المسامح كريم جدًّا
في الثانية بعد منتصف الليل استيقظ الحي كله على أصوات صرخات تصعد من منزل الأسطى شعبان الميكانيكي، أضيئت الأنوار وأطلت الرءوس من النوافذ والشرفات تحاول استجلاء الأمر، هُرعت بعض النساء نحو المنزل وطرقْنَ بابه، وفضل الرجال الانتظار في الخارج كي لا يهتكوا حرمة البيت، ووقف عم مصطفى أمام كشكه يضرب كفًّا بكف ويستغفر الله.
عادةً ما يعود شعبان إلى منزله قبيل الفجر، لكن الشرطة داهمت «الغرزة» ففر وبعض من كانوا بصحبته هاربين، وآثر الأسطى السلامة فقرر أن يكتفي بما دخنه من حشيش في ذلك اليوم وأن يعود إلى منزله مبكرًا عن موعده. طرق الباب عدة مرات فلم يفتح أحد، كان ضيق النفس تلك المرة فهوى بقبضته بقوة على الباب ثم أمسك حين أدرك أنه يحدث ضجيجًا يوقظ النائمين، وقرر أن يستدير حول المنزل ليطرق على نافذة حجرة النوم، فتستيقظ زوجته صباح وتفتح له الباب، وقبل أن يصل، رأى النافذة عن بعد وقد فتحت على مصراعيها وقفز منها شخص إلى الشارع وفر هاربًا.
لم يصرخ شعبان يستنفر الناس لتعقب اللص، وهو نفسه لم يبادر إلى تعقبه، بل توقف في مكانه يحاول استيعاب ما رأى «هو لص، نعم لص، ومن عساه يكون غير ذلك! إن ملامحه مألوفة بالنسبة لي، ولكن العديد من الناس متشابهون، هل أصبح طارق لصًّا؟ هل أتى ليسرق منزلي وهو صديقي؟ إنه بالتأكيد شخص آخر يشبهه.»
فكر، أيجري وراءه ليلحق به أم أن الأوان قد فات؟ كان عليه أن يتخذ قراره على الفور، فسواء كان الرجل لصًّا أو غير ذلك فهو لن يتأنى وينتظره عند ناصية الشارع. أهو أَجْبن من أن يواجهه؟ أهو أجْبن من أن يواجه حقيقة ما حدث؟ أم أن في العجلة الندامة كما يقولون، وعليه أن يتمهَّل حتى يصبح على يقين، ولكن أي يقين وقد هرب الجاني؟ هل وهنت عزيمته لأنه فكر طويلًا، أم أن عزيمته كانت خائرة فتعلل بالحكمة في تدبر الأمر؟
كان شعبان قد ابتعد عدة أمتار فقط عن منزله، منشغل البال يتقدم خطوة ويتأخر خطوة، حتى رأى عم مصطفى يقف خارج كشكه الذي ظل مفتوحًا في تلك الساعة، سأله إن كان قد شاهد أحدًا يجري منذ لحظات، أجاب الشيخ: نعم، طارق الحلاق. حاولت أن أستوقفه لمعرفة سبب تعجله فلم يلتفت، خير إن شاء الله، ماذا حدث؟
«هو طارق إذن بكل تأكيد، وهو بالتأكيد أيضًا ليس لصًّا، فلماذا أتى إلى منزلي في غيابي وفي هذا الوقت المتأخر من الليل؟ ولماذا فر هاربًا حين أتيت؟ الأمر ليس في حاجةٍ إلى فطنة، الأمر في حاجةٍ إلى رجل.»
لم يبقَ ما يبرر بقاءه في الشارع، فخَطا نحو منزله، هل يواجهها بحقيقة الأمر؟ هل ينتظر أن تعترف بجرمها وتقبل قدميه كي يغفر لها؟ وإن فعلت، فهل من الرجولة في شيءٍ أن يسامحها على خيانتها له؟ إن سامحها فقد أعطاها تصريحًا مفتوحًا لأن تتاجر بشرفه. تعجب شعبان كيف انتظر إلى الآن ولم يفعل شيئًا، كان من المفترض أن يطيش صوابه وفي سَوْرة غضبه يحمل سكينًا ويجز رقبتها ولو سجدت بين قدميه، كيف لرجلٍ مثله أن يوقن من خيانة زوجته ويظل كما هو الآن هادئًا متماسكًا، يفكِّر ويتدبر ويتقدم ويتراجع، تخطو قدماه إلى الأمام وتتراجع إرادته للخلف؟ أليس برجلٍ ككل الرجال!
