سيد قراره
«جيمس لويس ماكفارلين.»
أنزل صاحب هذا الاسم قدمَيه على الأرض وجلس منتصبًا فجأةً، محيطًا رُكبتَيه بيديه الكبيرتين حتى يتوازن. كان طَوالَ الساعة الماضية، يُصغي بين فترات من النُّعاس شبهِ الواعي، إلى الحُكم الذي يتلوه رجالٌ في موقع المسئولية على الرجال الذين يملكون زِمام مصائرهم في أياديهم، لكن لم يَرُق له أن تُعرَض حالته هو عليهم للبتِّ فيها.
لقد جلس في ذلك الصباح طَوال ساعة تحت أشعَّة الشمس أمام مبنى المستشفى الضخمِ حيث يُحاول بلدُنا علاجَ الرجال الذين كانوا بالخارج للمشاركة في الحرب. وأدرك مؤخرًا أنه في معركته لاستعادة عافيته يشنُّ حربًا خاسرة. إذ لم يستطع التغلب على الجُرح الناجم عن إصابته بشظايا في الجزء الأيسر من صدره بالنجاح نفسِه الذي حارب به العدو. لذلك عزَم على اختبار قوته. فنهض ونزل إلى الطريق ليعرف إلى أين قد تحمله ساقاه على وجه التحديد. لكنه نسي أن يضع في حسبانه أن نزول الجبل أسهلُ كثيرًا من صعوده؛ ومِن ثَم واصل السير حتى بدأَت رُكبتاه تخوران ووجد أن طاقته قد استُنفدت. فاستراح بعضَ الوقت ثم استدار عائدًا، لكن كانت رحلة الصعود بطيئةَ الوتيرة، بذل خلالها مجهودًا مؤلمًا؛ مجهودًا جعل العرَق الباردَ يسيل منه والنارَ المتأجِّجة تشتعل في صدره الأيسر، فيما صارت الأربطةُ المحيطة بكتفَيه وحول جسده أدواتٍ لتعذيبه. وظلَّت شمس كاليفورنيا الحارَّةُ مسلطةً عليه حتى تقطعَت أنفاسه. فاضطُرَّ مِرارًا إلى أن يتوقف ويلتمسَ مكانًا للاستراحة على أي صخرة ناتئة أو رصيفٍ جافٍّ على جانب الجبل. وقد أُنهِكَت عيناه المتعبتان من مشهد الألوان المبهرة الذي امتدَّ محيطًا به من كل جانب؛ فهناك اللون الأخضر لأشجار البلُّوط الحي ونباتات البهشيَّة الزاهية، واللون الأبيض المخالط للزهري لزهور أشجار المانزانيتا المتخِذة شكلَ الجرار، والمخمل المائل إلى اللَّون الأرجواني لنبات المريميَّة، والأزرق الأرجواني لزهور المريمية الشوكية بنَسيجها الرقيق المتكتِّل. الأشياء الوحيدة التي رآها كانت رءوسَ نبات المحارب الهندي المتواترة، وقد لفتت نظره لأنها كانت مثل الجروح على الأرض، في حُمرة الدم الحقيقي، في حمرة الدم الذي أغرق العديدَ من ساحات المعارك، الذي سال في عدة مستشفيات، الذي يراه كلَّ يوم في الضمادات التي تزال من جانبه.
لقد رأى دماءً كثيرة جدًّا لدرجة أن رؤية أي شيء يُذكره بها أصبح يُثير غثَيانه؛ لذلك فقد تولى عن الزهور البديعة التي تَصبَغُ جانب الجبل بشغَف، وارتفع ببصره إلى زُرقة السماء. لكن النظر إلى السماء لم يزد سِوى أن جعل المسار الوعر الذي عليه سلوكُه أكثرَ جِلاءً. هنا خطر له فِقرةٌ كان يسمع أباه يقرؤها من مِنبره في صباح أيام السبت بتفخيم حرف الراء المعهود لدى الاسكتلنديِّين الذي لم يَمحُه بقاؤه عمرًا في بلدنا: «أرفع عينَيَّ إلى الجبال، من حيث يأتي عوني.»
