حديقة الموت
طالب المواطنون في الدولة العالمية أن يتضمَّن دستورهم الجديد حق الإنسان في أن يقرر بنفسه متى تنتهي حياته، واعتبروه حقًّا طبيعيًّا كالحق في الطعام والشراب والعلاج والسكن والتنقل، وعلى الدولة أن توفر لمواطنيها الوسائل التي تمكنهم من تحقيق مطلبهم هذا بصورة إنسانية. وقد عكف مجلس الحكماء على دراسة هذا المطلب العام وتقنينه قبل أن يتم قبوله كأحد مواد الدستور.
رأى المشرعون أن الانتحار قرارٌ فردي، غالبًا ما يكون متعجلًا ويفتقر إلى مبررات جدية، يلجأ إليه الشخص تحت ضغط ظروف طارئة، وأنه إذا ما أُمهِلَ هذا الشخص بعض الوقت كي يعيد تقييم موقفه، فإنه سوف يعدل عن قراره، لكن شخصًا كهذا لا يصح أن يكون مواطنًا في الدولة العالمية؛ فهو ضعيف، متردد، تقوده أهواؤه، وولاؤه لنفسه لا للدولة، ومن الصواب أن يتم استبعاده.
ويشدد الحكماء على قولهم بأن «علينا ألَّا نكون أكثر تردُّدًا منه، فنمنحه فرصةً مجانيةً لمراجعة قراره، أو نستعطفه لكي يحيا. الجينات المريضة لهذا الشخص يجب ألَّا تورث لمواطنينا.»
فإما أن يتناول الشخص «حبة الجنة» كما يطلقون عليها، فيفارق العالم على أصوات الموسيقى دون أن يشعر بأي ألم، أو يعدل عن رأيه وتتعلق ذاته المريضة بالحياة، فيساق جبرًا إلى معسكرات العمل ليقضي فيها عشر سنوات. هكذا أقر مجلس الحكماء عقوبة التراجع عن قرار الموت الاختياري.
لهذه الأسباب كان اسم «ميتا زد» يبعث على الفزع، وميتا زد هو الاسم الذي أطلق على المؤسسة المسئولة عن تنفيذ قرار الموت الاختياري، إذا ما تخطَّى الشخص بوابتها الهائلة فقد ذهب في طريقٍ لا عودة منه.
تضم المؤسسة ثلاثة مبانٍ عملاقة تحيطها الأشجار العالية من كل جانب، وخلف تلك الأشجار يرتفع سورٌ شاهق أشبه بأسوار السجون في العصور القديمة. ويستطيع المارَّة أمام البوابة الرئيسية أن يشاهدوا بسهولةٍ حديقتها الغنَّاء الشاسعة ونافورتها البديعة، وكأن المؤسسة تحاول التملُّص من هويتها الكئيبة، أو أنها، كما يتندَّر المواطنون، قد صُنِعت على هذا النحو كي تغريهم بالدخول! ولهذا أطلقوا عليها اسم حديقة الموت.
في البداية أقبل الناس على الموت كما لو أنهم حُرموا من متعته لزمن طويل! وتدريجيًّا تراجَعَ الإقبال على الموت الاختياري لكنه لم ينقطع، وظلَّت معدلات الوافدين إلى حديقة الموت ثابتةً لسنوات طويلة. وصار الأمر مألوفًا حتى بات لا يلتفت إليه أحد، إلى أن نشرت إحدى الصحف إحصائية أشارت إلى أن أعداد الوافدين إلى مؤسسة ميتا زد قد هبطت فجأةً في الشهور الثلاثة الأخيرة إلى أقل من العشر، وما زالت آخذةً في التراجع.
أثار هذا الخبر فضول الصحفية أرينا، خاصَّة لأنها كانت مهتمةً بما تناثَرَ من أخبارٍ أو شائعات عن مؤسسة ميتا زد، تساءلَتْ: ما دام أن تغيرًا لم يحدث في المجتمع أغرى بعض البائسين فجأةً بالاستمرار في الحياة، وأن الموتَ ما زال هو نفس الموت، فلماذا أجفل المنتحرون من هذا الموت المريح الذي يُمنح مجانًا في ميتا زد؟
أقدمت أرينا على مغامرة لم يسبقها إليها أحد، قررت أن تدخل إلى حديقة الموت وأن تخرج منها أيضًا!
