عبد الحفيظ الاشتراكي
كان محمود عبد الحفيظ، أو الحاج محمود كما كان يحلو له أن يطلق على نفسه، أحد الذين أدينوا أمام محكمة الثورة بتهمة مقاوَمة حركة ١٥ مايو. وكان الحاج محمود شابًّا لم يتجاوز الخامسة والثلاثين. قصير القامة متين البنيان، ويعمل موظفًا بالحكومة، ويملك بيتًا في المطرية، ويدير محلًّا للبقالة كان يمتلكه أبوه قبل أن ينتقل إلى رحمة الله. وكان الحاج محمود رغم موقفه الشائن من إخوته البنات بعد وفاة والده، واستئثاره بتركة الوالد بدعوى الحفاظ عليها من التبديد. رغم موقفه هذا فقد كان شديد التدين شديد الاستقامة، من المكتب إلى البيت، ومن البيت إلى الدكان.
ورغم حرصه الشديد الذي يبلغ حد البخل، إلا أنه كان يحلو له بين الحين والحين استقبال بعض الأصدقاء، فيجلسون أمام الدكان في أمسيات الصيف الجميلة، وكان الحاج محمود يُقدِّم لهم في تلك السهرات الشاي، وأحيانًا الحلوى والسجاير عن طيب خاطر. ورغم أنه كان نصف متعلم، إلا أنه كان راضيًا عن نفسه تمام الرِّضا، فهو يقرأ الجرائد اليومية، ويستطيع أن يقرأ ما بين السطور. وكان له رأي في السياسة يُبديه دائمًا بين الحين والحين، وإن رأيه لا يتعدَّى نطاق انتقاد سلوك لمأمور الشرطة، أو مهندس الكهرباء، أو أمين الاتحاد الاشتراكي في الحي. ولذلك عندما تولَّى مسئولية الاتحاد الاشتراكي في الزيتون أحد الرجال الأذكياء سارع بضم الحاج محمود إلى عضوية الاتحاد الاشتراكي، أولًا ليتقي شَرَّه، وثانيًا ليتسنَّى له استخدام سهرات الدكان ضد من شاء من خصومه.
وطار الحاج محمود فرحًا لهذا الشرف الرفيع، فقد أصبح واحدًا من أولي الرأي، واتَّسعَت حلقات المساء التي يعقدها أمام الدكان، وكان سعيدًا رغم زيادة التكاليف والأعباء.
والحق أن الحاج محمود لم يكفَّ عن نقد مأمور الشرطة، ومهندس الكهرباء، ورجال البلدية. ولم يبخل بمساعدة على مَن يطلبها بشرط إلا تُكلِّفه نقودًا؛ لأنه رغم مكاسبه كان دائمًا في ضائقة مالية، بسبب انشغاله في بناء الدور الثالث فوق البيت الذي ورثه عن أبيه، وحتى بعد أن انتهى من بناء الدور الثالث، فقد شرع في بناء الدور الرابع، وكانت زوجته المدبرة التي تكبره عمرًا. وتفوقه ذكاء، هي خير مُعِين له في تنظيم شئونه بحيث شعر الحاج محمود أنه فعلًا محظوظ، فقد فاز بالزوجة الطيبة، والعيش الطيب، والمركز المرموق.
وعندما وقعت كارثة ١٩٦٧م، فقَد الحاج محمود صوابه، وفقد توازنه أيضًا. وعندما رأى عَلم إسرائيل يرفرف على شاطئ القناة بكى من شدة القهر، وانزوى بعد ذلك في حدود بيته ودكانه ومكتبه بالوزارة. وكفَّ عن التردد على مكتب الاتحاد الاشتراكي وحتى السهرات التي كان يعقدها أمام الدكان في أمسيات الصيف الجميلة عزف عنها. وبدَا للناس في الحي أنه تفرَّغ لشئونه الخاصة ولم يَعُد له أدنى صلة بما يدور في البلد من أحداث. وربما استبَدَّ الحزن بهؤلاء الذين كانوا يستفيدون من نشاط الحاج محمود السياسي، ولكن الفرحة استبدَّت أكثر بزوجته التي رأت في مسلكه الجديد عونًا لها على التوفير استعدادًا لبناء الدور الخامس. فلم تكن الزوجة تؤمن بجدوى العمل السياسي، بل كانت ترى فيه وفي التدخين ضررًا بالصحة وبالمال، وكانت عبارة مفيش فايدة هي شعارها المفضَّل، وكانت تردِّده دائمًا كلما رأت الحاج محمود منغمسًا في مناقشة حادَّة حول القضايا الهامة في البلاد!
