيبه.
أتى البرنس يهرول، فقبَّل يد الشاب وركع على الأرض يستجديه العفو، أوسعه الشاب ضربًا حتى سقط على الأرض والدماء تفور من فمه وأنفه.
قال الشاب: حذرتك أن تلعب بغير إذني.
حانت من البرنس التفاتة نحوي، فاتسعت عيناه وهتف: مدحت باشا أبو الفدا!
ومضت بذاكرتي صورة شبيهة به. أمعنت النظر إليه. سألني الشاب: أتعرفه؟
– نعم، عم شحاتة، صاحب الكشك المجاور لمنزلي. لم أشاهده منذ سنوات.
تقدم شحاتة نحوي ككلبٍ يلهث، وأشار إلى الشاب القصير القامة: هذا هو ابنك. المعلم بيومي التلت. كريم!
بعد أن قضى شحاتة البرنس مدة عقوبته في السجن، منحته الحكومة ترخيصًا بكشك لعله يكون مصدرًا لرزقه الحلال، لكنه كان أكثر فسادًا من أن ينصلح حاله. اعتاد كريم أن أصحبه أنا أو أمه لشراء ما يحلو له من ذلك الكشك؛ لهذا فقد ذهب بمفرده في ذلك اليوم المشئوم يطلب بعض الحلوى من شحاتة الذي لاحظ أن الطفل بمفرده، فاختطفه لعله يحصل على فدية كبيرة من أهله ميسوري الحال، إلا أنه خشي من نفوذ والده الموظف الكبير، فعدل عن الفكرة وباع الطفل لأحد المجرمين الذي درَّب كريم على الشحاذة والسرقة وغيرها من الأنشطة المنحرفة، فبرع فيها وفرض سطوته على من حوله.
علَّل شحاتة البرنس إبلاغي بأمر كريم بعد كل هذه السنوات، بأنه أراد أن يفعل خيرًا قبل أن يلقى ربه! ولا بأس عنده أن يكسب من توبته تلك بعض المال يستعين به في أخريات أيامه.
ظل بيومي التلت صامتًا ساكنًا يستمع لرواية شحاتة حتى فرغ منها، ثم نهض وانقضَّ عليه وظل يكيل له الضربات حتى سقط على الأرض دون حَراك، ولا أدري إن كان قد فارق الحياة أم لا، فقد أمر بيومي رجاله فحملوه إلى الخارج.
مرت هذه الوقائع أمام عيني وكأنني أشاهد رواية لا دور لي فيها، لم ألمح كريم ابني الذي أعرفه فيما يجري ويقال هنا ولو لمرة واحدة، بيومي التلت أقصاه تمامًا عن المشهد. لم تعاودني ذكريات اللحظات الأولى التي علمت فيها باختفائه، ولا ما عانته أمه من آلام، ولا مشاهد طفولته السعيدة وهو ما زال يعيش بيننا. كانت مشاعري تختلج بعنفٍ تجاه ما يدور وما أسمع، لا أدري إن كنت مندهشًا، أم خائفًا، أم محبطًا، فقط كنت أدعو الله أن ينجيني من يد هذا البلطجي الشرس القبيح الخلقة.
خلَّصني الله من لعنةٍ فرحتُ أبحث أنا عنها، أبحث عن مجرم تطارده الشرطة، عن شَوْهٍ تعف العين عن النظر إليه، عن منحل لا دين له ولا ملة ولا خلق، عن عار يلطخ سمعتنا. أهذا من بكتْه أمه حتى جف الدمع في مآقيها؟ أهذا سند أخواته وحارسهم؟ أهذا فخري في الحياة وذكراي بعد موتي؟ لم أجرم في حقه، فلماذا أدفع غاليًا ثمن إجرامه؟
فتح بيومي حافظة نقودي وأخرج منها ورقة مالية قذف بها إليَّ: تكفيك هذه لأجرة التاكسي.
علق أحد صبيانه: سيارته الملاكي بانتظاره.
ابتسم: قد أصبحت سيارتي منذ الآن. أين الرخصة؟
أجبته: في حافظة النقود، والمفاتيح معكم أيضًا.
– لتذهب الآن وتخبرهم أن يستعدوا لاستقبالي غدًا.
استعطفته أن يرجئ أمر عودته للمنزل حتى نتأكد أنه هو ابني كريم، فأمسك برقبتي قائلًا: لا تحاول اللعب معي.
جاهدت لإقناعه.
– هو تحليل بسيط في المعمل حتى أتأكد أنك ابني، وحتى تتأكد أنت أيضًا أنك تعيش بين أهلك، هكذا تكتمل فرحتنا بعودتك. يمكنك أن تتصل بي غدًا لأخبرك عن مكان المعمل وموعد التحليل.