طرق شعبان باب شقته ففتحت له صباح الباب وهي تتثاءب. سألته: كم الساعة الآن؟
– هل أتى أحد يسأل عني اليوم؟
أجابت: لا. سأعدُّ لك طعام العشاء.
ما الذي يسعى إليه؟ إنها الآن تسخر منه وتستخف به. «أعدت خطتها بإحكامٍ هذه العاهرة، تظاهرَت بأنها لا تستطيع النوم ما دامت ترابيس الباب مفتوحة؛ فاللصوص قادرون على فتح أي باب، وهكذا فعلوا مع قريبة لها واغتصبوها بعد أن جردوها من مصاغها. أقنعتني ألا أستخدم مفتاح الشقة حتى أمنحها الوقت الكافي لأن تخفي آثار جريمتها وتودع عشيقها عند النافذة. ماذا أنتظر منها أن تقول أو تفعل؟!»
جرى إلى المطبخ فأمسك بشعرها وانهال عليها بالصفعة تلو الأخرى، صرخت صباح، وتعالى صياحها، وارتفعت نداءات الجيران وصيحاتهم وواصلوا طَرْقهم على باب المنزل، فازداد هياجه وحرك العنف والضجيج فيه ما عجزت إرادته عن فعله، المشاجرة هي التي حثته على القتل لا الرغبة في الانتقام والثأر لشرفه، ودون أن يعمد قبض على رقبتها بقوة وأوشك أن يخنقها، رأى طفليه يقفان عند باب المطبخ يرتجفان ويصرخان، تركها شعبان وفتح باب شقته لأولئك الذين يواصلون الطرق على الباب، وكأنه هو الذي يستنجد بهم لإخراجه من موقف لا يعلم كيف ينهيه.
– ماذا حدث؟
أجابت صباح: دخلت المطبخ لأعد له العشاء فانقض عليَّ كالمجنون. اسألوه هو ماذا فعلت.
أبى شعبان في أول الأمر أن يخرج الطفلان مع صباح، أما صباح فقد اصطحبتها جارة لها إلى منزلها مؤقتًا كي لا تتفاقم الأمور، وبعد قليل استعطفه الرجال أن يسمح للطفلين بالذهاب مع أمهما رأفة بهما، فقبل.
مكثت صباح في منزل أهلها ثلاثة أسابيع لم تفصح خلالها عن حقيقة ما حدث، وظلت تتهم زوجها بالجنون، وتؤكد أنها تجهل تمامًا سبب ثورته. ولا يدري أحد إلى الآن من الذي أشاع واقعة طارق الحلاق وفراره من نافذة الشقة، حتى علم بها القاصي والداني، أما الأسطى شعبان فلم يكذب الشائعة بل اكتفى بالصمت والتجاهل.
بعد مرور شهر تقريبًا، وكما هو معتاد في حينا، تقدم أهل الخير يتوسطون للصلح بين صباح وزوجها، فشككوا في حقيقة ما رأى شعبان الذي لا ينكر أنه كان مخدرًا وقتها، وشككوا أيضًا في رواية الشيخ مصطفى فهو رجل طيب حقًّا لكنه مسن وبصره حتمًا قد أصابه الضعف، أما خطة الطوارئ التي أعدتها صباح، فلم يطلع شعبان أحدًا عليها. وأخيرًا أكد أهل الخير على أن سوء الظن لا يأتي إلا بخراب البيوت، وأن الصلح في كل الأحيان خير. قال شعبان: لكنني طلقتها ثلاثًا.
رد المصلحون: غضبك أفقدك وعيك، والطلاق في هذه الحالة لا يقع.
قبيل صلاة الجمعة التالية وقف الشيخ مصطفى يبتسم في هدوء وهو يرى شعبان خارجًا من منزله، يرتدي جلباب الصلاة الأبيض، ويتوجه إلى صالون طارق كي يحلق ذقنه.