إنها إرادة الخالق
حين أجاب جيمي على الهاتف في ذلك اليوم تلقَّى دعوته لزيارة المستشفى. وفي الساعة الثانية بعد ظُهر اليوم التالي ركب الترام مرةً أخرى متجهًا إلى المدينة، ومن دون أيِّ صعوبة على الإطلاق اتجهَ إلى أحد أكبر مستشفياتها. وفي الحال تقريبًا أُخِذ إلى حجرة سيد النحل، حجرة كبيرة تسطعُ فيها أشعة الشمس وتلهو الرياحُ في أنحائها ويشوب هواءها عطرٌ آتٍ من وعاءٍ وُضعت فيه ورودٌ صفراء. لحظةَ أن رأى جيمي تلك الورود أدرك أنها إن لم تكن من الشجيرات المزروعة بجانب باب مارجريت كاميرون، فلا بد أنها من شجيرات أخرى من فصيلةٍ أو نوع مطابقَين. صُفرة الورود، وحلاوة عطرها الرقيق كانت في أنفه وهو يدور حول الستار القائم بجانب الفراش ليقفَ في مواجهة سيد النحل.
لم يدْرِ ما الذي كان يتوقَّعُه بالضبط. لكن ما رآه انفطرَ له قلبُه. فإن الرجل الذي أسنده حتى الأريكة، وساعده على دخول عربة الإسعاف، كان مريضًا وكان يتصبَّب عرَقًا من فرط الألم؛ لكنه كان نابضًا بالحياة، ولديه فرصةٌ في النجاة تجلَّت في قوة جسدِه، وصلابةِ عضلاته والضوء الذي في عينَيه. أما الجسد المسجَّى أمام جيمي على الفراش فقد بدا له بلا حياةٍ وإنما روح، روح ربما تنطفئ وترحل في أي لحظة. فلم يتبقَّ في اليد الشاحبة التي امتدَّت نحوه المزيدُ من القوة. وبصعوبةٍ علا الصوتُ الذي حيَّاه عن الهمس. وكانت العينان اللتان تفقَّدتا وجهَه واستقرَّتا عليه متعَبتَين تعبًا يكادُ يفوق الاحتمال.
لإخفاء صدمتِه، وإحساسه بالشفقة؛ جرَّ جيمي كرسيًّا وطَفِق يتحدث عن الشيء الذي يعلم أنه أكثرُ ما يَشغَل بال سيد النحل.
قال جيمي: «أولًا، لا بد أن أخبرك أنني لديَّ مناعةٌ من النحل. لقد ارتديتُ معطفك، واستخدمت النَّعناع والقَرنفل وزَنابق مادونا التي وصفَها لي مساعدُك، وقد كانت فعالةً حتى رغم الضمادات التي أحملُها على جنبي. كما أنني أستطيع مَلْء أحواض المياه وقياس الكمية المناسبة من الملح والمرورَ أمام أيِّ قفير من القفائر بسلام. لم يتيسَّر لي الكثيرُ من الوقت للدراسة، لكن النحل في حالٍ من الازدهار على حدِّ علمي. كما أن مساعدك يُبلغك برسالة تُفيد بأنهم بخير، ويبدو أن الصغير على علمٍ حقًّا بالأمر.»
قال سيد النحل: «بالتأكيد، إن مساعدي على علمٍ بحق. لدى مساعدي معرفةٌ نادرة ومكتملة بالنحل، تؤهِّله حتى لإجراء عملية دقيقة مثل قصِّ أجنحة الملكة.»
قال جيمي: «حسنًا، يُمكنك القول إذن إن النحلَ على ما يُرام. مارجريت كاميرون تبعث إليك بمحبَّتها وتُطمئنك أن زهورك تزدهر، وبوُسعي أنا إخبارُك بأن منزلك يَلْقى الرعايةَ النابعة من المحبة. فإنني أوصِدُه بحرص عند مغادرته، وأُقيم فيه متوخِّيًا الرفقَ كما يجدر برجلٍ يخطو على أبسطةٍ عتيقة ويلمس أثاثًا عتيقًا. وعند عودتك إلى المنزل مرةً أخرى ستجد كلَّ شيء كما تركته بالضبط.»
ابتسم سيد النحل. وقال: «لقد توقَّعت أن يكون ذلك هو الحالَ حين ناديتُك من الطريق. إذ بدَوتَ لي، حتى وأنا أكابد العذابَ في تلك الساعة، رجلًا ذا فهم راقٍ وفطرة سليمة. عرَفتُ أنني سأصبح في مأمنٍ حتى وأنا أترك معك أعزَّ أملاكي. لم يُخالِجْني أيُّ إحساس بأنك غريب. بل بدَوتَ وسيلةً أُرسِلت لتُلبِّيَ حاجتي الملحَّة. ماذا عن الكشافة الصغير؟ شريكي الصغير؟»
«شريكك الصغير يأتي إلى الحديقة، لكنني لا أراها حديقةً بحق من دونك. ثَمة شيئان لا بد أن أخبرك بهما.»
وضع جيمي يده في جيبه وأخرج قيمةَ «السجق» وزجاجة المشروب الغازي المنكَّه بالفراولة ووضع العملات المعدنية في يد سيد النحل الممدودة.
قال جيمي: «كانت التوجيهات التي تلقَّيتها أن يكون الخبزُ محمصًا، و«السجق» مشقوقًا وجافًّا. والبصل محمرًّا. وحُددت كمية المستردة بدقة. وكان عليَّ الإشراف على عملية إعداد شطيرة «السجق» تلك بنفسي وبعناية. ويمكنني أن أذهبَ الآن وأحرصَ على إعدادها وَفقًا للمواصفات، إذا كنتَ ترى أن الدكتور جرايسون لن يَقرعني بالعصا على ذلك.»
ابتسمَ سيد النحل. وأطبق أصابعه على النقود، القِطَعِ نفسِها التي احتسبها مساعدُه الصغير من أجله.