بعد ثلاثة أسابيع تقدمت نور، الصديقة المقربة إلى الصحفية أرينا، ببلاغٍ إلى الإدارة المركزية للأمن ذكرت فيه: أن صديقتها تغيَّبت منذ مدة طويلة، ولم تتمكن إدارة الأمن المحلية في المدينة من العثور عليها أو معرفة أسباب اختفائها. وقالت إن أرينا زميلةٌ لها وتعمل صحفية لدى إحدى المجلات الواسعة الانتشار، وكانت تعتزم قُبَيل اختفائها إعدادَ تحقيقٍ صحفيٍّ عن حديقة الموت، ترصد فيه مشاعر اللحظات الأخيرة لمن اتخذوا قرار الموت الاختياري، فتقدَّمَت بطلبٍ للمؤسسة المعنية ورُفض طلبها. ووجدت أرينا أن الحل الوحيد لمشكلتها هو أن تتقدَّم بطلبٍ للموت الاختياري وتعيش التجربة كاملة، وما إن تَفرُغ من مهمتها حتى تكشف عن شخصيتها الحقيقية للمسئولين هناك. وأضافت الصحفية نور أنها أقلَّت زميلتها في سيارتها الخاصة حتى بوابة ميتا زد، ولم تسمع عنها شيئًا منذ ذلك اليوم.
أخفَتْ نور الغرض الحقيقي من دخول زميلتها أرينا إلى ميتا زد كي لا تثير ضدها حفيظة المسئولين في إدارة الأمن.
كلَّفت إدارة الأمن المركزية الكابتن أديمار ببحث الموضوع، فأرسل على الفور مساعده الملازم عمرو إلى ميتا زد ليجمع كل ما يمكن من بيانات عن رواد المؤسسة خلال السنة الأخيرة، وبيانات العاملين بها، وكذلك أية معلومات عن الصحفية أرينا. أما الكابتن أديمار فقد انطلق للقاء الصحفية نور.
أكدت نور من جديد أنها أوصلت أرينا إلى بوابة ميتا زد بنفسها، وكانت كلماتها ونبرة صوتها توحيان بأنها تُحمِّل المؤسسة مسئولية اختفاء صديقتها.
سألها الكابتن أديمار: أتعتقدين أنها اختُطِفَت؟
أجابت نور: أو قُتلت، فربما توصَّلَت خلال تحقيقها الصحفي إلى رصد مخالفاتٍ تُشكِّل خطرًا على العاملين بالمؤسسة.
رد أديمار: حسكِ الصحفي قد يضخم أمورًا هي في الواقع بسيطة ومألوفة. لا تنسي أننا نتحدَّث عن مشاريع موت لبشر قد نفضوا أيديهم من الحياة كلها، وأي مخالفات تُرتكب في تنفيذ مشروع الموت لن تؤدي إلى شيء إلا إطالة الحياة! فمن نعاقب؟ وعلى أي شيء؟
ما قاله الكابتن شوَّش تفكيرها، فحديثُه منطقي، والثقة التي يتحدث بها تُجبرها على التراجع عن ظنونها، لكن نور ظلت بعد اللقاء على يقينٍ بأن هناك خطأً ما؛ ولذا فقد عقَدَت عزمها ألَّا تدع الأمر كله بيد الأمن، وعليها أن تُعيد النظر فيه معتمدةً على مهارتها الصحفية.
أكدت البيانات التي جمعها الملازم عمرو صحة الإحصاءات التي نُشرت في الصحيفة، والتي تشير إلى التناقص الملفت والمفاجئ في أعداد الوافدين على ميتا زد، وأكدت في الوقت ذاته أن المؤسسة لا تسعى لإخفاء الأمر. وكانت المفاجأة التي أثارت دهشة الكابتن أديمار أن البيانات تخلو تمامًا من ذكر أي شيء عن أرينا؛ فلا هي دخلت ميتا زد، ولا أنهَتْ حياتها، ولا أرسلت إلى معسكرات العمل، فقفزَتْ بعقلِه فرضيةٌ لا تخلو من منطق، هي أن الأسباب التي جعلت الناس يبتعدون عن المؤسسة، هي ذاتها التي تفسر سبب اختفاء أرينا، إن كانت أرينا قد دخلت ميتا زد بالفعل.
