عبد الستار السياسي
سمعت عنه قبل أن أراه. كانت زنزانته تُواجه زنزانتي، وكانت مُغلقة طول النهار، بينما نزيلها يتمشَّى كالحيوان المحبوس في فِناء السجن، جيئة وذهابًا في خطوات منتظمة، ويده خلف ظهره، بينما كانت ملابسه الرَّثَّة تُظهر من لحم ظهره أكثر مما تُخفي، وحذاؤه البالي المثقوب، يجعله يسرع الخطى متأففًا عندما تكون الشمس في كبد السماء. وكان ضخم الجثة، مهوش شعر الرأس، حادَّ الطبع، وكانت تهمته سياسية ومدة سجنه ثلاث سنوات. وعندما وقع بصري عليه أول مرة كان قد مضى عليه في السجن عامان، وكان يتمتع بسمعة سيئة لدى جميع النزلاء! ولكثرة ما سمعته عنه من أفواه النزلاء تمنيتُ أن ألتقي به وأتحدَّث اليه. فقد خُيِّل إليَّ أنه ربما لم يستطع أن يحفظ توازنه بين ما في رأسه من مثاليات، وما في السجن من واقع. وربما تعرَّض لصدمة في بداية سجنه، أفقدَتْه القدرة على التعامل مع الجو المحيط به، وربما امتلأ قلبه حقدًا على كل مَن حوله من خلق االله وربما احترف تعذيب الآخَرين، احتجاجًا على التعذيب الذي لقيه. وهو على أية حال شخصية يستحق الدراسة … وتستحق الرثاء.
ورغم محاولاتي العديدة للتعرُّف إليه، إلا أن الفشل كان من نصيبي دائمًا. فكلما التقينا وجهًا لوجه في الفِناء كان يفتح فمه عن ضحكة عصبية لا تحمل أي معنى، ثم يُسرع الخُطى مطأطئ الرأس، وبصره على الأرض، كأنما هو ديك رومي هربان يبحث عن شيء يلتقطه، وعندما أعيتني الحِيَل صرفتُ النظر تمامًا عنه. فقد اقتنعتُ بأنه لا بد أن يكون مجنونًا، أو على الأقل مسه خبَل في عقله. فقد كان أحيانًا يصرخ لأتفه سبب، وأحيانًا لغير ما سبب.
وكان إذا صرخ سبَّ المساجين والحراس والإدارة، فإذا وقع بصره على الضابط، اكتفى بسب المساجين فقط، واليوم الأغبر الذي قذف به إلى هذا المكان!
وبعد أسابيع طويلة من وصولي إلى سجن القناطر لغط السجن كله بأن عبد الستار السياسي مريض بمرض خطير، وأنه طلَب نقْلَه إلى مستشفى قصر العيني، ولمَّا لم تستجب الإدارة إلى طلبه، هدد بالإضراب عن الطعام، ولكن تهديده لم يرَ النور على الإطلاق!
وذات مساء وكان الليل قد انتصف، سَمعتُ نحيبًا مكتومًا يتردَّد صداه عَبْر جدران السجن الغليظة الصمَّاء. ولما أصختُ السمع جيدًا اكتشفتُ أن الصوت صادِر من زنزانة عبد الستار. وشعرتُ بالحزن عليه، فإذا كان السجن الانفرادي سيِّئًا، فليس أسوأ من الشعور بالوحدة في سجن يموج بالسجناء. فطوال الفترة التي مرض فيها لم يدخل زنزانته أحد إلا الحارس الغليظ الذي كان يُكِنُّ كراهية خاصة لعبد الستار، مبعثها أنه لا يملك فائضًا من السجاير. كما أن منظره لا يوحي بأنه مسجون سياسي، ولا بد أن هناك خطأ ما. وكانت تجربة الشاويش الحلواني الطويلة في السجون تؤكد أن المساجين السياسيين كلهم من طبقة الأثرياء. وزراء سابقون، ورجال أحزاب من أصحاب الطين، وضباط ومحامون وصحافيون وأطباء وأحيانًا طلبة، ولكنهم جميعًا يعيشون في السجون في بحبوحة من العيش، ويُغدِقون بسخاء على الحراس والمساجين. نعم كله إلا هذا العبد الستار.
فلم يكن معه ما يعطيه لأحد، بل إنه اقترض من كثيرين دون أن يرد ما عليه من ديون. وكان الشاويش الحلواني كلما ذكر أحد اسم عبد الستار أمامه، قال وهو يقسم بأغلظ الإيمان: طب تصدقوا بإيه، وحياة سيدنا النبي دا ما هو سياسي ولا حاجة، دا أكيد مخبر في المباحث ومزقوق على حد هنا. حاكم الحكومة ساعات تعمل حاجات زي كده.