قال جيمي: «انتُقِيَت النقود بعنايةٍ من بينِ الأزرار والمشابك وأحجار النَّرد وأحجار القمر، وتصادف أنه بذلك استنفَد كلَّ ما لديه من نقود تقريبًا. فلم يتبقَّ الكثير. إلا أن شريكك ربح رِهانًا سيُدِرُّ عليه ربع دولار؛ لذا فهو غيرُ مهدَّد بالإفلاس. وقد كنتُ شاهدًا بالصدفة على ربحه الرهان. فقد أصاب بوابلٍ من البصاق الموجَّهِ بدقةٍ نحلةً طنَّانة على بُعد عشر خطوات تقريبًا وأسقطَها من نباتٍ معترش أحمر.»
اهتزَّ جسد سيد النحل وهو يضحك ضحكةً مكتومة.
وقال بحماس: «لقد أحسنَ عملًا!» وأضاف: «يمكن الاعتماد على مساعدي في إصابة أي شيء تقريبًا تضَعُه له هدفًا.»
قال جيمي: «وإن مساعدك لديه قلبٌ مفعَم بالحبِّ لك، حبٌّ بالغ وصادق حتى إنني أعتقد بحقٍّ أنه كان صريحًا وصادقًا عندما عرَض التنازل لك عن يدِه اليمنى التي يحتاج إليها في امتطاء الخيل، والتجديف بالقوارب، والسيطرة على فِتيان الكشافة، لو كانت ستُخفِّف من ألمك وتعودُ بك إلى المنزل سالمًا ومُعافًى.»
أغمضَ سيد النحل عينيه بإحكامٍ وظلَّ مستلقيًا مكانه وهو يُمسك العملات المعدنية بين أصابعه. وما لبث أن ابتسمَ لجيمي في صلابة.
قال سيد النحل: «لستُ بحاجةٍ إلى الشكِّ في إخلاص ذلك العرض أو صدقِه». وتابع: «ولستُ بحاجة إلى الشك في أنه كان سيُنفذ بشجاعةٍ لو دعَت الحاجةُ إلى ذلك. ولستُ بحاجةٍ إلى الشك في أنه، من ناحيتي، لم يتبقَّ في العالم بأسرِه شخصٌ أعزُّه نصفَ معزَّتي لهذا الصديق الصغير. وإن من الأسباب التي أرغب لأجلها في العيش هو أنني قد أُحرِز تقدمًا فيما أحاول تعليمَه لذلك الصغير بالذات بشأن تربية النحل، وفي الوقت نفسه، الحفاظ على روحٍ أعتقد أنها خالدة. ولن ينجم ضررٌ عن أي شيء يتعلَّمُه مني مساعدي. بل يُساورني شعورٌ بأن الأشياء المؤذية في هذا العالم تتجاوزُ الذهن ما دام مشغولًا بشيء مشروع وبَنَّاء. لا تُخبر مساعدي أنني لا أستطيع تناول «السجق» أو المياه الغازية بنكهة الفراولة. أخبره أنني ممتنٌّ له للغاية على تذكُّري. بلِّغه محبَّتي، وإذا كنتَ ترى أن حالتي ليست صادمةً للغاية، فأحضِر معك صديقي الصغير في المرة القادمة.»
قال جيمي: «سيسُرني ذلك للغاية.» وتابع: «والآن، هل تودُّ أن تُعطيَني أي توجيهات قبل أن أرحل؟ فقد طلب مني الدكتور جرايسون أن أبقى بضعَ دقائق فقط.»
«أعتقد أنه لا يوجد شيءٌ سوى أن تستمرَّ على ما أنت عليه. وسيسُرني أن تقضيَ وقت فراغك بين كتب النحل. فسوف تُساعدك في مهمتك. وقد تثير اهتمامَك لدرجةٍ تحملك على الاستمرار أثناء عجزي، ما دمتَ متمتعًا بالبأس الكافي. يريد جرايسون أن يُقابلك في مكتبه هنا في المستشفى قبل أن ترحل، فإذا كنتَ ذاهبًا فافتح ذلك الدرج الذي على اليسار هناك وضَعِ الظرف الموجود بداخله في جيبك؛ من شأن ذلك أن يُعطيك ولو بعض المكافأة على راحة البال التي منحتَني إياها تجاه منزلي وأملاكي وعملي. أخبِر مارجريت أنهم لا يسمَحون لي بالكتابة، لكنني أحبُّ الورود التي تُرسلها وتُشعرني رسائلُها بأنها موجودةٌ بجانبي. أخبِرْها أنني أرجو أن تستمرَّ في تدليلِ رجل عجوزٍ مثلي إلى أن … لنقل إلى أن أبلغ الديارَ مرةً أخرى، بما أنه من المحتمل أن يكون لديَّ فرصة. والآن أقول لك الوداع. أريد أن تعلمَ أنني أُفكر فيك تفكيرًا لا يكاد ينقطع في ساعات صَحْوي. احرِصْ على مقابلة جرايسون. فإنه في غاية المهارة. ربما يستطيع أن يصف لك شيئًا يجعلك أقلَّ شحوبًا ويُساعدك على استجماع قوتك. والآن إلى اللقاء.»
قال جيمي: «إلى اللقاء. كن مطمئنًّا. فإنه بإمكاننا فيما بيننا، مارجريت كاميرون، والكشافة الصغير، وأنا، أن نتدبرَ أمر النحل. ولا توجد مشكلةٌ البتة بشأن الزهور والأشجار. لقد تمكنتُ من ذلك النظام بالفعل.»
بعد ذلك نزل جيمي ووجد مكتب الدكتور جرايسون، وبعد نصف ساعةٍ عاد إلى المنزل ومعه كميةٌ كبيرة من الضمادات المعقَّمة ومن دون قطرة دواءٍ واحدة. فقد نُصِح باتباع نزعاته. فإذا تاقَ جسدُه للماء المالح البارد، فلينغمس فيه. وإذا كانت رغبتُه الاستلقاءَ على الرمال في الشمس، فلْيُقدِم على ذلك.