ولكن فرحة الزوجة لم تدم طويلًا؛ فسرعان ما دب النشاط في الاتحاد الاشتراكي، وجاء أمين جديد في الحي أكثر جدية من السابق، وبحث في دفاتره القديمة عن الأنصار الذين ولَّوْا، وقرَّر أن يلم الشمل من جديد، وذهب الأمين بنفسه إلى دكان الحاج محمود وسهر معه حتى منتصف الليل يحاول إقناعه بالعودة للعمل السياسي ولكن الحاج محمود أصر على موقفه، وأعلن رأيه بصراحة للأمين الجديد، وانصرف الأمين دون أن يقطع الأمل في عودة الحاج محمود! ولكن الزوجة أنذرَته بأنها ستهجر البيت إذا عاد إلى خوتة الدماغ من جديد.
وقام الحاج محمود تلك الليلة بعد أن وعد زوجته وعدًا قاطعًا بعدم العودة إلى نشاطه السابق، لكن زيارات الأمين تكرَّرت بعد ذلك وكان يخوض أحيانًا في السياسة مع الحاج محمود وأحيانًا يكتفي بكلام عام حول الأحوال السائدة في البلاد.
والحق أن الحاج محمود كان سعيدًا بلقاء الأمين، وكان أكثر سعادة بجلوس الأمين أمام باب الدكان. وذات مساء وبعد أن انتهت السهرة همس الأمين في أذن الحاج محمود بأن الاختيار قد وقع عليه ليكون عضوًا في التنظيم الطليعي. حاول الحاج محمود أن يعتذر، ولكن الأمين قاطعه في حزم: اعتذر بقى لعبد الناصر، أنا ماليش دعوة بالحكاية دي.
ولم يغمض للحاج محمود جفن في تلك الليلة. فأين هو من عبد الناصر؟ وكيف عرفه عبد الناصر؟ ولماذا اختاره هو بالذات. وعندما سألَتْه زوجته عن سر أرَقِه وسُهاده، اعتذر لها بأنه يعاني من صداع حادٍّ ولم يشأ أن يكشف لها عن السر!
وبعد أيام اعتذر الحاج محمود لزوجته في الذهاب للعزاء في وفاة والد أحد الأصدقاء. وذهب إلى أول اجتماع لأعضاء التنظيم في حي الزيتون. وكاد يُغمَى على الحاج محمود من هول المفاجأة، فقد رأى لأول مرة المحافظ بلحمه ودمه، وأكثر من هذا رأى أحد الوزراء المرموقين، ثم عددًا من كبار المسئولين. إذن فالأمر لا هزل فيه. وهذا التنظيم يختلف عن الاتحاد الاشتراكي.
وشعر الحاج براحة تغمره وسرور يسري في دمه … لقد أصبح الآن رجلًا مسئولًا، وسيثبت للجميع أنه أهل لها وأنه أجدر الجميع بحملها وأقدرهم على حلها! وبكَت زوجة الحاج محمود عندما جلسَت معه بعد عودته تستمع إليه عمَّا حدث بالتفصيل.
ورغم بكائها فقد أقنعها أن ما حدث فيه خير له وخير للبلاد. وهدَّأ روعها قليلًا عندما ألمح لها أن في استطاعته الآن مقابلة المحافظ بسهولة، وأن هذا سيفيده حتمًا في الحصول على مواد التموين!