ولقد انتشرَت هذ الإشاعة التي أطلقها الحلواني، حتى أصبحت شبه حقيقة يتداولها الجميع حتى الضابط الدسوقي كان يعتقد أنها حقيقة، ولذلك يحتقره ويحذر منه ويخشاه في الوقت نفسه، ورغم عدم قيام أي دليل على صحة هذا الكلام إلا أنه زاد في نفور الناس من عبد الستار، حتى صار يعامَل في السجن معاملة حشرة مؤذية يتجنبها الجميع!
وعندما فتحتُ عليه باب زنزانته في ذلك الصباح، كان ممددًا على الأرض فوق بطانية قذرة ممزَّقة صار لونها مثل لون الأرض، ولم يكن في الحجرة شيء على الإطلاق، بدت عارية تمامًا إلا من جردل البول، وجردل مياه الشرب. ولم يكن ثمة فرق بين الجردلين وعندما شعر عبد الستار بحركة فتح الباب، تماوَت وزفر زفرة أنين خافتة، فقد ظن أنه الحارس جاء لأمر ما. فلمَّا ألقيتُ عليه تحية الصباح. هبَّ مفزوعًا كمن لدغته عقرب، ورد على أسئلتي بإجابات مقتضَبة.
ورغم لقائه البارد، فقد جلستُ في مواجهته على أرض الزنزانة، ومددت له يدي بكوب شاي كنتُ قد أعددتُه له، ولكنه رفض بشدة. ولما لمس مني إصرارًا شديدًا، فقد قَبِلَه على مَضض، وراح يرتشف الشاي بصوت مسموع، ثم قبل مني سيجارة شاكرًا. أشعلها وأخذ منها أنفاسًا عميقة متلاحقة، وعندما أبديتُ له دهشتي من العزلة التي فرضها على نفسه أجابني في حسم: دول أصلهم ناس وسخة … ثم واصل حديثه، وكان قد انتهى من احتساء آخِر رشفة في كوب الشاي: أنا بيني وبينك مندهش، إنت بتتكلم مع الناس دول إزاي، ناس حراميه ومجرمين!
ولم يتصل النقاش بيننا بعد ذلك، قطعه عندما أبدى رغبته في النوم، فتركتُه على أمل لقاء آخر. وتعمدتُ أن أترك علبة السجائر مكانها على الأرض. فقد قدَّرتُ أنه في حاجة شديدة إليها. وتعدَّدت اللقاءات بيني وبين عبد الستار بعد ذلك، وكنتُ اكتشفتُ في كل مرة شيئًا جديدًا فيه! ولكنه لم يفتح قلبه قط. وإن كانت ثورته الشديدة على المساجين لم تهدأ قط. وذات صباح طرق عليَّ الباب، وبدون أي مقدِّمات، طلب علبتَي سجاير لأمر هام. وسحبْتُ علبتين وأعطيتهما له.
فأمسك بها ووقف ينظر نحوي نظرات لم أفهم معناها في البداية، وعندما استفسرتُ منه عمَّا إذا كان نوع السجاير لا يعجبه، لم يُجِب، عضَّ على شفتيه السفلى بقسوة، وبكى فجأة، ثم توقَّف عن البكاء فجأه، ثم مدَّ يده وصافحني بحرارة، وشكرني بشدة، ثم غادر الزنزانة لا يلوي على شيء، وانفتحت مغاليق عبد الستار بعد هذا اللقاء، وراح يتردَّد على كثيرًا.
ثم تنازَل أكثر وقبل الهدايَا التي أقدمها له من مأكولات وسجاير، وذات ظهرية وبعد وجبة دسمة طيبة، أشعل عبد الستار سيجارة، ونفث دخانها على شكل حلقات في الفضاء، وقال وقد أسند ظهره بحائط الزنزانة: أنا كنت فاكر أن السجن هيهدني، لكن أنا بعد تجربة السجن لازم أهد المجتمع كله.
وحكى لي عبد الستار عن نشأته في إحدى قرى محافظة البحيرة، وأفاض في شرح حالة عائلته الإقطاعية، وكيف أن والده دللَّه حتى أفسده. وعندما التحق بكلية التجارة كان يملك سيارة، ومُرتَّبًا ثابتًا، وشلة من الأصدقاء اللَّامعِين، ولكن هذه الحياة انهارت كلها بوفاة والده، واستيلاء أعمامه على الثروة، وحرمانه من نصيبه.