قال الطبيب: «حيث إن عامًا من أفضل الرعاية التي استطاعوا أن يوفِّروها لك في أرقى مستشفياتنا الحكومية لم تُخفف من متاعبك، فلتجرِّب فعل ما تُخبرك الطبيعة أنها تريد منك فعله بالضبط، ولترَ ما النتائج التي ستترتَّب على ذلك. فأنا أعتقد أن الماء المالح وأشعة الشمس والهواء النقي هم أفضلُ أطباء في العالم كله، على أي حال.»
في المكتب جلس جيمي على مقعدٍ ليستريحَ بضع دقائق ويُقرِّر ما سيفعلُه بعد ذلك. كان ممتنًّا على الضمادات؛ لأنه لم يكن يعلمُ بالضبط ما هي أفضلُ الأشياء ليستخدمَها. لقد كان الأطباءُ والممرضات يفعلون به ما يُريدون، لكنه لم يعلم الكثيرَ عما كانوا يفعلونه. وهو الآن سيُصبح مطمئنًّا أن ما يستخدمه لن يُسبب ضررًا على الأقل.
جعل يُفكر في بعض اللوازم التي يحتاج إليها، وتساءل إن كان الظرفُ يحتوي على نقود كافية لتعويض المبلغ الذي اقترضَه من أجل الخاتَم وإذن الزواج، ومِن ثَم فتحَه. وعندئذٍ جلس مذهولًا واجمًا. ليس من الحكمة أن يعود أدراجه ويدخل حجرةَ رجل عليل لإعلان اعتراضه. أخذ يُحصي الأيام التي قضاها في العمل في الحديقة. أدرك أنه قد حصل على مسكن ومأكل ومشرب وحقِّ استخدام ما احتاج إليه من الملابس، لكنه لم يكن صحيحًا ولا منطقيًّا على الإطلاق أن يتلقَّى مبلغًا مثلَ ذلك الذي احتواه الظرف مقابل ما فعله. ظلَّ جالسًا هناك يتساءل ما إن كان الرجال في جميع أنحاء البلد يتقاضَون مبلغًا مثل ذلك مقابل عملٍ يومي عادي. تحسَّس النقود بين يديه. وبسَطَها أمام عينيه. وراح يتفحَّصُها بإمعان. بإمكانه أن يُعوِّض عمَّا اقترضه ويظلُّ بإمكانه أن يُنفق المبلغ نفسَه مرتين أو ثلاث مرات أخرى، مقابل بضعة أيام فقط من المكوث في حديقة النحل.
كان ذلك عمَليًّا ما يستحقُّه مقابل ما قدَّمه من خدمات. لقد حافظَ على المنزل مفتوحًا. وأعطى انطباعًا بوجود شخصٍ يؤدي العمل. وضع المالَ في جيبه، في جيبٍ يستطيع أن يدسَّ فيه يده ويتحسَّسَها. وغادر المستشفى وخرج إلى الشارع، وهو ما زال يتلمَّس تلك النقود. ما دام باستطاعة رجل مريض أن يكسب كلَّ ذلك بمجرد «البقاء مكانه»، كما عبَّر الكشافة الصغير عن الأمر، فما ذلك الذي لا يَقْوى على فعله وهو مُعافًى؟ قال الدكتور جرايسون إن الماء المالح وأشعَّة الشمس والهواء النقي قد يُصبحون أفضلَ أطباء. حسنًا، وهو لديه المحيط الهادئ مملوءٌ بالماء المالح. ولديه السماءُ بأَسْرها تملؤها أشعةُ الشمس. ولديه الهواء، بلا غبار مطلقًا، نقيٌّ، رقيقٌ وهو يهبُّ من المحيط، وقد عبَر مسافةً طويلة من الصين. تصوَّر جيمي أنه حتى إن كان ثَمة غبارٌ في الهواء الذي يتنفسه، فهو غبار النجوم.
هكذا شدَّ قامته وتحسَّس النقود بيد واحدة، وبالأخرى تحسَّس صدرَه. لمسَه بتأنٍّ، متفحصًا إياه بقدرِ ما استطاع خلال ملابسه، فاكتشف أنه منذ تعافيه من الإرهاق الذي لقيه في تَجْواله لم يعُد يؤلمُه بشدةٍ كما كان. ما دام باستطاعته أن يكسب مالًا بذلك القدر، وما دام لديه حديقةٌ مدهشة ليعمل فيها، وما دام استطاع أن يكسب ثقةَ سيد النحل، وما دام يستطيع في كل يوم أن يكتسبَ صداقاتٍ مفيدة، وما دام لديه زوجة، وما دام سيولَد طفلٌ يحمل اسمه، فما فائدةُ الاستسلام للموت؟ قد يكون في العالم شيءٌ جيد يستطيع أن يفعلَه. ومهما يكُن من أمرٍ فباستطاعته أن يجد قدرًا غيرَ محدود من التسلية من العمل في حديقة النحل واللهو مع الكشافة الصغير.
هكذا ذهب جيمي إلى عدة متاجر، واشترى بعضَ الأشياء التي كان بحاجةٍ إليها مطمئنًّا اطمئنانَ رجل لديه الثمن في جيبه. ثم ذهب إلى المنزل وقد تبدَّل لأول مرة منذ عامين ما كان يَشغَل باله؛ فقد أصبح يُفكِّر في الحياة بدلًا من الموت.
وضع الأشياء التي اشتراها جانبًا وتوجَّهَ في الحال نحوَ المقعد الواقع أسفل شجرة الجاكرندا في أعلى الحديقة الزرقاء. وعلى المقعد، منكمشًا مثل قطٍّ صغير، وجد الكشافة الصغير يغطُّ في نوم عميق. وبينما هو يُحاول أن يخطوَ بخفة لكيلا يُزعج الطفل، وقعَت قدمه على أحد أحجار الإطار فتدحرج من مكانه وأيقظَ الاحتكاكُ الخفيف الطفل. وفي الحال نهض الصغير، مبتسمًا ابتسامةَ تودد فاتحًا عينَين غشَّاهما النومُ لأقصى حدٍّ محاولًا إثباتَ أن النوم لم يمَسَّهما منذ الليلة الماضية، ولو قليلًا.