ومضت الحياة بالحاج محمود بعد ذلك عادية رتيبة إلا من اجتماع أسبوعي يعقده في التنظيم، صحيح أن الاجتماع اقتصر بعد ذلك على بعض المواطنين وأمين القسم. وصحيح — أيضًا — أن المحافظ والوزير وبقية المسئولين اختفوا بعد الاجتماع الأول. ولكن الحاج محمود كان مطمئنًّا إلى أن مَحاضر الاجتماعات تُرفَع إلى المستوى الأعلى حتى تصل في النهاية إلى الرئيس نفسه؛ ولذلك لم يبخل برأي، ولم يكفَّ عن أي نشاط عُهِد به إليه!
ورُوِّع الحاج محمود بوفاة الرئيس المفاجئة، وفكَّر عندئذ في الانسحاب من العمل السياسي والالتفات إلى الوظيفة والدكان، ولكن الأمين المُدرَّب أقنعه بأنه إذا كان الرئيس قد مات فإن التنظيم حي لا يموت، وأن على التنظيم الآن أن يحكم ويسد الفراغ الذي نشأ بوفاة القائد.
واقتنع الحاج محمود بوجهة نظر الأمين، وراح يُشارك من جديد في الاجتماعات ويُدلي بالآراء ويُسجل رأيه في المحاضر. وعندما بدأ الصراع في قمة السُّلطة لم يشعر الحاج محمود في أي لحظة أن ثمة صراعًا يدور في القمة. فقد حَجَب عنه الجميع أنباء الصراع. ولذلك عندما كلَّفه الأمين بقيادة مظاهرة بعد صلاة الجمعة تُطالِب بالوحدة الوطنية وعودة الوزراء المستقيلين، لم يَتردَّد لحظة، وعندما ألقى البوليس القبض عليه طلب السماح له بالاتصال تليفونيًّا بالأمين الذي كلفه بالمظاهرة، لكنه فوجئ بالأمين نفسه في الزنزانة نفسها التي انحشر فيها بعد قليل.
تمالَك الحاج محمود نفسه وعكف على الصلاة وترديد الأدعية. وحرص أن يؤدي الفريضة في مواقيت الصلاة.
وآثر الوحدة فابتعد عن الجميع، ولم يشغل باله التحقيق وما يجري فيه. فهو لم يفعل شيئًا سوى أنه حاوَل قيادة مظاهرة فاشلة لم تتم. وهو حتى عندما فكَّر في قيادتها كان يعتقد لحظتها أنه يفعل هذا في سبيل المصلحة العامة. ولم يكن يعلم — حقيقة — أن هناك صراعًا ما.
ولم يكن منحازًا لفريق ضد فريق فهو انحاز لمصر ووقف إلى جانب النظام ككل. ولا تربطه بأحد في السُّلطة علاقة على أي نحو! ولكن الذي شغله بالفعل، هو كيف يصبح دخول تنظيم الحكومة عملًا ضد الحكومة؟ وكيف يتحوَّل رجل النظام إلى مناهض للنظام الذي هو جزء منه.
إن التُّهمة التي وجَّهها المحقق للحاج محمود هي محاوَلة قلْب نظام الحكم. والحاج محمود كان يؤمن بأنه هو نفسه نظام الحكم. وظل هذا الإيمان راسخًا في قلبه حتى بعد أن دخل الزنزانة وأغلقها عليه الحارس بالمفتاح. فقد ظن أن في الأمر خطأ ما، وأن أحدهم سيفتح الزنزانة بعد قليل ليعتذر له. والذي غاظه أكثر أن كل الذين كانوا معه لا يزالون في السُّلطة، ولا أحد ضاع إلا هو والأمين، بل إن الأمين الجديد الذي كان زميلًا له في التنظيم، وربما كان أكثر منه حماسًا للمظاهرة، خطب في الحي منددًا بالخونة وأعداء الوطن، وكان يقصد الحاج محمود والآخَرِين.
