المسلكاتي
دخلتُ مستشفى السجن أول مرة، زَكمَت أنفي رائحة غريبة، ظننتُها في البداية رائحة مرَض أو دواء، ولكني اكتشفتُ بعد فترة أن رائحة منبعثة من طبيخ يغلي في إناء فوق النار، وقد وقف يراقبها مسجون يبدو أنه كان طباخًا من قبل أن يأتي إلى السجن! ثم اكتشفتُ وانا جالس مع الدكتور أراقب منظر المستشفى الذي انقلب إلى مطبخ، أن المرضى الذين يقيمون في المستشفى يَتمتَّعون بصحة جيدة، ويرتدون ملابس فاخرة، ولديهم كل فاكهة الموسم.
وأن لهم على الطبيب دالة، بل أكثر من ذلك لهم على الطبيب سُلطة! دخل أحدهم ونظر شذرًا إلى الطبيب وقال له في جفاء: إنت لسة قاعد؟
وابتسم الدكتور ميشيل في أدب مصطنع، وقال في صوت مرتعش: أنا خارج بعد لحظة، والحاجات المطلوبة ستحضر لكم بعد قليل، وعندما رأى علامات الدهشة على وجهي، قال وعيناه تفضحان كذبه: إنت مش عارفه مين؟
وعندما هززتُ رأسي بالنفي، أجاب: دا يبقى ابن عم البيه مدير مصلحة السجون، مسجون سنتين، والبيه المدير كل عدة دقائق يتصل بمأمور السجن يسأل عن أخباره، وكان الدكتور ميشيل كاذبًا في ادعائه. فهذا الرجل كان مدير فرع لأحد البنوك في القاهرة.
ثم خطر له في لحظة تَجلٍّ أن يُهرِّب مبلغًا من المال من أجل تثبيت المكاسب الشعبية، وتدعيم المسيرة الثورية، فقد كان على علاقة وطيدة بأحد الضباط الكبار في مكتب المشير! ولم يُقَدَّر للبيه مدير البنك أن ينام في الزنزانة يومًا واحدًا على الإطلاق. دخل من باب السجن إلى المستشفى مقابِل مرتَّب شهري قدره خمسون جنيهًا للدكتور ميشيل الذي أثبت على تَذكرته الطبية أنَّه مريض بالسكر، ويعاني من احتباس في البول، وضعف عام، واشتباه في دَرن رئوي. كان كل من في السجن يعلم أن السر معروف للجميع، ومع ذلك كان لا يكف عن ترديد قصة قرابة المسجون إياه للبيه مدير المصلحة!
ومن ذلك الحين بدأت أكتشف سر مستشفى السجن … المستشفى يتكون من عنبرين، كل عنبر يحتوي على عشرين سريرًا، وليس فيها من مواصفات المستشفى إلا الاسم! فالأرضية متآكلة، والسراير منظرها يسد النفس، والأدوية تُسبِّب المرض ولا تشفيه، والممرضون كانوا في الأصل حراسًا، عجزوا عن أداء مهمة الحراسة فتحوَّلوا إلى «ملائكة» رحمة، والطبيب أعوذ بالله … كتلة من الشحم واللحم. كل ما فيه مُنبعِج ومنتَفِخ. تزوَّج من فتاة تصغره بعشرين عامًا، وثرية ومن عائلة معروفة، ثم أصيب فجأة بضعف عام، جعله شديد النَّهَم لجمع المال ولحظة مد الطبيب يده، ظلت مبسوطة على الدوام. يرتشي ابتداء من السيجارة إلى المرتب الشهري من المسجونين السِّمان! ويطلب كل صباح كشف الزيارات ليلقي نظرة عليه، ليتسوَّل غداءه من المعلمين الكبار الذين أصابهم الدور في الزيارة، وكان يُؤثِر بعض الأطعمة فيطلبها بنفسه بالتليفون من أقارب المسجونين. وكانت طلباته تبدأ بالدجاج واللحوم وتنتهي بالفلفل الأسود!
ولما كانت المستشفى مكوَّنة من عنبرين، فقد خصص الطبيب عنبرًا للمرضى المشرفين على الهلاك، وخصَّص العنبر الآخَر للمسجونين السمان، من يدفع يَقضي كل المدة بالمستشفى. ومَن يتوقَّف مرة واحدة يُطرَد شر طردة! ورغم محاولاتي العديدة لدخول المستشفى إلا أنني لم أفلح. فقد كانت مسألة دخول المستشفى — كما الحال مع المسجونين السياسيين — لا بد أن تَحظَى بموافقة الجهات العليا! ولكني تمكَّنتُ من دخول المُستشفى قبل شهرين فقط من انتهاء مدة سجني، فقد طلبت في خطاب رسمي تحويلِي إلى مستشفى القصر العيني، فسمحوا لي بدخول مستشفى السجن.
وبالرغم من قذارة المستشفى وبؤسها، فقد شعرتُ بأنني خرجتُ من جوف الكهف إلى حيث النور والهواء! فعندما يُغلِق السجن أبوابه، وتهدأ الحركة تمامًا، تدب الحياة في المستشفى وتصبح مثل خلية نحل!