في محاولةٍ أخرى لإثبات أن قائد الكشافة دائمًا ما يكون في حالةٍ من الاستيقاظ واللياقة، تقدَّم الصغيرُ إلى الأمام وسأل باقتضاب: «ماذا سنفعل الآن؟»
جلس جيمي على المقعد وشدَّ الكشافة الصغير ليجلس بجانبه.
قال جيمي: «إنني متعَب.» وتابع: «لقد ذهبتُ لزيارة سيد النحل، وهو على ما يُرام. إنه يبعث إليك بمحبَّته كما أنه سُرَّ كثيرًا بهديتك، ويريدك أن تأتيَ لزيارته ذات يوم في القريب العاجل.»
هزَّ الكشافة الصغير رأسه موافَقةً.
«لكن ماذا سنفعلُ ما دمت متعبًا؟»
ابتسم جيمي.
وسأل: «هل يجب أن تجدَ نشاطًا مفعَمًا بالحركة والحيوية في كلِّ ساعة من ساعات صحْوِك؟» ثم أضاف: «أليس من الممكن أن تجلسَ وتتواصلَ مع روحك من وقتٍ لآخَر؟ إذا كنت توَّاقًا جدًّا لفعل شيء، دعني أقترحْ عليك شيئًا. إنني لا أعلم عن النحل أيَّ شيء من الأشياء التي تعرفُها أنت بالفعل. فما رأيك ما دام لديك وقتُ فراغ أن تقضيَه في تعليمي؟»
راح الكشافة الصغير يتفحَّص جيمي بتمعُّن.
«هل تقصد أنك تريدني أن أُعلِّمك كلَّ ما أعرفه عن النحل، ولديك بالداخل على الرفِّ كلُّ كتب سيد النحل لتتعلم منها؟»
«لكن ألم يتعلَّم سيد النحل العديدَ من الأشياء وحده؟ ألم يتيسَّر له من العلم ما يكفي لملءِ كتابٍ عن الأشياء التي اطَّلَع عليها خلال خبرته المديدة مع النحل؟ ربما كان بعضُها لديه من الأصل. ربما تعلمُ أنت أشياءَ ليست موجودةً في الكتب.»
عندئذٍ ضحكَ الكشافة الصغير.
«حسنًا، هناك العديدُ من الأشياء الجيدة التي نودُّ معرفتها وليست موجودةً في الكتب. لكن عليك أن تعكفَ أكثرَ على دراسة النحل قبل أن تعرف كل ما له صلة به.»
قال جيمي: «حسنًا، فلتبدأ من حيث يحلو لك وأخبِرْني بما لا بد أن أعرفَه عن النحل في رأيك.»
مال الكشافةُ الصغير إلى الأمام، ومدَّ يديه، اللتين كالعادة لم تكونا في غاية النظافة، وضمَّ كفَّيه، وأسقطهما بين ركبتَين بدَتا كأنَّ صاحبهما يخدم في الجيش وكان يزحف على الأرض مؤخرًا. ثم على نحوٍ مفاجئ التفتَ نحو جيمي بوجهٍ صغير يقظ ذي عينَين مستغرقتين في التأمُّل.
قال الكشافة الصغير: «فلتُخمِّنْ أول سؤال طرحتَه على الإطلاق على سيد النحل بشأن النحل؟»
«لعلك قلت: «لماذا تُربي النحل؟».» قال جيمي على سبيل التخمين.
ببطءٍ تحرك الرأسُ الصغير الذي لفَحَته الشمسُ فأكسبَتْه لونًا بُنيًّا دلالةً على النفي.
وقال: «كلا! إجابةٌ بعيدة كلَّ البعد!» وتابع: «لم تقترب من الصواب ولو قليلًا. أول سؤال سألتُه مطلقًا كان: «لماذا حديقة النحل زرقاء؟» وسأُضطرُّ إلى إخبارك بالجواب لأنك لن تَحزُرَه أبدًا ولو بعدَ ألف سنة. الإجابة هي: «إنها إرادة الخالق».»
وشَى وجهُ جيمي بالدهشة التي اعترتْه. فقد تغضَّن حاجباه لاستغراقه في التفكير، وضاقت عيناه. ثم حدَّق في الكشافة الصغير وأعاد قوله بهدوء: «إنها إرادة الخالق؟»
قال الكشافة الصغير: «أجل.» ثم أضاف: «ذلك ما يجعل النحلَ مثيرًا جدًّا للاهتمام. إن نصف الأشياء التي سيتوجَّب عليك أن تتعلمَها ترجعُ إلى إرادة الخالق، وسببُ زرقة حديقة النحل هو أول شيء على الإطلاق. والآن أصغِ بينما أخبرك بالسبب.»
بيدٍ مرفوعة إيذانًا بالصمت، أعاد الكشافة الصغير بتأنٍّ وجدِّية التفسير الذي تلقَّاه كإجابة عن السؤال الأول الخاص بالنحل.
«إن حديقة النحل زرقاءُ لأن الأزرق هو «اللون المثالي»، والنحل مثاليٌّ أكثر من أي حشرة أخرى من حيث الأسلوبُ الذي يعيش به، وهو الحشرة الأكثرُ قيمة بسبب العمل الذي يؤدِّيه، ومِن ثَم يُفترض أن الأزرق هو أكثرُ الألوان التي تروق له، وهو كذلك! إن كنت لا تُصدق، فراقِبْه. أما السبب فإنه كلما اقتربَت الحشرة من المثالية كان اللون الذي تُحبه مثاليًّا، والسبب وراء ذلك أن الله خلقها على هذه الصورة!»
