عضة كلب
اعتدنا أن نشارك الليل أحلامه وهواجسه، وأن نستر بردائه الأسود عوراتنا وأقبح مثالبنا. وبعيدًا عن الازدحام والصخب وآلاف العيون العاطلة التي لا عمل لها إلا التطفل على شئون الآخرين، كنا نلتقي بعد الحادية عشرة مساءً ليومين أو ثلاثة من كل أسبوع، نجوب الشوارع، ونفترش الأرصفة، ونردِّد الأغاني والأشعار، ونتناقش في الفلسفة والسياسة والفن وكرة القدم، لا يثنينا عن حياة الليل هذه إلا عظائم الأمور، ولا ننعم من النوم إلا بأقل القليل.
قليلون هم سكان الليل الذين ألفوا وجودنا؛ ساكنو الشوارع من الأطفال، وبعض راكبي «التريسكل» وأصحاب عربات اليد الصغيرة وهم ينقبون بين أكوام القمامة عن رزقهم من الزجاج والبلاستيك والكرتون، ورواد «الغرز» العائدون من أطراف المدينة، وحراس الأبراج السكنية، وشِلَل من البلطجية الباحثين عن المشاكل، ورجال الأمن وقد تأكدوا بعد تجربة طويلة أننا نحافظ على النظام.
مجموعنا في المتوسط خمسة، نزيد أحيانًا وننقص أخرى تبعًا للظروف، أعمارنا تدور حول الأربعين، وأغلبنا متزوجون ولهم أطفال. وقد اعتادت أسرنا على هذا الشكل الأنيق من العبث، وربما وجدَت زوجاتنا في تغيُّبنا لوقت طويل عن المنزل راحة لهن من جدالنا الدائم وحذلقاتنا الكئيبة واهتماماتنا السمجة، وعلى أية حال كنا نعود إلى منازلنا أخف دمًا وأكثر نشاطًا وأقل إثارة للنكد.
ليالي الشتاء الباردة والطرقات الموحلة لم تكن سببًا كافيًا لكي نزهد في دنيانا شديدة الخصوصية، بل على العكس؛ فبعضنا كان يجد لذَّته في فرك يديه ورؤية بخار الماء يصعد من فمه وأنفه ومنظر حذائه وقد خاض في الوحل. وكلنا بلا استثناء كنا نجد «سندويتشات» الفول المدمس الساخنة في ليالي الشتاء لذيذةً بشكلٍ لا يوصف، وربما لهذا السبب كان عم جمعة صاحب عربة الفول أكثر الغرباء قربًا إلينا.
لا نعرف عن عم جمعة إلا القليل، فهو نادرًا ما يتحدث عن شأنه الخاص، مظهره يُخبر عن أنه تجاوز الستين من عمره، لكنه لا يحترف إسداء النصائح وصب اللعنات على الحاضر والجيل الحالي كما يفعل كبار السن، وهو أحيانًا أكثر تمردًا على الواقع وثقة في المستقبل من غالبية الشباب. لا نعرف له زوجة ولا ولدًا، ولم نسأله عن محل ميلاده أو عنوان مسكنه. توقَّف في تعليمه عند الإعدادية كما أخبرنا، ومع هذا فهو طلق اللسان يستشهد في حواراته معنا بآيات من القرآن والأحاديث النبوية. يعشق عبد الحليم وأم كلثوم، ويروقه الاستماع إلينا ونحن نردِّد أشعار نجم وفؤاد حداد، وفي عينيه تختلط الدموع بنظرة الأسى عندما يأتي ذكر جمال عبد الناصر.
عربة عم جمعة إلى جوار الجامع الكبير كانت إحدى محطاتنا الرئيسية في رحلة الليل، ولأن وقفتنا حولها كانت غالبًا ما تطول، فقد تعرفنا على بعض زبائنه، وغالبًا ما كان هذا التعارف سطحيًّا على هامش النكات والقفشات وقضم أرغفة الفول، أما لقاؤنا بسعيد قصاقيص فقد كان مختلفًا تمامًا.