دقَّق أديمار في بيانات العاملين بالمؤسسة فلم يجد شيئًا فيها يلفت النظر، لكنه توقف عند اسم البروفسير ماريو رئيس المؤسسة؛ فالاسم بدا مألوفًا لديه، وهذا يعني أنه شخصية معروفة، فهل يستحق منصبًا متواضعًا كهذا أن يشغله شخصٌ جدير بالاعتبار! لم يكن أديمار ليتجاهل هذه الملاحظة وسط هذه الضبابية التي تكتنف مأموريته.
بعد أن جمع أديمار بعض المعلومات الأولية عن البروفسير ماريو، قرر اللجوء لأحد أساتذة الجامعة والذي يعمل في نفس تخصص ماريو.
ذكر الأستاذ الجامعي أنه عمل تحت إشراف ماريو لعدة أشهر في مركز الهندسة الوراثية، وهو عالم جليل لا يُنكر أحدٌ نبوغه، وقيل وقتها إنه يعمل في أحد المشاريع الكبرى، وكل ما يعرفه أن المشروع محاطٌ بسريةٍ تامة.
سأله أديمار: هل ما زال هذا المشروع قائمًا إلى اليوم؟
– سبق أن ذكرت لك أنني لا أعلم ما هو المشروع ولا أين تُجرى أبحاثه.
– هل تعلم أن البروفسير يرأس حاليًّا مؤسسة ميتا زد؟
– أعلم، ولا أفهم كيف لشخصيةٍ مرموقة مثله أن يقبل بوظيفة «حانوتي» متعهد لدفن الموتى!
ترك الكابتن أديمار قيادة السيارة إلى مساعده الذي استمر يدور حول سور المؤسسة ولا يدري سببًا لما يفعل، وظل الكابتن يدقِّق النظر إلى مباني ميتا زد لفترة، ثم طلب من الملازم عمرو أن يصف له مباني المؤسسة من الداخل. ذكر عمرو أن المؤسسة تضم ثلاثة مبانٍ رئيسية؛ الأول مُخصَّص للنزلاء، والثاني للشئون الإدارية، والمبنى الثالث الأضخم يضم المعامل ومراكز الأشعَّة وقاعات الفحص الطبي … وهنا قاطعه أديمار متعجبًا: أشعة وفحص طبي! أتراهم يسعَوْن للاطمئنان على صحة موتاهم!
فغر الملازم فاه: كيف فاتَتْني هذه الملاحظة؟ لقد رأيت هذا المبنى من الداخل، إنه مجهَّز تجهيزًا متطورًا جدًّا.
أكمل أديمار: إن مبانيَ المؤسسة أضخمُ بكثيرٍ جدًّا من احتياجاتها المعلنة، كما أن جيش العاملين بها ومؤهلاتهم العلمية يتعديان بكثيرٍ طبيعةَ المهمة التي تقوم بها المؤسسة.
قبل أن يتناوَل أديمار إفطاره، تم إبلاغُه بأنَّ الصحفية نور تود لقاءه بشكلٍ عاجل، فأسرع إليها. أخبرته نور أن مصدرًا، رفضت ذكر اسمه، أبلغها بأن الإدارة المحلية للأمن تلقت عشرات البلاغات التي تتهم ميتا زد بارتكاب مخالفاتٍ جسيمة، وقد رفض المصدر الكشف عن طبيعة هذه المخالفات. وذكرت نور أن كل البلاغات لم تكن تحمل أي اسم، باستثناء بلاغَيْن تحرَّت هي عنهما على أمل اللقاء بمن أرسلهما، فاكتشفت أن الأول لباحثٍ في مركز العلوم الاجتماعية ومحتجز الآن في مصحة عقلية ونفسية ومحظور زيارته، والمفاجأة أن الثاني كان وما زال إلى الآن يعمل في مؤسسة ميتا زد، وقد أنكر حينما تم سؤاله أي صلة له بالبلاغ.