رمَق الكشافة الصغير جيمي بنظرةٍ متفحصة، فلم يبدُ على وجه جيمي انطباعٌ محدد.
قال الصغير متجاسرًا: «أعتقد أنك لم تفهم الأمر. حسنًا، تمهَّل دقيقةً وسوف تفهم. أول ما عليك تعلُّمُه هو بعض الأرقام. لأنك كبير، وربما ذهبت إلى الجامعة، يجدرُ بك أن تتعلَّمها إذا استطعت. أحد الأسباب أن هناك أربعةَ آلاف وخَمسمائة نوعٍ مختلف من النحل. هذه نقطة لا بد أن تتذكرَها. السبب الآخر أن هناك مائة ألف نوع من النباتات التي لن تبقى حيةً إذا عُصِف بهذا النحل أو احترق أو لحق به ما شابهَ ذلك؛ لأن النبات، كما تعرف، لا بد أن ينموَ حيث تحمل الرياح بُذوره أو تبذرها الطيور أو السناجب، وإذا كان هناك نباتٌ ذكَر ونبات آخَرُ أنثى، فلا يمكن أن يتحرَّكا ويذهبَ أحدهما إلى الآخَر ليتزوجا ويجعلا بذورهما تُثمر، أليس كذلك؟ مِن ثَم لا بد أن يكون لديهما شيءٌ ليحمل حبوب اللقاح بينهما ويُنتج البذرة الملقحة.
وإليك الآن شيئًا لتتذكرَه بشأن النحلة نفسِها … لتكن النحلة العاملة؛ لأنها هي التي تحمل حبوبَ اللقاح. فلتتذكَّر أولًا أن كل واحدٍ من الأنابيب الصغيرة التي في أنفها به خمسةُ آلاف تجويفٍ للشم؛ لذا لا عجَب أن باستطاعتها تمييزَ مَن تنبعث منه رائحةٌ غريبة. كما أن النحلة العاملة لديها ستةُ آلاف عين في كلِّ جانب من رأسها؛ حتى ترى الزهور التي تريد أن تحصلَ منها على حبوب اللقاح والرحيق. كذلك لدى النحلة العاملة مَعِدتان؛ واحدة صغيرة إلى الداخل لنفسها، وأخرى أكبرُ بكثير إلى الخارج من أجل الخليَّة. كذلك لدى كلِّ نحلة عاملة على بطنها أربعةُ جيوبٍ لإفراز الشمع، ولدى كلِّ نحلة عاملةٍ سِلالٌ على سيقانها لتجمعَ فيها حبوب اللقاح، بجانب الرحيق الذي تحمله في معدتها من أجل الخلية. ولدى كلٍّ منها إبرةٌ حادة بإمكانها استخدامُها إن لم تَرُق لها رائحتك، أو إن اعتقدت أنك ستؤذيها أو ستفعل شيئًا لا يجدرُ بك فعلُه في الخلية. وتجد كلَّ واحدة منها مغطَّاةً بشعر طويل بالنسبة إلى نحلة، وتجده كذلك ناعمًا غضًّا، وحين تهبط العاملاتُ على ذكر زهرة السوسن للحصول على رحيقٍ من أجل معدتَيها ولملءِ سِلال اللقاح، يمتلئ الشعر الذي يُغطِّيها باللقاح هو الآخَر، وعند خروج النحل لجمع الرحيق واللقاح لا يخلط أبدًا بين زهرةٍ وأخرى، وهذا هو القانون؛ إنها مشيئة الخالق. فإذا بدأ بزهور السوسن، استمرَّ في الذَّهاب إلى زهور السوسن حتى النهاية. تستطيع الآن تصوُّرَ الأمر، أليس كذلك؟ حين تحصل النحلة العاملة على اللقاح من ذكَر زهرة السوسن في جميع أنحاء شعرها ثم تذهبُ لتحصل على اللقاح من أنثى زهرة السوسن، يتناثرُ اللقاح من الشعر لينتج البذرة المهمة؛ لأن النحل يُزاوج بين الزهور. وذلك سببٌ آخر بجانب العسل يجعل النحلَ مفيدًا.
سألت سيد النحل ذات مرة كيف أتأكد أن الله موجود ما دمتُ لا أستطيع أن أراه وما دمت لا أستطيع أن ألمسه. فقال: «بسبب الشعر الذي لدى النحل!» هذه إحدى الطرق التي يمكن بها أن تتأكَّد.
هناك أيضًا سُبُل عدة لمعرفة الله من خلال تأمُّلِ الطريقة التي خلَق بها مَلِكات النحل. إن خلية النحل لَمليئةٌ بالمعجزات والعلامات والرموز والعجائب. قال سيد النحل ذلك. لكن قد تكون كُبْرى عجائب الخلية هي الملكة تحديدًا. فإنك تجد الكثيرَ من الأدلة على وجود الله عبر تأمُّل مَلِكة النحل. قد تعيش النحلة العاملة خمسة أسابيعَ أو ستةً فقط، أما الملكة فقد تعيش خمس سنوات أو ستًّا. وهي أكبرُ حجمًا بكثير من النحلة العاملة وتبدو مختلفة. فهي طويلةٌ ورفيعة ولديها أجنحةٌ أكبر، ولديها بطنٌ كبير لأنها قد تضعُ من البيض مليونًا أو مليونَين. ولا تملك سوى نصفِ عدد العيون الذي لدى النحلة العاملة؛ لأنها لا تحتاج إليها إلا حين تخرجُ لتبحثَ عن حبيبها، أو ربما بضع مرات أخرى حين يُصبح لديها قفيرٌ كبير مليء بمائة وعشرين رطلًا من العسل والعديد من النحل يُزاحم بعضُهم البعض. ومِن ثَم حين يصبح كلُّ شيء جاهزًا تطلب من جزءٍ منهم أن يأتيَ معها لتعثر على قفير جديد، وتتركَ الآخرين ليُعيدوا مَلء القفير القديم بعد أن يأخذ سيدُ النحل نصيبه من العسل.