كان سريري يحتل الركن الأيمن عند الباب، وكنتُ قد أويت إلى الفِراش بعد الظهر وأغفيتُ فترة، واستيقظتُ على ضجة المستشفى، وخُيِّل إليَّ في البداية أن هناك تفتيشًا للمرضى، ولكني فوجئتُ ببعض المساجين يُوقدون نارًا ويطهون لحمًا، ويُهيِّئون السَّلاطة الخضراء ويغسلون فاكهة! والبعض الآخَر ينفخ النار في كمية من الفحم ويعدون «جوزة» وبعض المعسل! وتصوَّرتُ أنني في غُرزة حشيش ولستُ في مستشفى داخل أسوار سجن.
وفجأة وقع بصري على رجل طويل القامة، عريض المنكبين، له لحية تُضفي عليه وقارًا شديدًا، وترسم مع شيخوخته الجليلة صورة للرجل الطيب الذي أوقعه سوء حظه النحس في هذا المصير!
كان الرجل يجلس على السرير، يَعبث بحبات مسبحة ثمينة. وبدَا لي من احترامات الجميع المبذولة بلا حساب للرجل الكبير، أنه أعظم شخصية في المستشفى وأنه صاحب الأمر والنهي في هذا المكان، وعندما التقَتْ نظراتنا ألقى عليَّ تحية المساء. وقال بصوت خشن: (مراحب يا سعادة البيه، إنت نورت المستشفى). ثم أمر لي بالشاي، فجاء أحد المسجونين بكوب الشاي على عجَل. ثم دعاني للعشاء على مائدته احتفالًا بقدومي للمستشفى. وقبل أن يتهيَّأ العشاء، قام الرجل وصلَّى صلاة المغرب ثم العشاء، ثم جلس طويلًا بعد صلاته يبتهل إلى الله بصوت خفيض ويتلو أدعية كثيرة. وعندما جلسنا نشرب الشاي بعد عشاء دَسم فاخر يندر وجود مثله في مثل هذا المكان! جلس الرجل يُحدِّثني في ود شديد عن حياته خارج السجن.
فهو معلم كبير من تجار المخدرات في حي البطلية. اسمه أشهر من اسم وزير الداخلية، الحاج سعد المسلكاتي، وهو يتاجر في الأفيون، ولا يتاجر في الحشيش. وقد اقتنى ثروة طائلة من تجارة الأفيون، ولديه عدة عمارات فاخرة على شاطئ النيل، وأسطول من سيارات التاكسي، وأموال سائلة بلا حساب! ولديه عدة دكاكين لبيع الدخان والسجاير؛ ذرًّا للرماد في العيون! وهو يدفع مرتبات سخية لرجال الأمن المكلفين بمكافحة المخدرات. وبالرغم من ذلك فهم يقبضون عليه أحيانًا، ولكنهم يرتكبون أخطاء فاحشة في إجراءات القبض عليه. تجعل من السهل على أي محامٍ ضليع في القانون أن يَخرج من المحكمة وفي يده الحاج سعد المسلكاتي، ولذلك لم يدخل السجن قط، رغم أنه شيخ تجار الأفيون منذ عشرات السنين!
ولكن الضربة جاءته هذه المرة من حيث لم يحتسب! كان جالسًا بعيدًا عن البطلية في منزل تاجر مخدرات صديق في حي المطرية. وكان ساهرًا مع شلة من الأصدقاء يدخنون الحشيش ويَروُون النكات. عندما داهمتهم قوة من الشرطة وأمسكتْ بهم مُتلبِّسِين بتدخين الحشيش!
وعند تفتيشهم عثروا مع المعلم سعد المسلكاتي على قطعة حشيش تَزن نصف كيلو. قرَّر هو أنها للمزاج، وقالت النيابة إنها للإتجار. ولما كانت، الكمية بسيطة فقد اكتفت المحكمة بحبسه لمدة سنتين سيقضي منها ثمانية عشر شهرًا ثم يغادر السجن؛ لأنه كما تشهد بذلك كل التقارير، حَسَن السير والسلوك!
وسألني المعلم سعد وهو يشفط نفسًا عميقًا من المعسل المغموس بالحشيش: والبيه كان يشتغل إيه في الحكومة؟
– صحفي.
– آه … جُرنالجي يعني.
وعندما أجبْتُه بالإيجاب، جذب عدة أنفاس عميقة متلاحقة، ثم قال في هدوء وفي ثقة: أقولك بصراحة … كلهم حشاشين.
وعندما سألته عمَّن يقصد، أجاب بهدوء: الجرانالجية، مِش هُمَّه بس، وكمان بتوع النيابة، والبيه مأمور السجن، والضباط، كلهم حشاشين. الحكومة كلها بتحشش يافندي، ومش عارف بيمسكونا ليه؟
وراح المعلم المسلكاتي يروي قصصًا مثيرة عن ضباط كبار كانوا يقبضون مرتباتهم من المعلم أول كل شهر، وعن أشخاص مَسنودين كانوا يُسهِّلون عملية تهريب المخدرات لقاء الأجر، ثم قال يؤكد كلامه: طب بِتخش إزَّاي المخدرات؟ تعرف تقوللي، عفاريت زرق بيدخلوها البلد؟ ثم ضحك ضحكة ناشفة متقطعة قبل أن يستطرد: ما عفريت إلا ابن آدم.