بهدوئه المعتاد قال أديمار: إنكِ تُقحمين نفسكِ في أمورٍ قد تكون مصدر خطر عليك. مسموح لكٍ بالطبع بعدم الإعلان عن مصادرك، وإن كان التصريح به قد يجنبنا الكثير من المتاعب.
أدركتْ نور مقصده فهزت رأسها بالرفض، فأكمل: هذا المصدر طبقًا لروايتكِ أصبح معرضًا هو الآخر للخطر، ومن واجبنا حمايته.
قالت: لقد أبدى استعداده للإدلاء بشهادته إن تطور الأمر فوصل إلى المحكمة.
لم يجد الكابتن منفذًا يصل عبره لمعرفة هُويَّة هذا المصدر، فاختتم حديثه محذرًا نور من معاودة التدخل في سير التحقيق، لكنه تعمد أن يكون هذا التحذير أقرب للنصيحة منه إلى الأمر الواجب النفاذ.
في اليوم التالي توجَّه أديمار إلى إدارة الأمن المحلية للاطلاع على تلك البلاغات، فتلقَّى من كل المسئولين ردًّا واحدًا يفيد بأنه تم إرسال البلاغات للإدارة المركزية، وأنهم لا يعرفون أي شيء عما احتوته. أثار هذا الإجماع شكوكه، لكنه أرجأ بحث الأمر إلى حين.
كلف الملازم عمرو بمهمة مراقبة الصحفية نور، وليومين متتاليين لم يلحظ الرجل شيئًا غير عادي سوى أنها لا تذهب إلى عملها في المجلة، ولا تبرح منزلها إلا للتسوق أو للذهاب إلى المغسلة. وفي وقت متأخر من الليل في اليوم الثالث، فوجئ الملازم عمرو بأصوات صرخات عالية رجح أنها تصعد من شقتها، فأسرع بالصعود إليها، وكان غريبًا أن باب شقتها كان مفتوحًا، وعندما دخل وجدها ملقاةً على الأرض فاقدة الوعي وحولها بضعة أشياء مبعثرة، ولم تكن هناك آثار ظاهرة لجروح أو كدمات.
نُقلت الصحفية نور إلى أحد المراكز الطبية، وأفاد الأطبَّاء هناك بأنها تعاني من إجهاد عصبي حاد، وأنها سوف توضع تحت الملاحظة لعدة أيام، ومُنعت عنها الزيارة.
لم يمضِ سوى أسبوع واحد منذ آخر لقاء جمع بين الكابتن أديمار والصحفية نور، ولهذا تعجَّب أديمار من التغير الكبير الذي طرأ على نور خلال أيام قليلة فقط. عندما دخل حجرتها في المركز الطبي بصحبة أحد الأطباء، كانت نور نائمة وإلى جوارها كان يجلس رئيس تحرير المجلة التي تعمل بها. بدت نور شاحبة هزيلة، والعرق يتصبَّب من جبينها بغزارة، ومن وقتٍ لآخر كانت أطرافُها ترتجف وتفتح عينيها للحظات وسريعًا ما تغلقهما. انتظر الحضور حتى أفاقت، أو استيقظت، ونهض الطبيب يفحصها ويهمس إليها ببعض الكلمات. كانت مرهقة للغاية حتى إنها وجدت صعوبة في الجلوس على السرير فساعدها الطبيب حتى استندت إلى إحدى الوسائد. كانت شاردة ولا تستقر عيناها على شيءٍ أو أحد، واستغرقت بعض الوقت إلى أن أدركت وجود أديمار ووجود رئيس التحرير. سألها الكابتن: ماذا حدث؟
بصوت خافت ولحظات توقف وجمل مبتسرة، ذكرَت نور أن كل ما تتذكره أن صوتًا أيقظها من نومها أثناء الليل، ولم تتبين مصدر ذلك الصوت، ربما كان نداء، أو صوت ارتطام، أو شيئًا آخر. وكان من الصعب عليها أن تعود للنوم بعد أن استيقظت، فجلست إلى جهاز الحاسوب، وفُوجئت بأن كل ما حفظته على الجهاز من بياناتٍ وصورٍ وأفلام وغيرها قد تلاشى تمامًا. وعندما تفحَّصَت بريدها الإلكتروني وجدت رسالة مفادها أن المجلة قد وافقت على منحها إجازة لمدة أسبوعين، رغم أنها لم تتقدم بطلب بهذا الشأن، وقد صدق رئيس التحرير على قولها وأنكر صلة المجلة بالرسالة، وأكدت نور أن الرسالة لم تكن تحمل أي اسم أو عنوان للمرسل.