وتُصبح الملكة ملكةً على النحو التالي: في خليةٍ صغيرة مجهَّزة بالكامل من أجلها تضعُ ملكة نحل القفير بيضة، وتقول للعاملات: «أريد أن تصبح هذه البيضة ملكة.» فتنهمكُ العاملات في العمل وتصنع غذاءَ ملكات النحل. وذلك شيء آخرُ لم يكتشفه الناسُ الذين ألَّفوا كتب النحل. إنهم لا يعرفون مطلقًا ما هو غذاء ملكات النحل أو كيف يُصنَع. لكن العاملات يعرفن. فقد علَّمهن الله الطريقة حين خلَقهن. هكذا يصنعنَ غذاء الملكات ويُغذين به من يخرج من البيضة التي قالت الملكةُ إنها ستصبح ملكةً أخرى. فتنمو وتُصبح يرَقةً بيضاء، وحين تتمكَّن اليرقةُ البيضاء من الطيران تُصبح ملكةً صغيرة. ويُطعمن بغذاءٍ مختلف ما يخرج من كل بيضة في كل خلية مختلفة، وتُقرر الملكة ما الذي يخرج من كل خلية. وخوفًا من أن يُصيب الملكةَ مكروه، لأنه لا يمكن لأي خلية العيشُ من دون ملكة، تضعُ هي الكثيرَ جدًّا من البيض الذي تريد أن يَخرج منه ملكات، ثم تضع عددًا كبيرًا ليخرج ذكورًا والبعض ليخرج ممرِّضات والآلاف ليخرج العاملات. تذكر هذا: يصنع النحل أربعةَ أنواع مختلفة من الخلايا.
حين تجد الملكةُ قفيرها مليئًا بالعسل والعدد الكافي من اليرقات البيضاء بما يضمنُ أن يظلَّ هناك دائمًا ملكةٌ في القفير، والكثير من خبز النحل لإطعام اليرقات وسائر النحل الآخر الحبيس في مهده، يحدث شيء لا يفهمه أيُّ أحد. عندئذٍ تحديدًا تأخذ الملكةُ وصيفاتِها ومهندسيها وبنَّائيها الذين يصنعون أقراص العسل، والعاملين الذين يحضرون حبوب اللقاح والرحيق، وتأخذ بعض الذكور وتأخذ بعض الممرضات، وتمضي في الحال وتترك كلَّ الأعمال التي أنجَزوها كلهم بعناية شديدة. الشيء الذي لا يعرفه أيُّ أحد هو مَن الذي يأخذ هذا القرار، أو كيف يُقرر، من الذي سيبقى في القفير ومن سيذهب. لكن يبدو أن ثُلثَيهما يذهب مع الملكة القديمة.
قبل أن تهمَّ الملكة القديمة بمغادرة القفير مع السِّرب الذي سيُرافقها، يذهبون جميعًا ما عدا الملكة إلى أحواض العسل ويأخذون من العسل ما يكفيهم خمسة أيام أو ستة، بحيث لا يتضوَّرون جوعًا أثناء البحث عن سكنٍ جديد، وبحيث يبقى معهم الشمع الذي يستطيعون استخلاصَه من العسل ليضَعوا أساس الخلايا ليبدَءوا العمل في سكنِهم الجديد.
ثم تخرج الملكة من القفير ويذهب كذلك كلُّ النحل الذي يفترض أن يذهب معها. وتطير بعيدًا بعضَ الشيء وتحطُّ على فرع شجرة برتقال، أو ربما تين، أو جاكرندا، لتُحيط بها وصيفاتُها وكل سِربها الذين يتولَّون رعايتها. فهم يُخفونها بينهم بحيث لا يلتهمُها طائر، أو إحدى الفراشات الصقرية، أو أي شيء آخر، بينما يذهب النحل الكشافُ للبحث عن سكن جديد. وحين يذهب النحل الكشاف للبحث عن سكن جديد يختارون مكانًا في الصخور أعلى الوادي، أو غصن كبير ميت في شجرة بلُّوط حيٍّ أو جميز. لكن إذا كان مُربي النحل مربيَ نحلٍ بحق، فإنه يعلم قبل عدة أيامٍ من اشتداد نشاط القفير ومن الأشياء التي يسمع النحلَ وهم يُخبر بها بعضهم البعض، أنهم سيتركون مسكنَهم للبحث عن مسكن جديد. وإذا كان يريد أن يُحافظ على نحله ويجعل حديقته تزداد حجمًا أكثرَ فأكثر، فإنه يحتفظ ببعض القفائر القائمة في الخلف، جاهزةً تمامًا، ويظلُّ يراقب الوضع، وحين تخرج الملكة من بابها وتبدأ الطيران يأتي بطبلة النحل، ويظل يقرعها، قرعًا بطيئًا وهينًا وخفيضًا؛ دوم، دوم، دوم. فيتساءل النحل ما هذا الصوت الغريب. وينسى ما الذي كان مقدمًا عليه، ويستقرُّ على أقرب غصن ويُغطي الملكة كما أخبرتُك، وسريعًا يذهب مُربي النحل ويأتي بمبخرته ويُطلق عليهم القليل من الدُّخَان ليَبقَوا هادئين ووادعين. فإذا كان يحبُّ نحله فإنه لن يُطلق عليه الكثيرَ من الدُّخَان؛ لأن النحل يكره الدُّخَان أكثرَ من أي شيء في العالم بأسره.