كيف حدث هذا؟ وما الذي جرى على وجه التحديد؟ ولم يجد الحاج محمود أجوبة على الأسئلة التي ازدحم بها رأسه. فدفَن همه في العبادة وذِكْر الله. فلم يَعُد أحد قادرًا على تخليصه من ورطته إلا سبحانه! وانتهت المحاكمة ودخل الحاج السجن، وبدأ يتأقلم مع حياته الجديدة، ويرضى بها على أنها قضاء الله وقدره. ومن يدري؟ عسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم! ولا بد أن عينًا شريرة حسودة أصابته في الصميم.
وما دامت الصحة جيدة والدكان والعمارة في أحسن حال، فكل شيء على ما يرام! وكان من عادة الحاج كلما استيقظ في الصباح الباكر، تشعلق على باب الزنزانة ثم أذن للصلاة، ثم يردد كلمة يا رب أكثر من مرة، ثم يطلق صيحة رهيبة بعبارة لا يغيرها على الإطلاق «فرجه قريب»!
وذات صباح، والحاج في نزهته المعتادة في فناء السجن، فوجئ بالمأمور يستدعيه إلى مكتبه لأمر هام، وعندما مثل الحاج بين يدي المأمور حدَّق المأمور فيه طويلًا، ثم سأله سؤالًا جعل شعر الحاج محمود يشتعل شيبًا، ومفاصل عظامه تتفكك كأنما أصابها زلزال، ولم يستطع الحاج محمود أن ينطق بالجواب، هل ينفي؟ هل يعترف؟ هل يرفض الإجابة على السؤال؟
وأخرجه من حيرته، صوت البيه المأمور يصرخ فيه مرة أخرى بالسؤال: إنت اللي كل يوم تقول «فرجه قريب»؟!
وامتقع وجه الحاج محمود عند سماعه لسؤال المأمور، فمن الذي أبلغه بهذا العمل الذي يعتبر سلوكًا خاصًّا للحاج؟ ثم ما هي عواقب مثل هذا العمل؟ وهل الابتهال إلى الله جريمة؟ وعندما أعاد المأمور سؤاله، سارع الحاج بالردِّ، فقد كانت لهجة المأمور جافَّة وجادة: أنا باذكر الله يا بيه.
وقال المأمور وهو يعنف الحاج: ابقى اذكر الله في سِرِّك.
انزوى الحاج محمود بعد ذلك في زنزانته، يراقب أحوال السجن والمساجين. وتركَّزت كل غرائز التاجر في الحاج، فاكتشفَ أن التجارة في السجن أربح منها في الخارج. فهنا لا إيجار ولا ضرائب ولا مصاريف مياه وكهرباء، صندوق السجاير الذي يُباع بربع جنيه في الخارج يُباع في السجن بضعف ثمنه. السجاير هي عملة السجن وهي أربح تجارة. وللحاج محمود قيود في مسألة السجاير، وهو في البداية امتنع عن شراء أي سجاير من الكانتين أو استلام أي سجاير من الخارج، والسبب أنه لا يدخن. ولكن ما أعظمها الآن من فرصة، إذا اغتنمها الحاج فاز من السجن بغنيمة لا يستطيع الحصول عليها في الخارج!
ولم يضع الحاج محمود وقتًا، أرسل إلى زوجته خطابًا يوصيها بأن ترسل له كميات كبيرة من السجاير، وظنَّت المرأة الطيبة المدبرة أن في الأمر خطأ ما. ولذلك لم تحضر معها أي سجاير عندما جاءت لزيارته.
ولكن عندما شرح لها الحاج محمود تفاصيل مشروعه الجديد؛ رحَّبَت على الفور وسرعان ما تكدَّست زنزانته بصناديق سجاير من كل الأنواع، وجذب الزحام الشديد على زنزانة الحاج نظر الشاويش. ولكن الحاج المُدرَّب استطاع أن يملأ فم الشاويش وأن يسكته أيضًا.