كنا نهم بالانصراف عندما ألقى علينا سعيد السلام، فاستوقفنا عم جمعة معربًا عن رغبته في أن نتعرف بسعيد، ثم أشار إليه ولم يكمل حتى رأينا سعيد ينحني مبتسمًا: محسوبكم سعيد. وأكمل بالإنجليزية: «بت نوت هابي.» (وهو يعني بهذا أن اسمه سعيد لكنه ليس سعيدًا). واستفسر ضاحكًا: البعدا مش كده برضه؟
وعلَتْ ضحكاته تقلق سكينة الليل.
لاحظ عم جمعة امتعاضنا فتدخل قائلًا: الأستاذ سعيد مدرس أول الرياضيات بالمدرسة الثانوية.
عقب أحدنا متعمدًا أن يكون سمجًا: مساء الهندسة يا عم.
رد سعيد: ده تفاضل منك.
وواصل ضحكاته المتقطعة الحادة. تركنا المكان غير معقبين، وواصلنا سيرنا، وأدركنا سعيد بعد عدة أمتار، وضاحكًا أيضًا قال: أشكالكم تثير فضولي وأنا مصر على صحبتكم، لنمض سويًّا إذن. وتأبط ذراعي!
ضحكته علامة مسجلة تنطلق بنغمة واحدة، وترتسم على وجهه بنفس الملامح في كل مرة مهما تغيرت المواقف، وكأنها قناعٌ استعارَهُ من شخص آخر أو اشتراه من أحد المتاجر. كنا مُرغمين على صحبته في اليوم الأول، ثم برضانا تواعدنا على اللقاء مجددًا في اليوم التالي، وسريعًا ما ذابَت الفواصل بيننا وأصبح عضوًا في جماعتنا. قارئ جيد، لماح، ويسخر من كل شيء، يبدو بسيطًا وشديد التواضع، ناقمًا بشدة على الأثرياء لكنه ليس بشكَّاء ولا بكَّاء. يستمع أحيانًا إلى فيروز، ويمل سريعًا من مشاهدة مباريات كرة القدم. لا يتابع بانتظامٍ نشرات الأخبار والبرامج السياسية كما نفعل، ويدعي أنه غير مهتم بشئون السياسة والحكم. يطيل الإصغاء لحديث جاد ولا ينسى أبدًا أن يعقب في النهاية بكلمة إنجليزية قد تكون غير ملائمة شكلًا للموقف لكنها بإيجازٍ تُوحي برأيه في الأمر، يعقبها بضحكته المعهودة وما يجري على لسانه اللاذع الخفيف الظل. ينطق بالحكمة تارةً وعابثًا يطلق النكات تارة أخرى. أنيق في غير إسراف أناقة الشباب في أوروبا وأمريكا، وفيما عدا ملابسه فمظهره يوحي باللامبالاة والعبث؛ نظرة عينيه وشعره ولحيته ووقفته وجلسته ومشيته وحديثه وضحكاته.
تعرَّف واحد منا على زميلٍ لسعيد يعمل في نفس المدرسة، فأخبرنا بما لم يخبرنا به سعيد عن نفسه: سعيد قصاقيص زعيم الرياضيات بلا منازع، عبقري لا يدانيه في الرياضيات حتى مستشار المادة في الوزارة؛ ولذا يتجنَّب الموجهون مناقشته في المادة العلمية ويخشون من إبداء الملاحظات على أدائه، وهم لا يستريحون إليه ويقدمون عليه من هم دونه في التقارير السنوية، ويرشحون غيره للترقية. أما زملاؤه من المعلمين فهم على العكس يحبونه ولا يخجلون من طلب مشورته في الرياضيات؛ ربما لأنه ليس منافسًا لهم في الدروس الخصوصية، فهو لا يسعى إليها، وأغلب من درس له الرياضيات من التلاميذ لا يستمرون معه، فلا يبقى معه إلا النوابغ، وهم قليلون، وبعضهم أحرز مراكز متقدمة على مستوى الجمهورية في الثانوية العامة. يرفض العمل في مدارس البنات والتدريس للفتيات، ويتجنَّب تمامًا التعامل مع زميلات المهنة. يصر دائمًا ألَّا يعطي درسًا خاصًّا لتلميذ واحد بمفرده، وأيًّا كان الأجر الذي يُعرض عليه فهو يرفض بشكل قاطع أن يذهب إلى تلميذ في منزله، وقد عرضه هذا الموقف المتشدد لبعض المشاكل مع أولياء الأمور من وجهاء المال والسلطة.