وفجأة حدثت ضجة عند الباب، ومفتاح ضخم يدور في القفل الأكثر ضخامة. ثم انفتح الباب على مصراعيه وفوجئت بالضابط النوبتجي النقيب الدسوقي يقف بلحمه وشحمه فوق رءوسنا، والفحم والع، والجوزة شغَّالة ورائحة الحشيش تعبق في جو المستشفى … وأحسستُ بقلبي يغوص حتى قدمي، وجفَّ ريقي، وجفَّ دمي أيضًا، وفقدتُ القدرة على النطق، وظللتُ جالسًا مكاني أبحلِق مذهولًا في الضابط؛ لأنني فقدْتُ — أيضًا — القدرة على القيام.
خُيِّل إليَّ لحظة رأيتُ الضابط الدسوقي يدخل علينا أنه ربما كان الموقف كله كُمينًا أعَدُّوه بإحكام، وها أنا ذا واقِع في الكمين ومُتلبِّس. وإذا كان موعد الإفراج عني في قضية سياسية سيحل بعد أسابيع، فإنني حتمًا سأواصل السجن ولكن في قضية مخدرات!
وبدَتْ علامات الارتباك على وجه الضابط الدسوقي، ووقف حائرًا لا يدري ماذا يفعل، ومن خلفه حارس الليل وقد أمسك بمجموعة مفاتيح السجن في يده. وفجأة وجَّه الضابط حديثه إليَّ، وقال وهو مندهش: هو سعادتك هنا؟
سعادتي؟ ظريفة! هل يلعب الضابط بأعصابي؟ هل يسخر مني؟ ثم قال على الفور: أنا لما عرفت أن سعادتك هنا جيت أمسِّي عليك. وتدخَّل المعلم المسلكاتي الذي كان الارتباك يسيطر عليه: ما تبطل أمور الأونطة دي بقى، ما تعقد أمَّال، البيه مِنِّنا وعلينا وآخِر مزاج. وكأنما وجد الظابط الغريق طوق النجاة وتعلَّق به على الفور.
وأجاب وقد ارتسمت ابتسامة على وجهه: كِده، طَيِّب مساء الخير. وانحنى وراءك بالجورة. وشفط نفَسًا طويلًا عميقًا، ثم أنفاسًا قصيرة متلاحقة، وقال وهو يخرج الدخان من أنفه في خيط، طويل متصل: يا سلام! دا عنبر … ثم جلس في هدوء بينا انحنَى الشاويش العجوز على الجوزة يتناول نصيبه من الأنفاس. وراح الضابط يبدي ارتياحه الشديد لوجودي في المستشفى. فهنا الجو حرية أكثر، ومزاج أكثر، وهي على أية حال فترة لازمة استعدادًا للإفراج. وعندما عزَم المعلم المسلكاتي على الضابط أن يتعشَّى رفض بشدة. وعلَّل اعتذاره بأنه تناوَل العشاء في فرح أحد الأصدقاء قبل أن يحضر إلى السجن مباشرة. وعندما علَّق المعلم المسلكاتي: يا بختك يا عم. بتحضر أفراح.
راح الضابط يشرح الأسباب التي دعَتْه لحضور الفرح فهو مُقبل على الاحتفال بعقد قران كريمته الكبرى، ولذلك حضر الفرح ليتفق مع المطرب رشدي على إحياء الفرح. ولكن الاتفاق لم يعجبه، فقد أصر المطرب على أن يقبض أجرًا كبيرًا، ولكن العين بصيرة واليد قصيرة كما ترون. يحسدون الضباط. هكذا قال الضابط وهم في الحقيقة شحاتون. المطرب أصر على أن يتقاضى ثلاثمائة جنيه في ليلة واحدة وهي مرتب ستة شهور للضابط. ستة شهور من التَّعب والعَرَق والسَّهر والمسئولية. وآه من مسئولية الضباط. أقل هفوة قد تطيح بهم، أصغر خطأ قد يودي به، ربما حادث يقع بالقضاء والقدر يلقى به من شاهق!
وراح الضابط يحكي لنا عن حادث وقع قضاء وقدرًا عندما كان يعمل معاون نقطة في الصعيد. فقد أمسك بِلص، وأثناء استجوابه أنكر اللص وأبدى عنادًا شديدًا وإصرارًا على الإنكار رغم جميع الوسائل التي اتبعها معه. وفي موجة من موجات الضرب التي كان يكيلها له، وقعت العصا على مقتل من جسده، فسقط ميتًا بلا حراك قضاء الله وقدره! فلم يكن الضابط الدسوقي يقصد قتله، ولكن عمره انتهى … ولكل أجَل كتاب! ولكن النيابة لا تحترم القضاء والقدر ودخل الضابط الدسوقي في دوامة سين وجيم، وأوقف عن العمل فترة، ثم أطاحوا به إلى الوادي الجديد، وعندما أظهر الله براءته، وأمام محكمة الجنايات، نقلوه إلى مصلحة السجون، حيث التَّعب أشد والمسئولية أكثر.
وتمتم المعلم المسلكاتي بكلمات قليلة: بس السجون خيرها كثير وربك عالم بحالك يابو خليل. وقال الضابط في صوت حزين: والله خيرها ما هو على قد بلوتها، ورد المعلم المسلكاتي: احمد ربنا، دا ياما ضباط حاسدينك يا إبراهيم!