واستيقظ عبد الستار ذات صبح ليجد نفسه في القاع، وليكتشف حقائق جديدة في الحياة ما كان يمكن اكتشافها بغير ذلك. وواصل عبد الستار تعليمه الجامعي في عنتٍ شديد، وعندما تعرَّف على لطفي رأى الحياة بمنظار آخَر يختلف. ولكنه كان المنظار الصحيح.
وكان لطفي رئيسًا لتنظيم سياسي متطرِّف، سرعان ما انضم إليه عبد الستار، وكان هدف لطفي الأساسي، تنظيم الفلاحين وتعبئة قُواهم، ثم الثورة على السُّلطة والاستيلاء عليها بعد ذلك. ووجد عبد الستار ضالته الكبرى في لطفي وتنظيمه الثوري. فصار أنشط الأعضاء وأشدهم التزامًا. وعندما تخرَّج في الجامعة، واشتغل مأمور ضرائب في دمنهور، راح ينظم مجموعات من الفلاحين في القرى القريبة من المدينة، ثم ما لبث أن سقط في يد المباحث، ثم المحاكمة ثم السجن. ولكن هيهات أن يُسكِت السجن صوته، سيُعاود الكَرَّة من جديد، وسيشعل الثورة حتمًا، وسيقبض على زمام السُّلطة يومًا ما.
وكان واضحًا أن روايته التي قصها عن أسرته، شيء أشبه بروايات الأفلام المصرية الهايفة. الأسرة الثرية والمَجْد العتيد، ثم الفقر المُدقِع ثم الثورة!
وكان منظره وطريقة تعامله مع الآخَرين توحي بأنه من أحط طبقات المجتمع وأكثرهم فقرًا. وأنه لولا مجانية التعليم لما استطاع أن يقرأ ويكتب. ولكن مظهر البراءة الذي بدَا على وجهي، وإصغائي الشديد لحديثه، جعله يطمئن كثيرًا، فراح يحكي لي عن سفريات وَهمِيَّة قام بها للخارج، عندما كان يحيَا في بحبوحة العيش، وعن غزوات غرامية قام بها لنساء شهيرات في المجتمع، وذات مرة، وعقب اقتراضه عدة علب من السجاير كان في حاجة شديدة إليها كما هي عادته، همس في أذني بسر خطير.
كان السر الذي أفضى به عبد الستار، بعد أن أطمان إلى أن الضابط خارج العنبر، وحارس الدور يتمدد فترة القيلولة، وكل شيء على ما يرام. مزيجًا من الجنون والأحلام والأماني المستحيلة. وفي البداية أشعل عبد الستار لنفسه سيجارة وجذَب منها أنفاسًا عميقة طويلة، وقال وهو يرمقني بنظرة حادَّة من خلال سحابة الدخان التي غطَّت وجهه: أنا بعد سنة واحدة من خروجي من هنا حاكون استوليت على الحكم.
وعندما بدَت البلاهة على وجهي، وربما الاستهزاء أيضًا، ضرب جبهَته براحة يده وقال وهو يعتدل في جلسته: مِش مصدقني، بُكرة تسمع وانت هنا في السجن. ولمَّا لم أُعلِّق على شيء، راح يشرح تفاصيل الخطة الجهنمية التي ستحمله إلى السُّلطة في البلاد.
لقد اختار الفيوم ليبدأ منها حركته المقبلة. ولقد اختار الفيوم لعدة اعتبارات: فهي واحة كبيرة تحيط بها الصحراء من كل جانب، ويفصلها عن الوادي خط سكة حديد يسهل نسفُه؛ وبذلك تصبح مقطوعة عن الوادي تمامًا. أما الطريق البري الذي يربطها بالقاهرة فهو ضيِّق لا يزيد عرضه عن ستة أمتار ويمكن قطعه عن طريق عدد من القنَّاصين لا يزيدون على أصابع اليد الواحدة. أما الطريق البري الآخَر الذي يربط الفيوم ببني سويف، فهو طريق رملي وغير ممهَّد، ويمكن اصطياد قوات الحكومة التي ستقطع الطريق وتدميرها تمامًا. فإذا لجأت الحكومة إلى ضرب الفيوم بالطائرات، فسيخلق هذا العمل الوحشي من جانبها رد فعل لدى الجماهير في العاصمة وستهب هذه الجماهير في ثورة عارمة ضدها. كما أن الفيوم هي أحط محافظات مصر مستوى للمعيشة، وهذا الوضع يجعل منها قاعدة للثورة، ويجعل جماهيرها الفقيرة مستعدة لخوض المعركة في سبيل مكان أفضل تحت الشمس. وقال عبد الستار بعد أن انتهى من عرض الخطة: كاسترو بدأ في كوبا بعشرين واحد، وأنا عندي ألف واحد مُستعدِّين.