آثار الحاج محمود حسَد التجار الآخَرين في السجن وكان عليه أن يدخل سلسلة معارك طويلة ضد الذين احتكروا التجارة في السجن منذ أمد طويل، ودخل الحاج محمود معركة وأخرى، ولكنه اكتشف أن الطريق طويل، وأنه لا محالة هالك في النهاية، فآثر الانسحاب من المنافسة الدامية، ولكن إلى عمل آخر لا يستطيع أحد أن ينافسه فيه. فقد كان السجن يستقبل كل يوم سبت عددًا من المساجين كلهم شُبَّان، كلهم جاءوا إلى السجن لارتكابهم جريمة واحدة. هي الهروب من الجندية؛ ولأنهم منقولون من السجن الحربي، فقد وصلوا إلى سجن القناطر في غاية الإعياء، وليس مع أحد منهم سجاير ولا نقود، وكانت مهمة الحاج محمود عندئذٍ هي مد يده الكريمة إلى هؤلاء الضائعين، بالسجاير وعلب الأطعمة المحفوظة على أن يدفع هؤلاء ما عليهم من نقود بعد ذلك. عملية فيها مخاطرة، ولكن الحاج قام بها عن طيب خاطر.
استأجر الحاج مسجونًا من عُتاة المجرمين، له سِجِل حافِل في الجريمة، وسوابق في فقأ أعين الحراس، الأمر الذي جعل إدارة السجن تغمض عينها عن نشاطه المريب داخل الأسوار. وكان سعيد — هذا اسمه — شابًّا في مقتبل العمر. قصير القامة مَتين البنيان، قويًّا كالثور، وكان مسلحًا بخنجر له نصل حادٌّ يخفيه في طيات ملابسه، ورغم أن الحراس الذين تولَّوا تفتيشه أكثر من ألف مرة، كانوا يعرفون موضع الخنجر في ملابسه، إلا أن أحدًا منهم لم يجرؤ على ضبطه في يوم من الأيام.
وكان سعيد ينتقل طول النهار تحت سمع وبصر الإدارة بين العنابر قاطعًا فناء السجن، ليوزع السجاير وعلب الأطعمة المحفوظة في زنزانة الحاج محمود إلى مختلف الزنازين. ثم يعود آخر الأسبوع فيجمع الحساب ممن تلقَّوا نقودًا من ذويهم، وكان يقنع بربع حصة له عن عمله مع الحاج، تاركًا للحاج محمود الباقي نظير رأس المال. وتعرضه للإفلاس تمامًا إذا تم ترحيل هؤلاء المساجين فجأة يومًا ما!
واطمأن الحاج محمود إلى العملية الجديدة. فكل خطوة فيها تسير حسب الخطة الموضوعة والأرباح فاحشة، والمستقبل زاهر، وفترة السجن لن تضيع هدرًا، ورَب العباد الكريم، يقطع هنا ليوصل هناك. وتسلَّح الحاج محمود بعدة دفاتر لينظم حساباته؛ ولأن الورق والقلم من الممنوعات بالنسبة للمسجون السياسي، فقد جعَلها في عهدة شريكه سعيد، وكان سعيد يحملها إليه في الصباح، ويقضي الحاج محمود وقتًا طويلًا في إثبات الديون، وشطب المُتحصِّلات، وإسقاط الديون الميتة التي تم الإفراج عن أصحابها! وتم ترحيلهم من السجن.
واتسعت أعمال الحاج محمود، فصار يشتري من السجن بضائع يسلمها لزوجته لتبيعها في الخارج. وكانت هذه أول سابقة في تاريخ السجون المصرية، ولكن سيظل الفضل في اكتشافها للحاج محمود عبد الحفيظ.
وأصل الحكاية أن المسجونين يَتلقَّون من ذويهم في الخارج طرودًا، وهذه الطرود تحتوي على ملابس شتوية، وأطعمة، وصابون، ومعجون أسنان. ولما كان المسجون ليس في حاجة إلى هذه الأشياء بقدر حاجته إلى سجائر كثيرة، فإن أغلبهم يعرضون ما تلقوه للبيع مقابل سجائر يدخنونها ويستعملونها في رشوة الحراس وقضاء مآربهم الأخرى.