ويتناقل زملاؤه حكايته الشهيرة مع المحافظ؛ فقد أرسل إليه المحافظ من يتفق معه على درس خصوصي لابنته، وبالطبع طلب منه أن يكون الدرس في فيلا سيادته، والأمر من كل الوجوه كان صادمًا للأستاذ سعيد فلم يتردَّد في الاعتذار. حذَّره البعض من مغبة هذا الرفض، وكالعادة كان هازئًا يرد: هيسخطوك يا قرد يعملوك إيه؟ ناظر! أما المحافظ فقد ظن أنه معتوه، أو هكذا يخمن البعض.
وقصاقيص سعيد هي عصا التأديب التي يقرع بها أصحاب الملايين من الموجهين الذين يسيطرون على مراكز الدروس الخصوصية. والقصاقيص جمع قصاصة من الورق، ورقة صغيرة يلتقطها سعيد عشوائيًّا من المكان الذي يوجد فيه ولو كانت ملقاة في كوم قمامة، ويخرج قلمه ويخط عليها معادلة أو مسألة رياضية يطلب من أحد التلاميذ توصيلها لغريمٍ تجرأ على التقليل من شأنه في الرياضيات، وغالبًا ما يفشل الجميع في حلها، وقصاقيص سعيد لا يرد عليها أبدًا بمثلها، هكذا علمتهم التجارب معه.
تقدم سعيد لمسابقة للترقية إلى وظيفة موجه، ربما لكي يشاكس رؤساءه فحسب، وجاءت النتيجة طبعًا في غير صالحه، فتوجَّه إلى مكتب التوجيه الفني والذي بيده قرار اختيار الأنسب للوظيفة، وأثناء اجتماع المكتب جذب سعيد أحد المقاعد وجلس في مواجهة الجمع بابتسامته المعتادة وخاطبهم: سؤال سهل وليس قصقوصة: لماذا تم استبعادي؟ دمي ثقيل أم مسألة كفاءة علمية!
أجاب كبيرهم: لا هذا ولا ذاك، أسلوب التعامل مع الزملاء والرؤساء.
مط سعيد شفتيه ثم أطلق ضحكته المميزة، وجالت عيناه في المكان، وراقته سلة القمامة، فرفعها ثم أفرغها فوق رأس الموجه العام. وهادئًا وسط دهشة المجتمعين لوَّح بيده قائلًا بالإنجليزية: «سي يو ليتر.» (أي إلى اللقاء)، وترك المكان، وأصداء ضحكاته تنسحب بطيئة في إثره.
لم يمضِ الكثير حتى توطدت علاقته بنا بل وأصبحنا نفتقده جدًّا إذا غاب، فقد أضفى علينا ربما ما كنا نسعى بالفعل إليه وننكره على أنفسنا: روح العبث. لم نعلن لحظة الصدق هذه لأحدٍ ولا لأنفسنا؛ فقد كنا في شكٍّ دائمًا من جدوى ما نفعله لأنفسنا ولمن حولنا، إننا نحوم في الفراغ كفراشات شيطانية ونظن أننا نحرث الأرض للحرية، وكان سعيد هو الذي قذف في وجهنا بالحقيقة التي أعمينا بصيرتنا عنها.