– على إيه يا حسرة؟ تكونش فاهم الناس كلها زيك يا معلم. طب سجن زي ده، تعرف تقوللي فيه مين؟
وقال المسلكاتي وهو يحكم ربط العمامة فوق رأسه: أهو فيه برضه. خير ربنا كتير. المعلم على عيسى، والمعلم أمل، والمعلم … وقاطعه إبراهيم الدسوقي، كأنما أدرك أن المعلم المسلكاتي يعرف كل شيء عمَّا يدور خلف أسوار سجن القناطر. وقال الضابط وهو يحاول انتزاع عطف الحاضرين: طب بذمتك حد يعمل اللي أنا باعمله يا معلم؟ وأعطاه المعلم شهادة تفوق على الفور: إنت جدع يابو خليل.
وعند هذا الحد توقَّف النقاش بين الجميع. وضرب الضابط يده في جيبه فأخرج قطعة حشيش حجم فردة حذاء مقاس كبير … وقال للمعلم وهو يطرحها بين يديه: تموين الأسبوع يا معلم والجماعة بيسلموا عليك. وقال المعلم المسلكاتي بعد أن شال الحشيش: جماعة قلالات الأصل، هيه دي اللي قدروا عليها؟
وقال الضابط: على فكرة، همه جايينلك زيارة بكرة. وساد الصمت بيننا من جديد. وانهمك الجميع في شفط أنفاس الجوزة، وفي تذوق الصنف الجديد وارد الليلة. وعندما أبديت استحسانًا بجودة الصنف الجديد. قال المعلم المسلكاتي: دي حاجة جديدة اسمها أم سفينة، نزلت قريب بس دهب، أحسن من أم أكرم، وخدني لحنانك، حاجة حلوة من غير مؤاخذة تشعل الدماغ من جوه النافوخ!
كان الليل قد انتصف تقريبًا، وصوت الحراس يتصاعد ويتصاعد ويشتد صاخبًا في الظلام.
وبعض المساجين يتشاجرون في العنابر البعيدة وقد خفت الأضواء في المستشفى، ونام بعض النزلاء، واستيقظ البعض الآخر. ونباح كلاب يأتي إلى مسامعنا من المزارع القريبة، ونقيق ضفادع يختلط بصوت المياه المتدفِّقة في الرَّيَّاح المنوفي، وعسكري يتشعلق السور أراد أن يُثبت نشاطه للضابط الذي دخل السجن يزعق بالصوت الحيَّاني واحد تمام. ثم يخف الصوت تدريجيًّا كلما انتقل العدد إلى اثنين وثلاثة وأربعة، فإذا وصل إلى رقم 14، خُيِّل إليَّ أنه أضغاث أحلام قديمة!
ورفت على شفتي ابتسامة غريبة، ما الذي جمعنا هنا وفي لحظة الزمان بالذات؟ وأي صحبة جميلة؟ سياسي مسجون، وتاجر مخدرات، وبعض اللصوص والبلطجية، وضابط نقيب، وحارس عجوز، والكل يشفط أنفاسًا معطرة وينفثون دخانًا أزرق. الشعب والسلطة في ألذِّ تحالف! المعارضة والحكومة في أحلى قعدة!
تحالُف قوى الشعب العامل في جلسة عمل وردية، بينما الحراس يصرخون فوق الأسوار! تُرى لماذا يصرخون؟ لتخويف المسجونين؟ أم لطرد الخوف من أنفسهم؟ ومع ذلك فكل شيء تمام! واحد تمام واثنين تمام! وثلاثة تمام! لا مخالفة ولا خروج على النظام. والمعلم المسلكاتي يبدو وجهه هادئًا كوجوه السلف الصالح. بينما يبدو الإجهاد الشديد على وجه الضابط الذي بدأ حياته كونستابلًا ممتازًا، وظل يترقَّى حتى يصبح نقيبًا في الثانية والخمسين! وعندما دقَّقتُ النظر في وجهه اكتشفتُ أنه شرد بعيدًا من يدري ربما يفكر في الديون والهموم. ربما يتمنَّى في أعماقه لو تبادَل مع المعلم المسلكاتي مركزيهما في الحياة! فما أحلى أن يكون الإنسان مسجونًا له كل هذا الهيلمان، وما أتعس أن يكون ضابطًا يعاني من كل هذا الشقاء.
وكأنما لاحظ المعلم المسلكاتي شرود الضابط فلكزه بلطف وصاح في حنان: هيه. رحت فين يا سعادة البيه؟
وأفاق الضابط من شروده، فأجاب وعلى شفتيه ابتسامة باردة: أبدًا، أنا معاك هنا. وتمتم المعلم المسلكاتي: صلِّ على سيدنا النبي.
وهتف الجميع بالصلاة على سيدنا النبي، وقال الضابط: كان نفسي تكون بره عشان تحضر معانَا فرح البنت!
كانت صفارة حارس الفناء تُدوِّي في جوف الليل، وكان الحارس العجوز هو أول من انتبه إليها فصاح ينبه حضرة الضابط: دي إشارة خطر يا بيه! وقال الضابط مستهزئًا: حيكون خطر إيه يعني، اليهود هجموا، أسأل الحمار ده في إيه؟ وفتح الحارس العجوز النافذة، ونادى على حارس الفناء وبعد أن لعن سنسفيل أبوه، سأله عن سبب الصفارة، وأجاب العسكري المذعور في الفناء: مسجون مات يافندي!
وقال الحارس العجوز: يعني دكتور والا الطبيب الشرعي، إنت شفته ميت؟
– أحد المساجين بلغني.
– وفين زنزانة المرحوم إن شاء الله؟
– في دور أربعة، عنبر «ب».