وانتهز الحاج محمود الفرصة، وراح يشتري كل شيء، ملابس، معجون أسنان، أحذية جديدة، صابون معطر. وذات مرة تلقَّى مسجون من بلاد المغرب عدة صناديق سجاير من نوع فرنسي غالي الثَّمن، ولكنه ليس ذائعًا في مصر، وأراد الرجل المغرب أن يبادل السجاير الفرنسية بسجاير مصرية، وتقدم الحاج محمود وحل المشكلة. ولكن السجاير الفرنسية لم تلقَ رواجًا في دكان الحاج فأراد إلغاء الصفقة، ولكن الرجل المغربي اعتذر، وكانت خناقة حامية، وصلت إلى مكتب المأمور. ومن خلال التحقيق السريع، الذي أجراه المأمور مع الحاج والرجل المغربي، استطاع أن يكتشف بعض جوانب القضية الغريبة الغامضة وربما وصل إلى استنتاج لحقيقة الدور الذي يقوم به الحاج في السجن!
ولكن هذا الحادث العابر لم يجعل الحاج محمود يتوقف عن العمل، بل ظل يزاول نشاطه كالعادة بمنتهى الهمة والنشاط، ولكن لأن الرياح لا تأتي دائمًا بما تشتهي السفن، فقد بدأت المتاعب تلوح في الأفق فقد مضَت عدة أسابيع والحاج محمود يثبت في دفاتره ديونًا، دون أن يكون هناك أية مدفوعات. وكان سعيد يسوق في كل مرة حججًا لعدم التحصيل، والحاج محمود ساكت لا يستطيع حراكًا. فهو أولًا لا يعرف أصحاب الديون، فالعلاقة معهم مقصورة على سعيد وحده. وهو لا يستطيع أن يُكذِّب سعيدًا أو يتهمه بالتحصيل؛ لأن عواقب عمل مثل هذا لا يعلم بها إلا الله!
وفكر الحاج محمود أن يتوقَّف قليلًا عن العمل، خصوصًا أن موعد الإفراج عنه قد أصبح على الأبواب. وفاتَح سعيدًا في الأمر، ولكن سعيد اعترض بشدة، فكيف يتوقَّف والأرباح تنهمر على رأسيهما كالمطر، واقترح سعيد اقتراحًا جهنميًّا لمعت له عينَا الحاج محمود. لماذا لا يواصل الحاج تجارته في السجن وهو في الخارج. إن سعيدًا مقطوع من شجرة، فلا أحد يزوره ولا أحد يسأل عنه حتى بخطاب. ويستطيع الحاج أن يزوره مرَّتَين كل شهر، وأن يحمل له البضاعة وسعيد يمارس عمله ويسلم الأرباح للحاج. كما أن من حق الحاج أن يرسل طرودًا لسعيد دون أن يتحمل مشقة المجيء للزيارة. إنها عملية سهلة ومربحة وستحقق للحاج دخلًا يعوضه عن فقد الوظيفة، وعن وقف الحال في الدكان!
وسرَح الحاج تلك الليلة في مشروع سعيد ولكن الخوف الوحيد أن يطمع سعيد في أرباح الحاج محمود فيلطشها كلها ويرفض الدفع، ولكن تجربة الحاج محمود مع سعيد تثبت العكس. فهو في غاية الأمانة وظل يدفع ما عليه بانتظام، صحيح أن هناك متأخِّرات لعدة أسابيع ولكن الذنب ليس ذنبه، بل ذنب المساجين المفلسين الذين يرفضون الدفع. على العموم هو مشروع جيد فقط لو اكتشف الحاج طريقة تضمن حقوقه عند سعيد. هكذا همس الحاج محمود لنفسه وهو يتهيَّأ لصلاة العشاء في زنزانته التي حرص على إطفاء النور داخلها حتى لا يزعجه حرَّاس الليل بطلباتهم المتكررة.