فر الناس من حرارة علب الطوب التي يسكنون فيها إلى الشوارع والميادين يستجدون نسمة هواء باردة، وامتدت جولاتهم وجلساتهم في الطرقات وعلى الأرصفة إلى أذان الفجر. لقد استعمروا مملكتنا واغتصبوا الخلاء الذي نحلق فيه، لكننا نملك رفاهية البدائل المتاحة، فاتفقنا على الفور على شراء فراغ جديد أرحب نعبث فيه كما اعتدنا. قررنا أن تكون لقاءاتنا ليلًا في المصايف المجاورة حيث البحر والهواء المنعش والمطاعم «والكافيهات» ولامبالاة المصطافين بالغير، إضافة إلى متعة السفر ليلًا على طرقات غير مزدحمة وبصحبة صديق مقرب. واعتزمنا أو كنا مجبرين على أن نخفي الأمر عن أسرنا، ومكنتنا سياراتنا الخاصة من السفر والعودة إلى المنزل في المواعيد المعتادة دون أن يلحظ أحد. واتفقنا أن أصطحب سعيد معي في سيارتي، وانطلقت أول قافلة لنا.
على غير عادته مكث سعيد صامتًا أغلب الطريق، حاولت أن أحفزه على الحديث فكان يجاملني وسريعًا ما يعود إلى صمته. بعد أن التأم شملنا قضينا بعض الوقت على الشاطئ وقد انفرجت أسارير سعيد بعض الشيء، لكن ضحكته الرنانة لم تنطلق بعد، وأمسك لسانه اللاذع عن أي تعليق واكتفى بمراقبتنا وكأنه يرانا للمرة الأولى. دعانا واحد منا إلى عشاء فاخر بأحد المطاعم على نفقته، ثم جلسنا لبعض الوقت في أحد الكافيهات، وأصر سعيد أن يتحمل فاتورة الكافيه. أنعش هذا التغيير روحنا فعدنا إلى منازلنا أسعد حالًا بعد أن تواعدنا على اللقاء التالي.
تخلَّف سعيد عن صحبتنا لفترة طويلة حتى استبد بنا القلق عليه، لم يكن أحد منا يعرف عنوان سكنه، فاعتزمت المرور على عم جمعة، وهو تصرف أكثر لياقة من الذهاب إلى مقر عمله في المدرسة.
استقبلني عم جمعة عاتبًا: سعيد رجل طيب، ماذا حدث بينكم؟
أخبرته أنه تغيب عن لقاءاتنا دون سبب، وأنني أتيت لمقابلته عساه يعرف عنوان مسكنه، تردد الرجل قليلًا ثم قال: هو يسكن معي.
كان رده مفاجأة لي، حاولت أن أخفيَ تعجُّبي وآثرت الصمت كي أترك له ولي فرصة تأكيد الخبر أو نفيه، عم جمعة كان فطنًا بما يكفي كي يعرف ما يدور برأسي.
– سعيد ابني. إنه ليس من صلبي لكنه جزء مني وأنا جزء منه، وهو من تبقَّى لي في هذه الدنيا.
الأمر إذن لم يكن يتطلَّب رغيفًا وطبقًا من الفول أتناولهما واقفًا، فأنا في أمس الحاجة إلى سيجارة وجلسة طويلة. وجلسنا أنا وعم جمعة على إحدى درجات سلم الجامع الكبير.
مات والد سعيد وهو ما زال طفلًا في العاشرة من عمره، يحمل ذكرى أبيه وحيدًا بلا أخ ولا أخت. كان المعاش الذي تركه الأب يقيه وأمه ذل السؤال وإن لم يكفل لهما رغد العيش. بعد عامٍ واحدٍ من وفاة زوجها تزوَّجت الأرملة الناضجة بشابٍّ يصغرها بسنوات، وكأنها جلبت لابن الحادية عشرة من عمره غريمًا متحفزًا لا أبًا. كانت تتغاضى عن وحشية زوجها في التعامل مع الصبي، وكانت تتعامى عن رؤية دموع سعيد تستعطف الأمومة فيها أن ترحمه؛ فقلبها كان يقطن مكانًا أبعد كثيرًا من صدرها. أجبره زوج أمه على العمل وترك المدرسة على أن يأتيه بكل ما يحصل عليه من أجر لقاء بقائه بالمنزل، وخضع الصبي، فازدادت شهية زوج الأم لمال لا يكد لأجله وطالبه بالمزيد، ولأن سعيد كان أجيرًا فقد كان يحصل فقط على ما يرضى صاحب العمل أن يمنحه، وعندما حاول أن يجد عملًا آخر أو عملًا إضافيًّا، علم صاحب العمل بأمرِه فطرده، وطرده زوج أمه من المنزل أيضًا وكأنما وجد الفرصة السانحة لنيل مأربه. لم تعترض زوجته، ولم تراجعه في الأمر، ولم تركع أمام قدميه تستجديه العفو والرحمة، بل لم تربت حتى على كتف ابنها وهو يغادر منزله، فبصق سعيد في وجهها وانصرف.