طال انتظار طاهر لعودتي فأوشك أن يبلغ الشرطة، أبلغته عبر هاتفي المحمول بمكاني فأتى مسرعًا، سألني عن السيارة، فرويت له كل ما حدث. قال: لعله ليس ابنك كريم.
– بل أشعر أنه ابني، لكنني لا أريد رؤيته بعد اليوم.
تعجب طاهر: أتتخلَّى عنه بهذه البساطة؟! إنك الآن تصدر حكمًا بموته وأنت تعلم أنه حي يرزق. هل كان كريم لعنة كما تقول عندما كان يعيش في كنفك؟ ماذا كنت تنتظر منه وقد تربَّى وسط هذه القمامة؟!
– إن مجرد ظهوره بيننا سوف يحطم هذه الأسرة. فقط فكِّر في مصير بنات أختك.
– ليس من حقك أن تتخذ قرار موته. لعل وَقْع الصدمة كان عنيفًا عليك. في الغد نعيد النظر في الأمر.
في موعدي تمامًا عدت من عملي، وما إن فتحت باب الشقة حتى تسمرت في مكاني، كان بيومي التلت يجلس إلى مائدة الطعام وإلى جانبه زوجتي تربت على كتفه والدموع تفيض من عينيها، وعلى أريكة مجاورة تكومت بناتي الثلاث وعلى وجوههن علامات الدهشة والهلع، وما إن أبصرْنَني حتى أسرعْنَ يلتففن حولي وتتساءل أعينهن عن حقيقة ما يشاهدن.
وكأنها تنعى فقيدها قالت زوجتي: كريم، عاد كريم. أترى؟ إنه بصحة جيدة. كيف لم تخبرني أنك قد اهتديت لمكانه؟
– كنت أنتظر الوقت المناسب، واتفقت مع بيو … مع كريم على ذلك.
ودخلت إلى حجرتي، فأسرعت زوجتي تلحق بي، تساءلت: ماذا نفعل الآن؟ خطيب ابنتك سيصل بعد قليل، والبنات، أنتركه مع البنات؟ سيسأل الناس عنه، ماذا أقول؟ على الأقل نشتري له بعض الملابس المناسبة. ماذا أقول لخطيب سلوى؟
لحقت بنا البنات.
– هل هذا هو أخونا حقًّا؟! نحن نخاف منه، إنه أشبه بالبلطجية الذين نشاهدهم في الأفلام. لا يمكن أن يقيم معنا، سوف ننتقل إلى منزل جدتنا ونعيش معها.
في سخرية قلت لزوجتي: أليس هذا ما كنت تتمنين؟!
ردت: كنت أنتظر كريم لا …
– هل ما زلت تتمسكين به؟ على أية حال لست متأكدًا أنه كريم، إنه مجرم ومن أبلغني عن مكانه مجرم أيضًا، لعلنا في كابوس. غدًا سوف أعرف نتيجة التحاليل.
عندما خرجنا إلى الصالة كان بيومي قد غادَرَ المنزل.
ظل طاهر رافضًا لما اعتزمته، فتركته ينفرد بشقيقته وبناتها، وكنت على ثقة من النتيجة. أدرك طاهر أن الأم وبناتها يبحثْنَ عن سبب منطقي، لا اختيار لهن فيه! كي يبررن نبذهن لكريم.
كان طاهر مجبرًا على تقديم العون لنا وإن ظل على موقفه، وضع خطة محكمة: سوف يذهب بيومي معي لمعمل التحاليل، وسوف تخرج النتيجة في كل الأحوال تُنكر أي صلة بيني وبينه، هكذا اتفق مع صاحب المعمل، وبالطبع لن نخبر الأم وبناتها، حتى يذرفن الدمع بسهولة وبقليل من الصدق على حبيبهن المفقود الذي لا يعرفن له مكانًا!
ناولته صورة من التقرير، وأعربت عن أسفي لكونه ليس ابني كريم. لن أنسى ما حييت نظرات عينيه حينها، أحسست أنني دهسته تحت قدمي. ناولني كريم مفاتيح السيارة قائلًا: تركتها أمام باب العمارة.
وصمت لحظات ثم أردف: أبلغ أخواتي أنني لست ذئبًا أتى ليفترسهن، وأبلغ أمي التي أبت أن تضمني لصدرها أنني لست مصابًا بالجرب.
قلت: أنا …
قاطعني كريم: أنت مجرم، ولولا أنني موقن أنك أبي لقتلتك. احذر أن أجدك في طريقي بعد اليوم.