راح يرفع عينَيه إلى التلال والجبال لكن لم يأتِه أيُّ عون. فتساءل إذا ما كان السبب أنه يُطيع أوامر رجال آخَرين، أم لأنه قد نسي الله. لقد علَّمه أبوه وأمُّه في طفولته أن يُصلي ويؤمن بأن صلواته ستُلبَّى. لكنه حين سافر لخدمة بلده، توقف عن الصلاة لسببٍ ما يتعذَّر تفسيره وركَّز كل قُواه في القتال. فقد ارتُكِبت فظائعُ في حق رجالٍ من عِرقه ودمه في بداية الحرب دفعت كل الرجال الاسكتلنديِّي الأصل والميول إلى الجُموح بعضَ الشيء.
لقد شارك في الحرب وهو واحدٌ من أكثر الرجال تهذيبًا. لكنه انبرى للمجازفة، التي كان رجالٌ آخَرون من بلدنا بأصولهم المختلفة يشعرون بأنها ستُحرِّر العالم من الطغيان، بينما يعتمل في صدره غضب، وشعورٌ يتشاطره كلُّ الرجال من سُلالة شعبه وبلدهم. فقد ألمَّ بفرقة معينة من الاسكتلنديين أشياءُ، لا يمكن لرجلٍ تَسري في عروقه قطرةُ دمٍ اسكتلندي أن ينساها مطلقًا وإن أراد. تحت وطأة هذا الشعور، نسي الشابُّ، الذي كانت أمُّه دائمًا ما تُشير إليه بحبٍّ قائلةً: «عزيزي جيمي»، التعاليم والدين الذي ربته عليه، وسافر ليرى كم يستطيع أن يشفيَ غليله الشخصيَّ من الرجال الذين جرحوا قلب اسكتلندا بأسْرِها جرحًا أعمقَ مما تستدعي مقتضياتُ حربٍ عادية أن تُحدِثه في قلب أمَّة.
لقد ذهب للثأر وانتقم أشدَّ الانتقام من أكثرَ من عدو، ثم حانت الساعة التي دخلت فيها صدرَه شَظيَّةٌ مسنَّنة من الحديد المغطَّى بالوسخ وسمَّمَت دمَه. وبعد أسابيع على الحدود، عاد يُجرجر قدمَيه، وهو يحمل الآن جُرحَين لن يندملا؛ أحدهما في قلبه لا يستطيع الناسُ رؤيته، والآخر في صدره ظلَّ الأطباء والممرضات يُطبِّبونه دون جدوى.
حين حُسِم قرارُ عدم إمكانية عودته إلى الخدمة أُعيد إلى الوطن. هنا أُضيف جُرح آخرُ للجُرحَين الغائرَين بالفعل اللذَين كانا يُعذبانه. إذ إنه خلال سنواتِ غيابه الثلاث، قضَت الأمُّ الضعيفة الضئيلة نَحْبَها، متأثرةً بخوفها وقلقها على ابنها الوحيد، فلم يَصمُد طويلًا أبوه، الذي كان دائمًا ما يعتمد عليها، ولحق بها. وبِيع بيتُهما الصغير لسداد نفقات مثواهما الأخير، فلم يبقَ في هذا العالم بأسرِه شيءٌ يعود له؛ لا قريب ولا بيت. حتى أصدقاؤه تفرقوا ولم يكن أمامه سوى أن يظلَّ تحت وصايةِ الحكومة حتى يَحينَ الوقتُ الذي يُعلن فيه بأهليته أن يبدأ حياةً لنفسه مجددًا.
تقديرًا لخدمته الشجاعة، التي دلَّ عليها زوجان من الميداليات وشارةٌ ثُبِّتت فوق الجرح الذي حمَله؛ أُرسل إلى كاليفورنيا، حيث كان من المأمول أن تأتيَ الشمس الساطعة، والفاكهة، وهواءُ المحيط النقي، والصيف الدائم للأرض الطيبة، بالشفاء الذي فَشِل الأطباء في أن يأتوا به. لقد مُنح نعيمَ أفضلِ مكانٍ يمكن أن يُرسَل إليه رجلٌ في حالته. المنتجع الجبَلي، أروهيد سبرينجز — القابع عاليًا فوق جبل تُغطيه خُضرةُ كلِّ الأشجار والشجيرات والكروم المحلية، حيث الهواءُ معبَّقٌ برائحة الزهور ومفعَم بشَدْو الطيور — كانت الحكومة قد أخذَته وجعلَته مستشفًى كبيرًا، ويرجع سبب اتخاذ الموقع في هذه النقطة إلى أن الطبيعة قد أخرجَت للسطح جدولًا من الماء الساخن لدرجة الغلَيان، ماءٌ شديد السخونة حتى إنه لا يمكن أن تمدَّ فيها يدًا، ماءٌ يغلي آتٍ من مغارة سُفلية حيث النيرانُ التي لا تخمد لا تزال تَضْطرم في قلب الأرض بالغةً أقصى درجات التوهُّج، وتنبثقُ الينابيع وهي تفوح برائحة الكِبريت والعديدِ من الموادِّ الكيميائية، وبحرارةٍ لا تتغيَّر عامًا تِلو الآخر. كانت الينابيع تُضَخ إلى المستشفى، حيث تُوجِّه جميع خصائصها الطبية إلى الرجال الذين، مثل جيمي ماكفارلين، يجب علاجهم من جروحٍ عنيدة قبل أن يستطيعوا العودةَ إلى ديارهم ليقوموا بمهامِّ الرجال في شئون بلدنا.