عندما سمع الضابط موقع المسجون الذي ربما مات، وربما يتماوت هدأ روعه وقال حازمًا: إياك يموتوا كلهم عشان نرتاح من قرفهم.
كان دور أربعة هو مجمع حثالة المساجين صغار اللصوص والنشالين، والمتسولين، والذين لا أهل لهم ولا مورد! وموت واحد منهم أو أكثر لن يثير ثائرة حشرة في ديوان مصلحة السجون. ولذلك انشغل الضابط مرة أخرى بتقليب الفحم على النار، بينما الحارس العجوز مُشتَبك في نقاش حادٍّ مع حارس الفناء، وصياح المساجين في العنابر يتصاعد للسماء.
وفجأة، وقف المعلم المسلكاتي وتناول كوبًا من الماء كان إلى جواره، وصبه على الفحم المشتعل، فخمدت النار على الفور وأحدث خمودها صوتًا سرعان ما خفَتَ وتلاشى بالتدريج. ونظر الضابط إلى المعلم المسلكاتي علَّه يجد على ملامحه تفسيرًا لهذا التصرف.
كان وجه المعلم جامدًا، وجبينه مقطبًا. وقال وهو ينهض من السرير: كفاية كده الليلادي، شوف الواد اللي بيموت دا حكايته إيه؟
رد الدسوقي وقد بدأ مسطولًا على الآخر: دا عيل صايع ما يموت في داهية.
وقال المعلم وقد انفرجت شفتاه عن ابتسامة فاترة: دي روح مهما كان، وحرام عليك. ونهض الدسوقي في تثاقل، وقال وهو يُحكِم رَبْط الحزام حول وسطه، ويعدل من وضع الكاب فوق رأسه: أنا بس كنت عاوز أتفاهم معاك على حكاية الفرح بتاع البنت، أصل الحالة نار زي ما انت عارف، والواحد ما بقاش فيه حيل.
وقال المعلم وهو يربت على ظهر الضابط: إن شاء الله هتفرج، وكل شيء هيبقى عال، وانا حكون بره يوم فرح البنت، وهنعمل واجب … وأرعش الدسوقي حاجبيه. وقال في أدت مزيف: يسمع من بقك ربنا. وقال المعلم: إنت عليك تجيب الورق م المصلحة، أقوم أخرج بعد أسبوعين، ونحضر الفرح. ونفرح كلنا مع بعض.
– بس … إنت عارف …
– مفيش بس ولا حاجة إنت قدها وقدود … روح شوف الواد اللي بيموت ده. وتوكل على الله، وشوف حالك، دول خمسميت جنيه يا بيه، كل جنيه ينطح أخوه شوف أكل عيشك يا بو خليل، إنت راجل كبير ودي حاجة هايفة.
عض إبراهيم شفته السفلى بغيظ وتلمَّظ كأنه قطة جائعة، وضرب بيده على فخذه. وقال وهو ينظر للمعلم بغيظ مكبوت: على كل حال اللي فيه الخير يقدمه ربنا.
كان صياح المساجين يتصاعد للجو عندما خرج الدسوقي، وزعق عسكري الفناء انتباه، إشارة إلى أن الضابط قد حضر.
واشتدت الضجة في العنابر وفي الفناء، واتجه المعلم المسلكاتي إلى النافذة فأغلقها، وغاب الضجيج خلفها، وعاد المستشفى تغرق في هدوء لزج متوتر. وكان خدم المعلم المسلكاتي قد انهمكوا في إخفاء كل شيء وتنظيف المكان بعناية.
وعندما تمَدَّد على السرير استعدادًا للنوم، ألقى نظرة خاطفة نحوي، فوجدني ما زلت جالسًا في مكاني، ساهمًا مسطولًا، وقال المعلم وهو يشد الحزام على جسمه: أونطجي أبو خليل ده … عاوز ياخد من غير ما يِدِّي، مش كفاية مُرتَّب شهري قد مرتبه من الحكومة، وبعدين قلتُ له على خدمة بسيطة، عاوز يعمل حِدق، لكن على مين. وحياتك إن ما راح المصلحة واتفق مع الباشكاتب على تعديل التواريخ ما هو شايف حاجة … أصلي أنا يا فندي بدَل ما أقعد هنا ثلاثة أشهر، أقعد أسبوعين، وبدل شهر ١١ يقلبها شهر ۸، فيها إيه دي؟
وعندما بدت الدهشة على وجهي، قال وهو يضحك: يوه، دي بتتعمل كثير قوي، إنت فاهم حد م المساجين السمان بيطلع في ميعاده الحقيقي؟ اللي يدفع بيطلع، مصلحة طبيخ يا بيه. بكرة أحكيلك على كل حاجة.
وسرعان ما غط في نوم عميق!
خلال أيام قليلة كانت العلاقة قد توطَّدت بيني وبين المعلم المسلكاتي، كان ودودًا وسعيدًا على نحو ما، ولم يكن يشعر بالوحدة في سجنه، أحاط نفسه بعدد من الأصدقاء، سكنوا جميعًا في المستشفى، وعدد آخر من الخدم، وكان طعام الجميع وشرابهم ومزاجهم على حساب المعلم ومن جيبه الخاص، وكان يدفع لهم ثمن الإقامة في المستشفى. وهي بالطبع بالمجان، ولكن هناك تسعيرة وضعها الدكتور ميشيل أجرًا عن المبيت في المستشفى وهي مائة جنيه شهريًّا لتاجر المخدرات، ومائة جنيه للمختلس، وخمسون جنيها للمتهم في جناية رشوة، وخمسة وعشرون جنيهًا للمتهم في جريمة قتل. أما السياسيون فكانت التسعيرة تخضع للظروف والتساهيل! وكان للخدم حساب خاص، فقد كان الدكتور ميشيل لا يساوم بشأنهم كثيرًا؛ لأنه كان يستخدمهم في تنظيف المستشفى وفي جمع الإتاوات من المرضى المترددين على المستشفى كل صباح.