وفي الحال يقطع الفرع أو يضع القفير تحته، وبيده ينتزع النحل ويقذفه في الداخل. وعليه دائمًا أن يتأكدَ من أن الملكة لديه وأنها بخير. وبعد ذلك يأخذ القفيرَ وينصبه على منصةٍ جديدة ويضعُه في حديقة النحل الخاصة به. وإذا أراد فبإمكانه أن يضَعه بجانب القفير الذي جاء منه النحل بالضبط، لكنه لن يعود أبدًا إلى القفير الذي كان يعيش فيه من قبل. سيبقى دائمًا مع الملكة، ويعيش في القفير الجديد ويعمل فيه. وتظلُّ الملكة طيلة حياتها دون أن تخرج مرةً أخرى أبدًا إلا إذا أرادت أن تبحثَ عن قفير آخر. وعندئذٍ تفعل نفس ما فعلَتْه هذه المرةَ بالضبط. وهكذا يحصل مربي النحل على قفائرَ جديدة للنحل.
أما هناك في القفير القديم الذي ترَكوه فيصبح النحل حزينًا بعض الشيء؛ لأن مربيَ النحل جاء هو الآخَر وأخذ نصيبه من العسل، ولأن مَلكتهم الجميلة رحلَت، ولأن الأقراص الذهبية التي تكاد تملأ القفير صارت خاويةً ما عدا ما تركه مربي النحل، فيظل كلٌّ منهم واقفًا مكانَه شاعرًا بالكآبة منتظرًا. ولا تخرج العاملاتُ بحثًا عن رحيق كالذي أحصل عليه من زنابقِ مادونا، ولا عن حبوب اللقاح. بل إنها لا تنظف حتى مخلَّفات الذكور الكسولة القديمة. إنها أشدُّ الأوقات التي تُلم بالقفير كآبةً على الإطلاق. هكذا يذهبون كلهم ويتجمعون حول الخلايا التي وضعَت فيها الملكةُ البيض لينشأ المزيد من الملكات. وتعرف الملكة القديمة وهي تُغادر أنَّه سريعًا جدًّا ما ستخرج ملكةٌ جديدة من هذه الخلايا. وهكذا في الوقت الذي يشعر فيه كلُّ مَن داخل القفير بيأسٍ شديد، ترفع إحدى اليرقات البيضاء رأسَها وتأكل غطاءَ خليتها لفتحها وتسير خارجَها. فتُهرَع الممرضات إليها ويُساعدن في تنظيفها وفي تمشيط شعرها وتهذيب أجنحتها. ويُقبِّلْنَها لسعادتهن البالغة برؤيتها.
ومن الأشياء الأخرى التي قدَّرها الله في قفير النحل هو أنه لا يجعل ملكةً صغيرة واحدة فقط تأتي للحياة؛ لأنها بعد أن تُصبح جاهزةً وعلى أتمِّ الاستعداد تخرج إلى العالم الكبير الهائل لتبحث عن مَلِكها، فإذا التهمَها طائرُ الوروار أو ملكُ العصافير، سيصبح القفير عندئذٍ في مشكلةٍ أسوأ من التي كان فيها من قبل. مِن ثَم قد يتأتَّى في اليوم نفسِه أو اليوم التالي أو بعد يومين أن تخرج يرقةٌ بيضاءُ برأسها وتأكلَ خليتها حتى تخرج منها سيرًا. لكن لا أحد يذهب ليُساعدها ولا يُساعدها أحدٌ كثيرًا؛ لأنهم كلهم يعقدون أملهم على أول واحدة خرجت.
حين ترى الملكةُ التي خرجَت أولًا أن ثَمة ملكةً أخرى غادرَت خليتها، يستبدُّ بها الغضب. وهنا تبدأ مشاجَرة. وهما تتعاركان تمامًا كما أتعاركُ مع الطفل المطيع وذي الوجه الملائكي حين أستقرئُ في عينيهما أنهما قد يُفكِّران في التخطيط للتمرُّد عليَّ. ولا أتوقَّف إلا حين أوسِعُهما ضربًا. ولا تتوقَّف الملكة الصغيرة إلا حين تُرْدي الملكةَ الأخرى جثةً هامدة، وتخرج بها العاملات إلى مدفن النحل.
وعندئذٍ ترغب الملكةُ الصغيرة في المواصلة وقتل كلِّ واحدة من اليرقات البيضاء النائمة في سائر المهاد. إنها تريد أن تفعل ذلك في نفس التو واللحظة. إلا أن العاملات والنحل الكشافَ والحراس يتقدَّمون ويقولون: «كلا، لا يُمكنكِ أن تفعلي ذلك. عليكِ الخروج والعثور على ملكٍ لكِ ثم العودةُ مستعدةً لأن تُصبحي أمًّا للقفير قبل السماح لكِ بأن تفعلي ذلك.»
مِن ثَم تخلد الملكة الصغيرة إلى الراحة بضعةَ أيام حتى تُصبح على أُهْبة الاستعداد، وذات يوم والجوُّ صحوٌ ومشمس تمامًا، في الصباح والندى يكسو الزهور وطيور القنبر تُحلِّق في السماء، في صباح مثلِ ذلك الذي كتب عنه براونينج، وجعلني سيدُ النحل أحفظه؛ ذلك الذي يقول فيه: «الله في سمائه، وكلُّ ما في الدنيا بخير»؛ أعتقد أن أمَّك جعلَتك تحفظه أنت الآخر، حسنًا، تذهب الملكة الجديدة إلى الباب وتخرج منه بظهرها. تبتعد مسافةً صغيرة وتعود إليه ثلاثَ مرات أو أربع. لقد علَّمها الله أن تفعلَ ذلك حتى تتأكد تمامًا من أنها ستتعرف على بابها حين تعود إلى سكَنِها من أول رحلة طويلة تُقدم عليها على الإطلاق. وحين تتأكد من أنها تعرف المكان الذي تنتمي إليه، حينئذٍ تبدأ رحلتها، وقد علَّمها خالقُها الطيرانَ أيضًا؛ إذ لا تتسنَّى لها فرصةُ استخدام أجنحتها قبل ذلك. لكنها حين تستخدمُها تظلُّ تعلو وتبتعد في السماء، حتى إنها تعلو فوق الأشجار. وتُحلق أعلى من الطيور. إنها تُحلق عاليًا جدًّا حتى إن الرجال الذين ألَّفوا الكتب لم يستطيعوا قط أن يرَوا الارتفاعَ الذي تصل إليه.