تدفق العرقُ على وجنتَيه وهو يصعد الجبل بمشقةٍ في ذلك الصباح. وبينما كانت ركبتاه تصطكَّان ويداه البيضاوان تتشبَّثان بأي شجرة أو شجيرة يمكن أن يستندَ إليها، أخذ جيمس ماكفارلين يُفكر. كان يفكر سريعًا وعميقًا. وتساءل، ما دام قضاء عام في ينابيع المياه المعدنية الساخنة هذه لم يَعُد عليه بأي منفعة على الإطلاق، فهل سيُحقق عامٌ آخرُ ما فشل فيه العامُ الأول. كما تساءل هل صار أكثرَ ضعفًا وتدهورًا عما كان عليه منذ عام. تساءل حتى متى تُبقيه الحكومة في هذه الينابيع رغم أن مياهَها لم تَعُد عليه بأي فائدة. كان على علمٍ بكل الشكاوى المرة المتردِّدة في أنحاء البلد من أولئك المسئولين عن رعاية جنودنا العائدين. كان على علمٍ بالإجراءات الحكومية المعقَّدة، والفساد، والبطء في حصول الجنود المصابين على العلاج الذي يحتاجون إليه والذي لا بد أن يُمنح لهم بالسرعة نفسِها التي أُرغموا بها على أن يبدَءوا مُغامرتهم الخطيرة. كان يعلم أنَّ ثمة ألمًا مُضنيًا في قلب كل رجل مصاب تقريبًا حِيال هذا الأمر. بل كان ثَمة ألمٌ مُضنٍ في قلبه هو. لقد مضَت أسابيعُ عديدة عبثًا. مضَت شهورٌ عديدة قبل اتخاذ قرار بشأن ما سيُفعَل وكيف سيُفعل، وأين سيُفعل. أشياءُ كثيرة جدًّا لم تأخذ حقَّها من التقدير، وأشياءُ قليلة جدًّا أُنجزت بكفاءة منذ أُعلِن السلام.
في اللحظات التي يُضطَرُّ فيها إلى الاستراحة، كان يظلُّ رافعًا عينَيه إلى السماء. لم يكن يستطيع أن ينظر إلى السماء دون أن ترتقيَ أفكاره عاليًا جدًّا، وذلك الصباحَ كادت أحيانًا أن تُحاذِيَ قاعدة العرش. أدرك أنه سيُضحِّي بأي شيء في العالم لو أمكنَ له أن يعود إلى المنزل ويجثوَ عند ركبتَيْ أمِّه ويضعَ رأسه على حجرها، وأن يُجرب الشيء الذي لم يُجربه بعد ذلك التصرفِ البسيط المهجور، وهو أن يطلب من الله العون الذي لم يستطع الحصولَ عليه من البشر.
أخيرًا وصل إلى النخيل والورود، والبشملة والبرتقال، والمنحدرات المغطَّاة بالأعناب حيث بدَءوا استصلاحَ الأرض من أجل توفير غذاءٍ لأولئك المقيمين فوق قمةِ الجبل. تطلَّع إلى البساتين المحمَّلة بالزهور بنظرةٍ كاد يغشاها النفور. فقد كان من التعب في غاية. وكان الهواء حُلوًا إلى حدٍّ يُثير الغثَيان معبَّقًا بعبيرٍ نَفَّاذ ومقيم. خطَر له متبرمًا أنه سيُسرُّ لو استقرَّت عيناه على بقعة دون أن يُعيده وهجٌ أحمرُ بلون الدم إلى ذِكرى مؤلمة؛ إذ كان يتَّقد لهيبُ اللون الأحمر لزهور المحارب الهندي باستمرار حول صخور سَفْح الجبل، قُرب مواقع الزراعة حيث امتدَّت جذور كل شجرة من الأشجار. وأخيرًا صعد الدربَ متثاقلًا وصعد الدرجات الأمامية، حيث فعل شيئًا لم يكن معتادًا.