وسألتُ عبد الستار سؤالًا بدا ساذجًا للغاية: طيب إنت ساكن في دمنهور، هتروح الفيوم إزاي؟
– أنا راجل موظف وهاطلب نقلي للفيوم.
ثم صمت طويلا قبل أن يقول: بس وحياة والدك الكلام دا بيني وبينك، ودا سر لو طلع بره رقبتين تروح فيه، وبعد أن أشعل سيجارة أخرى أضاف: وأنا مش خايف على رقبتي، أنا مستعد أقطعها من دلوقتي علشان مصر، لكن بيني وبينك أنا خايف على الثورة.
وخلال الأيام التي تلَت إفضاءه بِسرِّه الخطير، كان عبد الستار دائم التردد على مكاتب الإدارة للاستفسار عمَّا تم في مسألة الإفراج عن المسجونين السياسيين.
وكانت الإجابات التي يتلقاها متضاربة. كان بعضها يؤكد أن الإفراج تقرر وقد يحدث فجأة، والبعض الآخر يؤكد أن المسألة لا تزال مجرد اقتراح ولم يدخل بعد دائرة البحث والتنفيذ.
وذات صباح استُدعِي عبد الستار عن طريق الميكرفون للزيارة. وشاهَد المساجين رجلًا مُسنًّا يرتدي جلبابًا متَّسخًا وطاقية متآكلة الحوافي، وحذاء أجرب بِلا لون، صافَح عبد الستار في غرفة المأمور ثم احتضنه. وجلس معه قرابة نصف الساعة، وعندما انتهت الزيارة مدَّ الرجل يده لعبد الستار وناوله أربع علب سجاير من صنف رخيص، ثم خرج الرجل وهو يُجفِّف دمعة انحدرت من عينه بطرف جلبابه الممزق الملوث بالشحوم والتراب.
وشهدت زنزانة عبد الستار بعد الزيارة حشدًا كبيرًا من المساجين سرعان ما تحوَّل إلى مظاهرة وارتفعت الأصوات وتوالت اللعنات على رأس عبد الستار وتصاعَدت في الجو كلمات: نصَّاب ولص وغشاش. والسبب أن أصحاب الديون الذين انتظروا طويلًا وصبروا على عبد الستار، والذين وعدهم بتسديد ديونهم عندما يزوره أحد من أهله، وها هي الزيارة قد تمَّت، وعبد الستار لا يزال يماطل ويُسوِّف ويدَّعي أن الذي زاره هو واحد من خدم والده مُعجَب إلى حد ما بثورية عبد الستار، وأن الخادم المسكين لم يستطع أن يقدم له إلا أربع علب سجاير هي كل ما استطاع أن يدخره من قوت يومه. غير أن المأمور فضح عبد الستار في اليوم التالي حين أكد أن الذي زار عبد الستار هو والده شخصيًّا، وأنه اطَّلَع على بطاقته الشخصية، وأنه يعمل بقالًا في دمنهور، وأنه خلال الزيارة شكَا لعبد الستار من وقْف الحال وقلة المكاسب، واعتذر عن عدم زيارته كل هذا الوقت الطويل؛ لأن العين بصيرة واليد قصيرة كما يقولون.
وانزوى عبد الستار في زنزانته من جديد، وتحاشى حتى الخروج إلى الفناء. ولكنه فجأة طرق باب زنزانتي ذات عصرية، وجلس أمامي يزفر بشدة، وقال وهو يتناول سيجارة قدمتها اليه: ما فيش فايدة، الإفراج طلع إشاعة، عشان كده أنا قررت أهرب.
ولما اعترضت على مشروعه الجديد لاستحالة الهرب من سجن القناطر، قال مستخفًّا: دا مفيش أسهل من الهروب من هنا، وعلى شرط … في عز النهار.