ونام الحاج محمود في تلك الليلة نومًا هادئًا مباركًا، وعندما استيقظ على ضجة المساجين، كان الوقت ضحى، والشمس تتسلق الأفق. والجو رائع، ورائحة زهر البرتقال تفوح في جو القناطر، وتوضأ الحاج محمود وخطف ركعتين سريعتين، وخرج ليشتري بعض الوقود، فقد نفدت الكمية التي كانت لديه، وكان محمود يلجأ في مثل هذه الأعمال لسعيد، وعندما عرج الحاج على زنزانة سعيد اكتشف أنها مغلقة، فأدرك أن سعيدًا ربما في جولته المعتادة لجمع النقود المستحَقَّة على المساجين. ولذلك راح يفتش عليه هنا وهناك دون أن يعثر له على أثر. وفجأة رأى أحد أصدقاء سعيد يقطع الفناء فناداه الحاج وسأله عن سعيد، وقال الرجل وهو يحث الخطى في طريق إلى حيث يريد: سعيد رحَّلوه النهارده الصبح، راح سحن قِنا. ونزل الخبر على الحاج محمود كالصاعقة.
وانزوَى الحاج محمود بعد هذا الحادث يلعق جراحه في اكتئاب شديد لقد تحمَّل المحاكمة والسجن وضياع المستقبل، ولكنه لم يستطع أن يتحمل ضياع تجارته في السجن! وماذا يستطيع أن يقول لزوجته وكيف يُبرِّر ما حدث له؟
ولكن ليس الذنب في الواقع ذنب الولد سعيد، السياسية هي السبب! ملعون أبو السياسة وملعون أبو الذي أغراه بالعمل فيها. ما كان أغنى الحاج محمود عن العمل بالسياسة، فهو موظف حكومة وصاحب دكان ومن ذوي الأملاك، لو عاش وحده ولنفسه لكانت أحواله عال العال. وضربَت موجة من الأسى نفَس الحاج محمود عندما تذكَّر أيامه الخوالي. صحيح كان صاحب سُلطة. وكان عسكري المأمور يضرب له تعظيم سلام إذا رآه.
فلتذهب كلها إلى الجحيم، وعليه أن يواجه حاضره الأغبر ومصيره المجهول، وأن يحاوِل تعويض خسارته الباهظة قبل أن تمر الأيام، ويكون عليه بعد ذلك أن يواجه أيامًا عصيبة بعد الإفراج. وفكر الحاج في معاودة نشاطه داخل السجن ولكن بمساعدة آخَر أكثر أمانة من سعيد، ولكن من أين يجد إنسانًا صاحب أمانة في سجن المفروض أن كل من فيه فقدو هذه الصفة قبل الوصول إليه!
ولكن لماذا لا يقوم الحاج محمود بالعمل بنفسه، ما حك جلدك مثل ظفرك! على الأقل ستكون الأرباح كلها في جيبه، وهو يستطيع عندئذٍ أن يتساهل قليلًا في الأسعار، ولو فعل ذلك فسيجني مع الربح، الشكر والذِّكر الحَسن! ولماذا لا يستعين الحاج بواحد من حراس السجن، وسيتوافر عندئذٍ الربح مع الحماية. فكرة جهنمية لم تخطر على بال أحد من قبل. وراح الحاج يستعرض في ذاكرته كل الحراس الذين يعرفهم. سيف الطويل العريض الشرس، ولا عبد الخالق النزيه صاحب المزاج، وعبد القادر رجل معتوه ومزاجي، أحيانًا يبدو طيبًا للغاية، وودودًا أيضًا، وأحيانًا يتحول إلى وحش كاسر! وعم توفيق العجوز الخبير في فنون الرشوة والتهريب، لم يبق إلا الضباط. أبو بكر الشرير الذي يهوى الأذى أكثر من هوايته للنقود. وإبراهيم الطيب المزاجاتي المدمن على الحشيش والأفيون.