يحكي عم جمعة أنه تعرف على سعيد في نفس اليوم الذي ترك فيه منزله. كان عم جمعة يعمل خادمًا لزاوية، وفي الوقت نفسه كان يدرب الصغار على حفظ القرآن. وفي إحدى الليالي توجه كعادته كل يوم لفتح الزاوية ورفع أذان الفجر، فوقع بصره على الصبي يرقد نائمًا أمام الباب مباشرة، أيقظه بهدوء، فانتفض سعيد من نومه مذعورًا، ربت عم جمعة على كتفه وطلب منه أن يتوضأ ليشارك الجماعة صلاة الفجر. انفض المصلون وتلكأ سعيد في الانصراف، فجلس عم جمعة قبالته يسأله برفق عن حاله.
فقد عم جمعة زوجته وأبناءه عندما انهار المنزل على من فيه، وظل يعيش وحيدًا لسنوات، حتى وجد سعيد، فأصبح منذ اليوم الأول أعز ما يملك في دنياه، وكان سعيد أوفى الناس نحو منقذه. حفظ سعيد القرآن كاملًا عن عم جمعة في وقتٍ وجيزٍ جدًّا أثار دهشته، ورأى الرجل فيه صبيًّا نابهًا ومن الظلم أن يعدَّه ليخلفه في الزاوية أو يحترف قراءة القرآن على المقابر. تفرَّغ سعيد بالكامل لمذاكرته وتقدم لامتحان الابتدائية ثم الإعدادية (منازل)، ورفض أي عون عرض عليه لمساعدته في دروس الثانوية العامة، واجتاز اختباراتها من المرة الأولى والتحق بكلية العلوم. جاءه خبر وفاة أمه فاكتفى بأن قال ممتعضًا: أراحتني. رجاه عم جمعة أن يذهب لتلقي العزاء، فأقسم ألَّا يفعل.
تفاصيل الحكاية كانت تشدُّني، لكن الأولى وقتها أن أطمئن على حاله وأعرف سبب تغيُّبه. قاطعت عم جمعة: ما الذي أغضبه منا؟
فتعجب الرجل: ظننت أنه هو الذي أغضبَكم.
رافقنا سعيد في الرحلة التالية إلى المصيف، ولاحظنا جميعًا أنه يتكلَّف في سلوكه وينتقي كلماته على غير عادته، كان يحاول جاهدًا أن يبدو كما عهدناه فبدا غريبًا جدًّا. تجاهلنا الأمر حتى لا نفسد ليلتنا وعزمنا على الذهاب لتناوُل الطعام في أحد المطاعم كما نفعل في كل لقاء، وفوجئنا بسعيد يعتذر عن مرافقتنا. واجهناه كلنا مستهجنين اعتذاره، تجاهل ما قلناه، وطلب منا أن نصطف جالسين أمامه كتلاميذ مدرسته، ففعلنا ممنين أنفسنا بفاصل فكاهي يروح عنا. وقف سعيد في مواجهتنا متعمدًا أن يكون جادًّا، وهو نادرًا ما يفعل، قال: سؤال بسيط وليس قصقوصة: لماذا يغض رجال الأمن أنظارهم عنكم؟ وأدهشنا السؤال فهو يوحي بإساءةٍ جسيمةٍ لنا، ولم يرد أحد، وانتظرناه حتى يفصح عن غرضه. أكمل وكأنه موقن أنه لن يجيب أحد: كنت أظن أن أجهزة الأمن في بلدنا غافلة عنكم، لكنني تأكدت فيما بعد أنهم يجيدون عملهم، ويدركون جيدًا ما يفعلون. إنكم أكثر ملكية من الملك، تصدعون رءوسنا بالثورة والاشتراكية والعدالة والانتصار للفقراء، بينما تعيشون في بذخٍ وتشاركون الأغنياء في سرقة نصيب الفقراء والتعالي عليهم، وتهيبون بالحكام أن يمعنوا في إفقار الناس لتطوير أدوات الإنتاج، وأن يتمادوا في إذلالهم كي ينضج وعيهم الطبقي. لا ترون حرجًا في أن تمروا إلى المستقبل فوق جثث الملايين من البؤساء!