ولما استفسرت منه عن كيفية تدبير هروب مسجون سياسي وفي عز النهار؟ قال وهو يهز رأسه هزَّات خفيفة كأنه درويش عجوز في حلقة ذكر: عارف الحوش بتاع الرياضة؟
ولما أجبته بالإيجاب، استطرد قائلًا: فيه واد عسكري واقف على السور في آخر السور بيراقب الحوش كله، والسور طوله أربعة أمتار، وفيه مصطبة تحت منه ارتفاعها مترين ونص والعسكري طول النهار مشغول بالكلام مع المساجين عشان يهرب لهم شاي من السور ويشحت سجاير منهم. ساعة التهريبة هاطلع المصطبة، وأنط ع السور من ورا، وهالبس بلوفر ملكي فوق بنطلون السجن، وهاقفز أنا في الشارع وهامشي على مهلي وكأني طالب بيتفسح في القناطر الخيرية. وعبثًا حاولتُ إقناعه بتأجيل مشروعه، فربما كان هناك تفكير بالفعل في الإفراج عن المسجونين السياسيين، وحادث من هذا النوع سيجعل موضوع الإفراج ينام على الرَّف عدة سنين.
ولكن عبد الستار كان قد قرر وانتهى الأمر، وقال وهو يستعد للانصراف: الأسبوع ده حيكون كل شيء انتهى، بس.
ولما لم يجد مني تشجيعًا على مواصلة الحديث أكمل قائلًا: بس أنا محتاج مبلغ نقدي، حسبة عشرة جنيه لو تدبرهم لي يبقى كتر خيرك.
ولما أبديتُ له أسفي الشديد لعدم توافر مثل هذا المبلغ معي، قال على الفور: على العموم ممكن السجاير تسد، لو تدبر لي ثلاثين علبة سجاير تبقى المشكلة انحلتْ.
وعندما أبديت له استعدادي بتدبير عشر علب سجاير فقط لا غير.
قال ممتنًا: مش بطَّال، بس وحياة والدك تحضرهم بكرة.
وفي اليوم التالي كان يَقتحِم علي زنزانتي. وعندما ناولتُه العلب العشرة، فحصها بدقة، وقال كأنما يخاطب نفسه: على العموم هادبر الباقي أنا، عن إذنك. ولمحتُ بعد قليل عددًا من أصحاب الديون يتردد على زنزانة عبد الستار، ويغيبون داخل الزنزانة قليلًا، ثم يخرجون ومعهم سجاير فرط يحصونها في حرص، ويضعونها في جيوبهم قبل أن يمضوا. ومر أسبوع وأسابيع كثيرة وعبد الستار مكانه، ولم يبرح السجن ولم يقفز من فوق السور، ولم أفاتحه في هذا الموضوع مرة أخرى، فقد حمدتُ الله لأن عبد الستار كف بعد ذلك عن اقتراض سجائر مني.
ولكنه ذات صباح هجمَ علي في فناء الرياضة وأنا أشترك في مباراة لكرة القدم. وقال بلهفة: ألاقي معاك سيجارة؟
ولما اعتذرتُ له عن عدم وجود سجائر معي تلك اللحظة، قال: طيب لما تطلع فوق، ثم أشار إلى حيث يقف العسكري فوق السور، وغمز لي بعينه، وقال بصوت هام: المكان أهه، لو عاوز أهرب دلوقت أقدر، بس يا خسارة.
ويبدو أن عبد الستار كان يراقبني أثناء مزاولتي اللعب، فما أن صعدتُ إلى زنزانتي حتى فوجئتُ به خلفي. وقال وهو يجلس حيث اعتاد الجلوس: شفت بقى المكان، سهل إزاي؟! ولما لم أعلق بشيء فقد قال مستطردًا: بس الله يخرب بيوتهم … الجماعة اللي بره.
ولما استفسرتُ منه عمَّن يكونون هؤلاء الجماعة أجاب بسرعة: أعضاء الحزب، بعتلهم يَحضَّروا لي عربية يقفوا بيها عند الكوبري، عشان بسرعة أختفي من القناطر، لكن لحد دلوقت لا حس ولا خبر. رحت ألتمس الأعذار «الجماعة» فربما لا يوجد لديهم سيارة، في الوقت الحاضر، أو ربما الرقابة المفروضة عليهم لا تتيح لهم التحرك في حرية. وقاطعني عبد الستار قائلًا في حزم: على العموم، أنا قررَّت أنتظر لحد يوم الخميس وإذا مالقتيش رد. ها أهرب، واللي يحصل يحصل.
ثم طلب مني علبة سجاير واحدة، ولم ينسَ أن يقول قبل أن يغادر المكان: على العموم كل شيء بحسابه، وحقك محفوظ.