كانت كلُّ الأراضي والشرُفات الجانبية متاحةً للرجال، لكن لم يكن مسموحًا للجنود المعاقين بالاستلقاء على الأرائك الخيزرانية قُربَ أبواب المدخل الكبير. وتصادَف وجودُ أريكة تحت نافذة عريضة على أحدِ جانبَي المدخل اعتبَرها ملائمةً كمكانٍ للراحة. ألقى نظرةً خاطفة على عدة سيارات لم يتعرَّف عليها أثناء صعوده الدرجات، ثم اتَّجه مباشرةً إلى الأريكة وتمدَّد عليها، حيث استلقى بعضَ الوقت غيرَ واعٍ بما كان يدور حوله.
وبينما هو يحصل على بعض الراحة، كانت الأصوات القادمة من داخل النافذة مجردَ أصوات، وبعد ذلك، حين هدَأ قلبه وانحسَر الألم الذي في جنبه واسترخَتْ أطرافُه المتعَبة، أدرك أنه كان يُتلى اسمٌ تِلو الآخَر من قائمة، وأن كل اسمٍ يُمثل رجلًا تُناقش حالته وبناءً عليها يُقرَّر مصيره في نهاية المطاف. لكنه لم يُدرك أنه مع الانتهاء من الذين تبدأ أسماؤهم بحروف الجيم والكاف واللام سيبدأ حرفُ الميم على الفور. لقد أقام في هذه المستشفى طويلًا جدًّا؛ حتى أصبح يألَفُ للغاية حجرتَه، والممرِّضات، والنظام، والرجال الذين تعرَّف عليهم، لدرجةِ أن المكان قد صار بمثابة بيته، البيت الوحيد الذي تبقَّى له في العالم. كان الكلُّ طيبًا معه. فهو لم يجد عيبًا في الأطباء ولا الممرضات. لقد بذَلوا ما في وُسعهم، وبذَل هو ما في وُسعه؛ لكن ظلَّت الحقيقة أنه لم يتحسَّن، حتى إنه قد ثارت مؤخرًا شكوكٌ عمَّا إذا كان على الحال نفسِها منذ جاء. وعندئذٍ، بكل ما تُسببه ضربةٌ غيرُ متوقعة من تأثير مفاجئ، سمع اسمَه يُذكر بوضوح، بتلك النبرة الباردة، المجرَّدة التي يتحدَّث بها رجالُ أعمال يُبرمون صفقةً تِجارية متطلِّعين فقط لأكبر فائدة لأكبر عدد. لم يذكر أنه قد سمع اسمه يُنطق بتلك النبرات تحديدًا قبل ذلك. وقد جعله هذا يشعر كأنه ليس بشرًا، وإنما مجردُ شيء. ثم أدرك أن الموضوع الجاريَ مناقشتُه هو التخلُّص من ذلك الشيء المحدد. سمع موقع تجنيده، وخدمته في الحرب، ومكافآته، ووصفًا لإصاباته وهي تُتلى بنبرةٍ رتيبة جعلتْه يُدرك أنها تُتلى من سجلٍّ ما، ثم تساءل صوتٌ أكثرُ نشاطًا قائلًا:
«كم مكَث ماكفارلين هنا؟»
فجاءته الإجابة: «أكثر من عام بقليل.»
ثم كان السؤال: «هل أفادته الينابيعُ بأي شيء؟ هل صار أفضلَ حالًا؟»
فكانت الإجابة: «ليس كثيرًا. إن جُرحه عنيد؛ فهو يأبى الالتئامَ رغم كلِّ ما نفعله.»
كان العرَق الذي تصبَّبه جيمي في مُعافرته قد جفَّ على جسده، لكنه تدفَّق مرةً أخرى مع السؤال التالي:
«هل هو مصابٌ بمرض السل؟»
فكانت الإجابة: «لا. ليس بعد. لكنه في حالة تجعله عُرضة للإصابة بالسُّل في أي لحظة. فهي بمثابة تُربة خِصبة تمامًا لنمو المرض.»