عقب أحدنا: لا تنتظر منا أن نكون أعضاء في جمعية خيرية.
رد سعيد: ولا تنتظر أنت يا سيد لينين أن يصدقكم أحد.
علت وجهه ابتسامة ساخرة وهتف مقلدًا صوت مهرجي السيرك: هلموا الآن يا رفاق نخرج للنضال في مطعمنا الفاخر، زاد الثورة بانتظارنا.
ساد الوجوم، وما لبث أن أطلق سعيد ضحكته المعهودة وصرخ في وجوهنا بالإنجليزية: «ليرز.» (أي كذَّابون)، ولوَّح مودعًا، وانصرف، ولم يستوقفْه أحد.
مرَّت أسابيع لم نلتقِ خلالها بسعيد، كنا نأمل ألَّا تنقطع صلته بنا، وكأننا في اشتياق لجلد ذواتنا والتطهر من خطيئةٍ لا نعرف سبيلًا إلى الخلاص منها. وفي إحدى ليالي الشتاء، كنا قد بلغنا تقريبًا ميدان الجامع الكبير حيث عربة الفول وعم جمعة، حين تهادى لأسماعنا صوت نباح لمجموعة من الكلاب يعلو أحيانًا ويخفت أخرى، وفجأة اختلط نباح الكلاب بعواء متقطع، فالتفتنا إلى الخلف فأبصرنا ما لم نصدقه، كان سعيد يعدو مطاردًا جماعة من الكلاب، والكلاب تفر من أمامه مذعورة!
لمحنا سعيد فلوح من بعيد قائلًا بالإنجليزية: «هالو كومرادز.» (مرحى أيها الرفاق).
وواصل ما كان فيه، وغاب في أحد الشوارع الجانبية، ثم ظهر من جديد مستمرًّا في مطاردته، وعندما حاذانا أبطأ وهو يشير إلى الكلاب التي تلهث مبتعدة: ابن الكلب ده مزق بنطلوني الجديد ليلة أمس، كان ينوي أن يمزق لحمي أيضًا.
وعاد يعدو وجميعنا نضرب كفًّا بكف. غابت المطاردة عن أعيننا لكنها ظلَّت مستمرةً في نفس الشارع الجانبي مرةً أخرى، وكالبُلهاء أسرعنا الخُطى كي نرقب نهاية المعركة. كان الشارع الجانبي في الواقع حارة مغلقة لا منفذ لها غير مدخلها، وكان سعيد يحاصر الكلاب يمينًا ويسارًا يسد عليها منفذها الوحيد. وأخيرًا وجدناه يقفز مرتميًا فوق أحد الكلاب بعد أن حاصره في إحدى الزاويتين. كان الظلام يعوقنا عن رؤية دقائق ما يحدث، لكننا سمعنا الكلب يطلق عواء مستمرًّا، ثم وجدناه وقد أفلت من سعيد وأطلق سيقانه للريح مبتعدًا حتى اختفى عن الأنظار. نهض سعيد من على الأرض ينفض التراب عن ملابسه واتجه نحونا، ومطلقًا ضحكته المعهودة قال: قضمت أذنه. كلب.