ولم يكن هؤلاء الخدم خدمًا بالمعنى المعروف للكلمة، ولكن كان من بينهم الموظف والعامل وتاجر المخدرات الفقير. ولم يكن في استطاعة هؤلاء أن يواجهوا نفقَات السجن الباهظة؛ ولذلك تحوَّلوا إلى خدم داخل السجن، وكان حظ المعلم المسلكاتي من السماء، فقد عثر على طباخ درجة أولى كان فيما مضى من الزمان، يعمل طباخًا بفندق درجة أولى في الإسكندرية، وخلال خناقة حامية بينه وبين أحد الشبان لخلاف حول فتاة، صفع الطباخ غريمه الشاب صفعة قوية قلعَت عينه وأطفأت فيها النور. وجاء إلى السجن لقضاء عقوبة مدتها ثلاث سنوات.
ويبدو أن ظروفه المادية لم تكن على ما يرام، فقضى في السجن عامًا يعاني، إلى أن التحق بخدمة المعلم المسلكاتي. وبقدر ما كان الطباخ المدرَّب نعمة على المعلم، كان — أيضًا — نقمة عليه، فالمعلم رجل مشهور، وحبايبه في السجن أكثر من الهم في القلب. وقد ذاع صيت الطباخ لإتقانه أصنافًا معيَّنة. وكان على المعلم أن يلبي كل طلبات أصدقائه في السجن، وكان عليه — أيضًا — أن يلبي طلبات بعض الضباط الذين يقضون الليل داخل الأسوار.
وكان في السجن ضابطان مسئولان مسئولية مباشرة عن العنابر، وكانَا في سن مُتقارِبة، ولهما نفس البداية ونفس السلوك. الضابط الدسوقي والضابط أبو بكر. وكانَا يتناوبان السهر في السجن ويُكلَّفان بأعمال تستغرق كل وقتهما حتى وهم خارج الأسوار، فكثيرًا ما كان البيه المدير يكلِّف أحدهما بالعثور له على قطعة غيار نادرة لسيارته الفيات الصغيرة، أو البحث له عن عمال بياض للعمل في عمارته الجديدة التي يشيدها في ضاحية مصر الجديدة، وكان المدير والمأمور ونائب المأمور يعاملوهما معاملة سيئة. والسبب أنهما لم يكونا في الأصل من فئة الضباط. ولكنهما كانَا مجرَّد كونستابلات ارْتَقَيا في سلك الوظيفة حتى بلغَا مرتبة الضباط، ولكن سلوكها وهيئتيها ظلَّت أقرب إلى العساكر منها إلى الضباط، رغم النجوم التي تُزيِّن أكتافهما، وصرخة الحارس بكلمة انتباه التي تسبق دخولهما إلى العنابر.
وكان الدسوقي أطيب من أبو بكر وأكثر شعبية لدى المساجين كان يكفي تدخُّل أحد المساجين الأثرياء لدى الضابط الدسوقي لكي يعفو عن مسجون فقير ارتكب ذنبًا داخل العنبر! على عكس الضابط أبو بكر الذي كان شغوفًا بتعذيب الآخرين، وأحيانًا عندما لا يجد شخصًا يعذبه، كان يلجأ لتعذيب العنبر كله، بإغلاق الزنازين في الثالثة بعد الظهر، مع أن اللائحة تنص على إغلاق الأبواب في التاسعة مساء صيفًا، وفي السابعة شتاء.
وعندما كان أحد يسأله عن سر إغلاق الأبواب في هذا الوقت المبكر، كان يرد بلا مبالاة: أحسن من خوتة الدماغ!
ولكنَّ الضابطين معًا كانَا يشتركان في إرهاق المعلم المسلكاتي، بما يطلبانه من أصناف الطعام والشراب والدخان، وكثيرًا ما كانَا يطلبان سُلفة عاجلة، عدا الراتب الشهري، وكان المعلم المسلكاتي يبدي كرمًا ونخوة تجاه مثل هذه الطلبات.
وكان لكل ضابط منهما سجين مدرَّب يساعده في أعماله داخل السجن ويطلق عليه اسم النوبتجي، ولكن هذا النوبتجي كان يتفرَّغ عادة للأعمال غير المشروعة التي يقوم بها الضابط. وكان نوبتجي الضابط الدسوقي اسمه روبير، وهو يهودي مصري مُصاب بعاهة مستديمة في ساقه من إثر رصاصة أطلقها عليه أحد رجال الشرطة عقب عملية سطو جريئة قام بها على أحد البنوك، واستطاع روبير الحاذق الخبير. الملم تمامًا بخفايا السجن وأحواله، الذي يحفظ عن ظهر قلب لائحة السجون المصرية، والذي فرض من نفسه مركز قوة على الإدارة، وعلى الضابط الدسوقي على نحو خاص، استطاع روبير أن يجعل من نفسه نِدًّا للضابط! ومتساويًا معه في الحقوق، وشريكًا له، وعلى قدم المساواة في الأرباح … وكان الضابط إذا طلب سُلفة خمسة جنيهات من المعلم، طلب روبير نفس المبلغ لنفسه أيضًا. وعندما شكا لي المعلم من تصرفات روبير الجنونية، وطلباته التي لا تتوقف عند حد. قلتُ له: طيب وانت بتديله ليه؟
وهز المعلم المسلكاتي رأسه في دهشة من سؤالي، وقال وهو ينتقل من مكانه ويقترب مني أكثر: حاكم دا واد شر، وبعدين يعرف حاجات كتير ولو فتح بقه، هيوقف المراكب السايرة.