وقرر الحاج محمود أن يفاتح الضابط إبراهيم في الصباح، وعندما وقف الحاج أمام الضابط في مكتبه الملحق بالعنبر وجَد المسجون روبير في المكتب، فلم يفتح الموضوع واكتفى بالحديث في موضوعات عامة لا صلة لها بالموضوع، وأيام كثيرة مرت والحاج محمود يحاول ولكنه لا يستطيع، وأخيرًا قرر أن يتوكل على الله وأن يباشر المهمة بنفسه. فلم يبق على موعد الإفراج إلا ثلاثة أشهر، ولا بد أن يجني فيها ما يستطيعه حتى يعوض ما خسره في سالف الأيام، ولما كانت تجارته وقفًا على الإيراد الجديد من العسكر الهاربين من الخدمة، ولما كان هؤلاء يسكنون في دور ٦ في عنبر «ب» فقد توجَّه الحاج إلى هناك لكي يلقي نظرة على السُّوق قبل أن يبدأ العمل.
وراح الحاج منذ أن خرج من زنزانته يوزع السجائر ابتداء من شاويش الدور على شاويش العنبر إلى عسكر البوابة إلى حضرة الصول الذي يتَّخِذ الفناء مقرًّا مختارًا له. وعندما وصل إلى عنبر «ب» قدَّم السجاير لعسكري فرفض، وتعجَّب الحاج فهذا أول عسكري في تاريخ السجون يرفض السيجارة. ولو قالوا للحاج محمود إن الشمس تغرب في المشرق لصدق، ولكن عسكري السجن يرفض سيجارة هذا المستحيل! وفلسف الحاج محمود الأمر لنفسه، الحاج من رجال السياسية، فربما العسكري يعرف أن الحاج من رجال السياسة ويعرف — أيضًا — أنه سيفرج عنه عما قريب، والسياسة بحرها غويط، ورجالها أحيانًا في السجن، وأحيانًا في السُّلطة.
بعيد النظر هذا العسكري، وهو يحسب حساب الأيام القادمة، ولكن ما أشد دهشة الحاج محمود عندما رفض شاويش عنبر «ب» أن يأخذ منه سيجارة. ورفض — أيضًا — شاويش الدور. هذا عنبر ملائكة وليس مثل عنبر «أ». وفكر الحاج أن يطلب النقل إلى هذا العنبر، وستكون التجارة من هنا أربح؛ لأنها ستكون بلا مصروفات، وصعد الحاج السلالم. كان العسكر السجناء يَتلطَّعون في الدور، ويجلسون في كسَل على الأرض، وعندما اقترب الحاج محمود من الجماعة وألقى عليهم السلام، ردُّوا عليه بفتور، ولكنه عندما أخرج علبة الدخان من جديد نهضوا في نشاط وتَهافتوا عليه كالذباب. وعندما سألهم السؤال التقليدي: كلكم عساكر في الجيش؟ ردُّوا عليه جميعًا بالإيجاب. واستعد الحاج محمود ليبدأ الشغل معهم، ولكن الكلمات احتبست في حلقه؛ فقد هجم عليه المأمور والضابط أبو بكر وضابط آخَر في ملابس مَدنِيَّة، لقد كان الحاج إذن تحت المراقبة. وهذا هو السبب الحقيقي الذي جعل العسكري والشاويش والشاويش الآخَر يرفضون سيجارة الحاج، ولم يدرك الحج محمود حقيقة الأمر إلا في الليل وأمام النيابة. لقد كانت التُّهمة الموجَّهة له هو الاتصال بعساكر القوات المسلحة لتكوين عصابات لمناهضة نظام الحكم. وعبثًا حاوَل الحاج إفهام السلطات أنه إنما كان يريد التجارة معهم والربح من ورائهم، وهل يُعْقَل أن يشتغل السياسي بالتجارة؟! إنها مؤامرة جديدة على نظام الحكم!