سألها: لماذا صرخت؟
تعجبت: لا أذكر أنني صرخت، ولا أعلم من الذي أتى بي إلى هنا.
توقفت لبرهة وهي شاردة، ثم أردفت: لقد رأيت … لا لا ربما كان حلمًا.
– يقولون إن باب الشقة كان مفتوحًا، هل كنت بمفردكِ في المنزل؟ هل طرق بابكِ أحد؟ هل كنت تهمين بالخروج؟
ألحَّت نور أن يستمر حديثها مع الكابتن، لكن الطبيب أصر على أن تتوقف عند هذا الحد.
اصطحب أديمار رئيس التحرير أثناء خروجهما من المركز، بادر رئيس التحرير قائلًا: حدثتني نور مرات في الأمر. ألا ترى أي علاقة بين ميتا زد وما يحدث لها الآن؟ وما حدث كذلك لزميلتها أرينا؟
– نحن لا نعرف إلى الآن ما الذي حدث لأرينا.
– وجود مجموعة من العلماء في مؤسسةٍ كتلك يثير الكثير من الأسئلة؟
لم يعقب أديمار. أردف رئيس التحرير: نفوذ العلماء في عصر الدولة العالمية يفوق بكثيرٍ ما كان للمحاربين ورجال السياسة في عصور سابقة. لقد باتوا يسيطرون على كل شيء؛ على عقل الإنسان، ووجدانه، وعلى الطبيعة والمجتمع. كاد الأمر أن يفلت من قبضة الإدارة الحاكمة.
– ماذا يريد العلماء من الموتى!
أجاب: يريدون، مثلًا، أحياء فقدوا الرغبة في الحياة يجرون عليهم تجاربهم. العلماء لا يقيمون وزنًا إلا لمنهجهم التجريبي وأغلبهم لا يبالون بالاعتبارات الأخلاقية، وهذا مكمن خطرهم على حضارتنا. وما دمنا نعتبرهم صناع الحياة، فكل شيء لديهم مبرر ومباح.
لم يكن أديمار مستريحًا لكلام رئيس التحرير، لكنه ظل لفترة يمعن التفكير فيما قال.
تفقَّد أديمار والملازم عمرو كل منشآت المؤسسة، وبينما كانا يتجولان في المبنى الضخم الخاص بالمعامل طلب أديمار مقابلة البروفسير ماريو رئيس المؤسسة، وتعجَّب عندما رأى الرجل المبجل قد تنازَلَ وأتى إليه. ظل أديمار يبدي إعجابَه بالتجهيزات المتقدمة جدًّا في المكان، وتظاهَرَ بأنه مأخوذ تمامًا بما يراه، أما ماريو فكان هادئًا باردًا يرسم ابتسامة باهتة على وجهه. فاجأه أديمار: أعتقد أن إعداد الموتى للدفن لا يحتاج إلى كل هذه التجهيزات.
ببرود وامتعاض عقب البروفسير: نحن نترك هذه المهمة الشاقة لغيرنا، ونكتفي فقط بإجراء بحوث محددة لاكتشاف العلاقة بين جيناتٍ وراثية معينة والرغبة في الموت الاختياري، بالطبع بهدفِ وَضْع حدٍّ لهذه الظاهرة.
كان رد ماريو مفحمًا، فاكتفى أديمار بقوله: على أية حال أنتم تقدمون للدولة العالمية خدمات جليلة.