وأخذني الحماس فرُحت أشرح له كيف أن خوفه ليس في محله. فلو فرض وتكلم روبير، فإن كل ماس يخسره المعلم هو مغادَرة المستشفى، والرجوع للزنزانة، وعلى فرض أن هذا حدث، فليس أمام المعلم إلا عدة أشهر قليلة، يستطيع أن يتحمَّلها دون أن يضطر للخضوع لروبير. وأشعل المعلم المسلكاتي سيجارة، وكانت هذه عادته كلما استمع إلى كلام لا يعجبه، وقال وهو يشفط نفسًا عميقًا: أول هام ما دام طلباته مَقدور عليها يبقى في ستين داهية. وعلى رأي المثل، اللي بيجي في الريش بقشيش، تانِ هام مين قالك إن أنا هقعد الكام شهر دول؟ إن شاء الله إفراج قبل منك، ولما تطلع أمانة عليك تزورني في البطلية. لازم نقعد مع بعض سوا قعدة حلوة. ولما أبديتُ دهشتي لوثوقه بأن يوم إفراجه قبل يومي، مع أن التواريخ تؤكد عكس ذلك، قال وهو يضحك ضحكته المعهودة: حاكم انتو بقى يا بتوع السياسة، عليكو تشديد شوية، لكن الجماعة الغلابة اللي زينا مقدور عليهم يا سيدي، وانا مكتوب في الدوسيه بتاعي أن سجني ابتدأ شهر ١١ ولما ١١ تنقلب ٨ أخرج قبل ميعادي بثلاث شهور.
– طيب ولما يعرفوا المسألة؟
– ولا حاجة، أرجع أقضي الثلاث شهور تاني.
– طيب وليه خوتة الدماغ دي، ما تقضيهم وخلاص؟
– مش لو عرفوا … لكن همه حيعرفوا منين؟ بعد الإفراج بيحرقوا الورق، لو دوَّروا عليه تحت طقاطيق الأرض مش حيلاقوه.
وصمَت لحظات قليلة، ثم قال وقد لمعت عيناه ببريق غريب: ثم أنا لازم أكون بره يافندي في الفترة اللي جاية … أنا لو خرجت حاكسب مليون جنيه. ولازم أكون بره.
وراح المعلم المسلكاتي يشرح لي كيف أن هذه العملية روتينية بحتة، لا تكلِّف الباشكاتب إلا تزويرًا بسيطًا في الأوراق، ثم إن الأوراق نفسها ستختفي تمامًا ولن يكون لها أثر بعد ذلك.
وحكي لي كيف خرج المعلم خضير، والمعلم قرقر، صحيح أنهم دفعوا مبالغ باهظة، ولكنهم أيضًا اختصروا من سجنهم سنوات طويلة، وقال لي: إن أحدهم دفع مرة عشرين ألفًا من الجنيهات مقابل اختصار ثلاث سنوات.
وكان محكومًا عليه بالمؤبَّد، ويستحق الإفراج عنه بنصف المدة. وكان قد دخل السجن عام ١٩٥٥م، فجرى القلم على الأرقام فقلبها إلى ١٩٥٢م، عملية بسيطة لم تستغرق سوى لحظات. ولكنها حققت للمعلم إياه أن يخرج من السجن عام ١٩٦٧م بدلًا من عام ١٩٧٠م.
وضربني المعلم المسلكاتي على كتفي ضربة خفيفة، وقال وهو ينهض من مكانه بجانبي، متجهًا إلى مكانه المعتاد: الكلام دا بيني وبينك، أنا بقولهولك عشان بس تعرف الدنيا ماشيه إزاي.
كان أحوال الضابط الدسوقي قد ساءت كثيرًا عقب تلك الليلة الحافلة.
فقد مات الولد المسجون الفقير، وأثبت الطبيب الشرعي الذي انتدب من خارج السجن أن الإهمال في إسعافه … ساعد على حدوث الوفاة، فقد نزف الولد طويلًا حتى مات. وشهد بعض المسجونين في العنبر أن الضابط كان متواجدًا في المستشفى عندما استنجدوا به. ولكن لم يحضر إلى العنبر إلا بعد ساعات.
صحيح أن طبيب المستشفى شهد في صفه، وكذلك المُمرِّض الذي كان في نوبة الليل. كما شهد أيضًا عدد من المساجين في العنبر في صف الضابط وعلى رأسهم روبير. إلا أن الضابط الدسوقي بدأ مهتزًّا للغاية وقَلقًا على غير العادة … وقال لي وهو يحكي تفاصيل التحقيق الذي جرى معه: أهو كان كل شيء قدامك، لكن على رأي المثل: خير تعمل شر، ولم أعلق أنا على كلامه بشيء!