ومر يوم الخميس، ولم يتلقَّ عبد الستار ردًّا من الخارج، ولم يهرب من السجن. وجاء يوم الجمعة ولم يخرج من الزنزانة، وفي المساء عندما أغلق السجن أبوابه، صعد مسجون من اللصوص على نافذة زنزانته وصاح بصوت كالرعد: يا عبد الستار يا سياسي إذا ما دفعتش اللي عليك بكره هافتح كرشك بنصله، أنا باقولك أهه والسجن كله شاهد، ولم يرد عبد الستار على المسجون، حتى نور زنزانته أطفأه، ويبدو أنه آثر النوم في هذه الساعة المبكرة من الليل.
وفي الصباح استيقظتُ عند الضحى … أيقظني الشاويش عبد القادر وقال وهو يهزني بعنف: إنت لسة نايم. دا انت فاتَك نص عمرك.
ولما استفسرت منه عمَّا يعنيه، قال وهو يضحك: عبد الستار السياسي … ما له؟
– السجن كان هيولع النهارده من تحت راسه. وراح الشاويش عبد القادر يحكي لي كيف فوجئ المساجين بأن عبد الستار مطلوب للترحيل إلى سجن دمنهور تمهيدًا للإفراج عنه من هناك وكيف اكتشف أصحاب الديون هذه الحقيقة في آخر لحظة، فهجموا على مكتب المأمور يريدون الفتك بعبد الستار. واعتذر عبد الستار لهم عن عدم استطاعته دفع ديونهم؛ لأنه فوجئ بقرار الترحيل، ولكنَّ مسجونًا قديمًا قضى في السجن خمسة عشر عامًا أقسم أن يقتل عبد الستار ولو كان الثمن أن يفقد حياته هو الآخر.
واضطر المأمور إلى أن يدفع للمسجون القديم من جيبه ما على عبد الستار من ديون، ثم أعلن حالة الطوارئ في السجن. واستدعى فرقة المطارَدة. وأغلق جميع الزنازين لكي يتمكن من ترحيل عبد الستار إلى دمنهور.
وخُيِّل إليَّ وأنا أستمع إلى رواية الشاويش عبد القادر أنه ربما شعرَت الإدارة برغبة عبد الستار في الهروب فآثرَت أن تنقله إلى سجن أكثر إحكامًا. وربما تم الأمر مصادَفة، ولكنها ستكون فرصة لعبد الستار ليهرب أثناء ترحيله إلى سجن دمنهور. خصوصًا عندما علمتُ من الشاويش أن الحراسة لم تكن مشددة وأن جنديًّا واحدًا هو الذي اصطحبه معه إلى سجنه الجديد.
ولكن كل أوهامي تبدَّدتْ حين علمت من المأمور أن الترحيل تم بناء على رغبة عبد الستار نفسه. وقد أرسل إلى المصلحة طلبًا بترحيله منذ ثلاثة أسابيع. ولما سألتُ عن سر هذا الطلب ما دام الإفراج عنه سيتم بعد أسابيع، رد المأمور بأنه لجأ إلى هذه الحيلة ليهرب من الديون؛ لأنه لو مكَث في سجن القناطر حتى يوم الإفراج عنه، فحتمًا سيقتله مسجون من أصحاب الديون إذا لم يدفع ما عليه قبل يوم الإفراج بيوم.
ومضت أيام كان عبد الستار هو حديث السجن، ثم انشغل السجن بنفسه ونسي عبد الستار. إلا أنا … فقد رحت أرقب يوم الإفراج عنه، ورحت أتابع الصحف بعد ذلك أبحث بين سطورها عن حوادث إخلال بالأمن وقعَت في محافظة الفيوم.
ومضت شهور طويلة، وحل موعد الإفراج عني، ونسيتُ عبد الستار تمامًا في غمرة الأحداث التي استقبلتني خارج الأسوار. ومرَّت سنوات على لقائي مع عبد الستار قبل ترحيله إلى دمنهور، ومنذ أيام رأيت صورته في إحدى الجرائد، وسط حشد كبير من المواطنين، وأين؟ في مدينة الفيوم وفي مبنى الاتحاد الاشتراكي، والمناسبة احتفال ضخم أقامه أنصار تنظيم الوسط تأييدًا لخطوات الحكومة في سبيل حل مشاكل الفلاحين.
كان عبد الستار هو الخطيب، وكانت قسمات وجهه تحمل علامات التأييد المُطلَق والحماس الشديد!