ناقش أديمار خطته مع الملازم عمرو، قال: إذا افترضنا أنهم يحتجزون أشخاصًا لإجراء التجارب عليهم، فلا بد أن يكونوا قد أسقطوا أية بيانات عنهم، وهنا لن تجدي البيانات الرسمية أي نفع. إن الطريقة التي فكرت الصحفية أرينا في اتباعها هي بالفعل الأكثر جدوى. لا بد من الدخول إلى ميتا زد ومراقبة ما يدور فيها عن قرب؛ لذا فإن علينا أولًا …
قاطعه الملازم عمرو: استدعتني الإدارة المركزية. طلبوا مني العودة على وجه السرعة.
– كيف لم يبلغني أحد!
في اليوم التالي، اتصل الكابتن أديمار بالإدارة المركزية للأمن، وتعمد ألا يأتي على ذكر الملازم عمرو، وشرع في إبلاغ رئيسه بخطته. قاطعه الرجل محتدًّا: لقد تجاوزت المهمة التي كُلفت بها. أبلغتك المؤسسة رسميًّا بأن الصحفية أرينا لم تدخل ميتا زد. البحث عن المفقودين من اختصاص الأمن المحلي. مهمتك انتهَتْ، فلتعد تقريرك وتعرضه عليَّ في الغد.
بضعة أسابيع مرت بعد خروجها من المركز الطبي ولم تتمكن نور خلالها من الاتصال بالكابتن أديمار للوقوف على ما تم بشأن اختفاء صديقتها، وأخيرًا تمكنت من محادثته هاتفيًّا، قالت: أردت فقط أن أعرف ما الذي انتهى إليه بحثك في موضوع اختفاء …
قاطعها أديمار هادئًا: لم يعد من صلاحياتي الآن الحديث في هذا الأمر. لقد تم ترقيتي إلى وظيفة أخرى.
قطعت نور الاتصال دون أن تهنِّئه.
يوم أن تحدثت نور إلى الكابتن أديمار في المركز الطبي لم تكن واثقة تمامًا أن ما حدث في منزلها كان شيئًا مدبرًا، والأحداث المشابهة التي وقعت بعد ذلك اليوم داخل منزلها وخارجه جعلتها أمام احتمالين؛ إما أن هناك بالفعل من يحاول أن يبث الرعب في قلبها ويربكها، أو أنها كانت مذعورةً خشية أن يُصيبها ما أصاب صديقتها، فتواجه مصيرًا مجهولًا مخيفًا تكون فيه نهايتها. والنتيجة في الحالتين واحدة؛ فلقد استبد بها القلق وحاصرها الخوف ولعبت برأسها الوساوس، واختلط عليها الأمر فأصبحت عاجزة عن التمييز بين ما تتوهمه وما يحدث بالفعل.
بعد انتهاء إجازتها عادَت نور إلى عملها، واتجهت مباشرةً صوب مكتب رئيس التحرير، جلست في مواجهته، ابتسم الرجل ورحب بها، قالت وهي تنكس رأسها: زارتني أرينا في مسكني.
اندهش الرجل. سألها: متى؟
– ليلة أمس. أو … ربما أول أمس.
– هل عادت من ميتا زد؟
– تقول إنها لم تذهب إلى هناك على الإطلاق.
ورفعت عينيها إلى رئيس التحرير، ثم أردفت: صدقني، أنا لم أكذب. لقد أوصلتها بسيارتي إلى ميتا زد، ورأيتها تتخطَّى البوابة إلى الداخل.
– لماذا انقطعت أرينا عن العمل كل هذه المدة إذن؟
– تقول إنها لم تعد ترغب في العمل في المجلة.
– ولماذا انقطعت عن زيارتكِ أو الاتصال بكِ أيضًا؟
– تقول إنها لم تنقطع عن زيارتي.
وانفجرت نور في البكاء، ثم قالت: الحقيقة التي آتمنُك عليها يا سيدي هي أنني لست واثقة إن كنت قد رأيت أرينا منذ ذلك اليوم المشئوم أم لا.
نهض رئيس التحرير من مكتبه، وخَطا نحوها ثم ربت على كتفها.
– أنتِ في حاجةٍ إلى إجازة أخرى.
في مساء نفس اليوم كانت نور نزيلةً في أحد مراكز إعادة التأهيل النفسي.