وكأنما تحطَّم شيء ما في داخل الضابط، فقد بدَا شاردًا وساهمًا بشكل واضح … وصارت قبضته على المساجين الغلابة أقل إحكامًا. ولما أبديت مخاوفي للمعلم المسلكاتي، من أن الضابط ربما لم يَعُد متحمِّسًا لموضوع تزوير الأوراق، ضحك المعلم، وقال: إيه علاقة ده بده؟ دا شغل ودا شغل يافندي، وضحك ضحكته الطويلة المتقطعة، وقال وهو يغمز بعينه: امبارح استلم الفلوس.
وذات صباح غادرتُ السجن في طريقي إلى المحكمة، للفصل في قضية مرفوعة ضدي من بعض الضباط اللصوص الذين كانوا يسيطرون على شركة من شركات القطاع العام.
وعندما عدتُ إلى السجن بعد الظهر، كان يسبقني نبأ هزَّ السجن هزًّا، فقد أوقف الضابط الدسوقي عن العمل تمهيدًا لنقله.
وعندما نظرت للمعلم المسلكاتي لأرى وقْع النبأ على وجهه، لم أستطع أن أتبيَّن شيئًا. كان هادئًا ساكنًا كالعهد به. وعندما أبديت له ما كان يعتمل في نفس تجاه موضوع نقل الضابط الدسوقي وعلاقته بموضوع الإفراج عنه. قال بنفس النغمة الهادئة الواثقة: أبدًا، ولا حاجة، كل حاجة ماشية تمامًا.
واعتقدتُ أن كبرياء المعلم المسلكاتي يفرض عليه هذا الهدوء، وأنه ربما يغلي في داخله، ولكنه يتجلَّد حتى لا يشمت فيه الأعداء، وتأكد ظنِّي هذا، عندما جاء إليَّ ذات صباح، وبعد أن شرب الشاي، قال لي في صوت خفيض للغاية: الحكاية بتاع الأفراح دي مسألة بيني وبينك، ولما أكدت له أن السر في الحفظ والصون، قال وهو يستعد للانصراف: حاكم انت عارف الجماعة المساجين كلامهم كتير.
في هذه اللحظة تأكَّد لي أن المعلم قد أيقن من خديعته. وأن هذه الكلمات هي نصوص اتفاقية التسليم بدون قيد ولا شرط لهزيمته، وبالفعل انزى المعلم المسلكاتي بعد ذلك ولم يَعُد يغادر سريره إلا نادرًا، وانقطعت جلسات الحشيش وهجر المستشفى مجموعة من الأصدقاء الذين كانوا معه، ولم يبقَ من مجموعة الخدم إلا الطباخ وآخر كان يتولَّى ترتيب سرير المعلم، وتنظيف دورة المياه، قبل أن يتوجه إليها المعلم في الصباح الباكر، ولكنه لم يفارقه هدوءُه، ولم تغادر الابتسامة شفتيه!
وراحت الأيام تزحف، والموعد يقترب ولكن لا حس ولا خبر. وذات يوم فوجئتُ بالضباط الدسوقي في المستشفى، كان قد صدر قرار بنقله إلى سجن المرج، وجاء لتسليم عهدته في سجن القناطر، ثم انتهزها فرصة لتوديع أصدقائه من المسجونين، وجلس يشيد بسجن المرج، وكيف أن الله أكرمه بنقله إلى هناك.
وبعد أن شرب الشاي معنا صافحَنا جميعًا، ثم انصرف.
عندما ودَّعت المعلم المسلكاتي في صباح اليوم التالي وأنا في طريقي إلى المحكمة، شدَّ على يدي بقوة، وقال لي في إلحاح شديد: وحياة سيدنا النبي ما تنسانَا بعد الإفراج. دا عيش وملح يا افندي، مش لعبة، ولازم تزورنا ونزورك.
ووعدتُ المعلم المسلكاتي بزيارته في السجن بعد أن يفرج عني، وكان قد بقي لي أسبوعان خلف الأسوار … وضحك المعلم المسلكاتي ضحكته الودودة، وقال وهو ممسك بيدي: طب اقرأ الفاتحة إنك تبقى تزورنا.
وقرأت الفاتحة معه، وودَّعته وانصرفتُ.
كان يومًا مرهقًا طويلًا هدَّ من كياني، وما أن وصلتُ إلى السجن حتى صعدتُ بسرعة إلى المستشفى، واستلقيتُ على الفراش ولم يكن بالمستشفى أحد على الإطلاق، إلا مسجون عجوز نائم أو هكذا خُيِّل إليَّ، والصمت يُطبِق على العنبر، وحتى الممرضون غادروا أماكنهم المعتادة وانصرفوا إلى حيث لا يعلم أحد، وعندما ناديتُ على أحدهم لكي يسعفني بكوب ماء، رد علي المسجون العجوز الذي حسبته نائمًا، وقال بصوت مسلوخ: مش هتلاقي أي حد هنا، أصل عقبال عندك المعلم المسلكاتي طلع إفراج.
وضاع صوته في الضجيج الذي انبعث من الفِناء فقد راحت الصفارات تُدوِّي إيذانًا بالتمام. كانت الساعة الخامسة لم تزل، ولكن هكذا تقضي قواعد الضبط والربط في السجون. وصوت الجاويش مرسي الشَّرس يتصاعد في الجو، يلعن أبو المساجين الحقراء الذين يَتحدَّون كل القوانين، حتى في السجون لا يريدون الخضوع للنظام.