جلس جيمي ماكفارلين قابضًا على رُكبتَيه وهو يلعقُ شفتَيه الجافتين في انتظار سماع القرار. وقد جاء في كلمات قليلة.
«أرسلوه إلى كامب كيرني.»
طَوال دقيقة ظلَّت حُمرة زهور المحارب الهندي تتوهَّج أمام عينَي الرجل المنصِت حتى لم يَعُد يرى شيئًا سِوى اللون الأحمر. طوال دقيقةٍ ظل الغضبُ العارم يعتمل داخلَه في احتجاجٍ مضطرم. لقد سمعهم يقولون إنه ليس مصابًا بالسُّل، لكنه معرَّض بشدة للمرض المريع. وها هم يُخططون لإرساله إلى مكانٍ كلُّ مَن فيه إما مصابٌ بالوباء، أو كان قابَ قوسَين من الإصابة به حتى إنه أُرسل ليُصبح عُرضة للعدوى به، كما اقتُرح في حالته. هذا ليس عدلًا! هذا ليس إنصافًا! لقد تطوَّع في الجيش مبكرًا ومتحمسًا. لم يكن ممَّن استُدعوا للتجنيد. وقد حارب بأقصى طاقته. وقبِل كل ما واجهَه دون شكوى. وتشهد الميداليات التي يرتديها بجَسارته. كان سيدخل الحجرة ويُخبر أولئك الأطباء برأيه فيهم وفي قرارهم القاسي.
حاول أن ينهض فوجد أنه أوهنُ من أن يقف على قدمَيه، ثم سمع الطبيب الذي تلا الأسماءَ وهو يُعرب عن شكوى بالنيابة عنه: «أشعر أنه ليس من العدل مطلقًا أن نُرسل رجلًا حقَّق إنجازات رائعة مثل ماكفارلين وهو في حالته الضعيفة تلك إلى البؤرة المعروفة بأنها منفًى للمصابين بمرض السل.»
أجابه الصوت الآخر: «إذا لم يجعله قضاءُ عامٍ هنا في حالٍ أفضل، فلماذا نتوقَّع أن يفعل ذلك عامٌ آخر، كل ما سنحصل عليه هو أنه سيَشغل مكان ذي حالة بدنية أفضل كان سيأتي ويتعافى إن تسنَّت له الفرصةُ مثل ماكفارلين؟»
عند إدراكه للعدالة القاسية في ذلك القول انهار جيمي ماكفارلين على الأريكة، واستلقى على الوسادة، ولم يحسب الوقتَ الذي مرَّ عليه مستلقيًا هناك. كل ما أدركَه أن الأصواتَ ظلت تتصاعدُ من النافذة وأن الرجال كان يُتَّخَذ بشأنهم القرارات، حيث تُرسَل الحالات الميئوس منها إلى ما بدا له مكانٌ بلا أمل، وأما الذين لديهم فرصةٌ فقد كانوا يُمنَحون أفضلَ فرصة للتعافي. وكان ذلك عدلًا؛ كان ذلك إنصافًا. لكن نظرًا إلى كونه اسكتلنديَّ الأصل، وُلِد مع روح القتال تَجري في دمائه، وحبٍّ أبدي وطيدٍ للجبال والنجوم والسماء والبحر وأبناءِ جِلدته؛ فقد قرَّر ألا يصير تابعًا لأي رجل أو حكومةٍ بعد الآن. لقد كان وحيدًا ومنبوذًا. لكنه سيُصبح سيدَ قراره. إن كان لا بد أن يموت، فلماذا يموت في كامب كيرني حيث يَنخر في صدر كلٍّ من الرجال الهالكين أفظعُ الأوبئة التي فتَكَت بالبشرية؟ من دون أن يستغرقَ وقتًا للتأمُّل الواعي، من دون أيِّ استعداد على الإطلاق، نهض جيمس لويس ماكفارلين وتشبَّث بحافَة النافذة بيدٍ، وبالأخرى استمسك بذراع الأريكة، وتمكَّن من حمل نفسه على الوقوف. عاد أدراجَه هابطًا إلى الطريق، وهناك اتَّجه يمينًا، بحيث أصبح يُواجه اتجاه الشمال، وبخطواتٍ وئيدة حذرة، بدأ مغامرتَه الكبرى.