وحين تبدأ رحلتها، فإن هناك شيئًا ما في جميع أنحاء صفِّ القفائر، الشيء الذي تُسميه كتبُ النحل «روح القفير»، أو الغريزة، أو الطبيعة — لكن سيد النحل يقول إنها مشيئة الخالق أيضًا — تخبر كل ذكور النحل أن ثمة ملكةً شابة خرجَت للبحث عن ملك. وليس بإمكانهم امتطاءُ جواد أبيض بلون الحليب للبحث عنها؛ فعليهم استخدام أجنحتهم. لكنهم يتمتَّعون بمظهرٍ بديع. إذ إنهم من النحل الكبير المختال. ويضَعون على رءوسهم خوذاتٍ مزينةً بلآلئَ سوداء، وريشٍ طويل. ويرتدون أحزمةً مخملية صفراء وعباءات طويلة، ويستهينون بكلِّ مَن في القفير. حتى إنهم لا يأبَهون كثيرًا لأمر الملكة، إلى أن يبدَءوا في خَطْب وُدِّها. ويظلون طَوال حياتهم عبئًا ثقيلًا. فلا يعملون البتة. ولا يخرجون أو يبحثون عن أي رحيق. إنما يسيرون إلى الخلايا التي تملؤها العاملات ويأكلون منها كما يحلو لهم. ويخرجون ويتكوَّرون على زهور التيوليب والزنابق، وحيثما يجدون مهدًا جميلًا من الزهور، استلقَوا عليه وناموا في الشمس لساعات. بعد ذلك يعودون ويأكلون المزيد، وإنهم أكسلُ من أن يعيشوا بالأسلوب الذي يعيش به النحلُ الآخر، لكن تعلم النحلات العاملات أن القفير لا يمكنه البقاءُ من دونهم؛ لذلك يُنظِّفن مخلَّفاتهم. ولا أحد يُحبهم على الإطلاق، لكن لا أحد ينبس بكلمةٍ لأنهم جزءٌ من خُطة الخالق. ولا بأس أن يحظَوْا بوقتٍ طيب متى تسنَّت لهم الفرصة؛ فإنهم لا يعلمون شيئًا بتاتًا عما سيَحيق بهم.
هكذا حين تخرج الملكة الصغيرة، يرغب كل الذكور في التودُّد إليها، فيأتون في أسرابٍ من جميع القفائر المختلفة ليُلاحقوها. ويبسطون أجنحتَهم على اتِّساعها ويطيرون بعزمٍ وسرعة شديدة حتى إنهم ينتفخون تمامًا ويمتلئون بالهواء أكثرَ من قبل، ويصير شكلُهم مختلفًا عمَّا كانوا عليه قبل أن يبدَءوا. ولا يبلغ الارتفاعَ الذي بلَغَته الملكة إلا الذكَر الحسَنُ الماهر القوي. وأخيرًا، حين يعلو بعضٌ منهم حتى يكادَ يقترب جدًّا من الجنة، وحدهم تمامًا في الأفق حيث السماءُ زرقاء والنهار طيبٌ وكل شيء جميل وحسن للغاية، تقول الملكة مَن منهم سيُصبح الملك. ثم يتزوَّجان. ويحظَيان بشهر عسل قصير، إذ تقول الملكة إنَّ عليها الذَّهابَ إلى القفير مباشرة والبدء في العمل. فلا تنتظر حتى لتُودع الملك، وإنما تدفعه دفعةً كبيرة، دفعة كبيرة وشديدة للغاية حتى إنها تقضي عليه فيَهْوي إلى الأرض جثةً هامدة. وتعود هي إلى القفير وتدخل من الباب، وتُصبح محظوظة إن وصلت إلى القفير ودخلت من الباب دون أن تُصيبها الطيور وغيرُها من الأشياء. لذلك السببِ يوجد يرقات بيضاء أخرى في الانتظار، فإذا لم تَعُد الملكة الصغيرة، يمكن لواحدةٍ أخرى الاستعدادُ والخروج. أترى كيف أن كل شيء مجهَّز من البداية من أجل استمرار الحياة! لهذا فهي مشيئة الخالق؛ لأنها خطةٌ رائعة، وهي أشياءُ لا يَقْوى الرجالُ على فعلها بأي طريقة على الإطلاق. إن الله وحده هو الذي يُخطط للنحل حياتَه.
إذا عادت الملكة إلى القفير ابتهجَ الكل بشدة لدى دخولها من الباب حتى إنهم يقبلونها ويُمشطون شعرها ويُنظفون أجنحتها ويُهيِّئونها بالكامل على أحسنِ وجه. حتى إنه لن يخطرَ لك أن قلوبهم تنطوي على شيءٍ سوى الحبِّ والخير.
أتدري ما الذي تفعله العاملات بعد ذلك؟ لن تُخمن أبدًا، حتى إن ظللتَ تُخمن أيامًا؛ لذلك سأُضطر إلى إخبارك. كل اليرقات البيضاء اللواتي ظلِلنَ يُطعِمنَهن غذاءَ ملكات النحل، واللواتي ظللن يَلقَين أفضلَ رعاية من الممرضات، يُلدَغن. هل تصدق؟ كما تعلم حين يمكُر أحد الرجال ويُغدق بالحب على رجلٍ آخر ويجعله يظنُّ أنه صديقه، ثم ينقلب على عَقِبَيه ويستولي على كلِّ أمواله وربما يقتله، يقول الناسُ عندئذٍ إن الرجل الطيب «لُدِغ.» حسنًا، إن ما يحدث هنا في قفير النحل هو سبب قولهم ذلك. فكل اليرقات البيضاء التي لاقت محبةً شديدة وغُذيت بغذاء ملكات النحل، لحظة أن ترجع الملكة الصغيرة منزلها سالمة غانمة، حينئذٍ، كل اليرقات البيضاء اللواتي كن سيصبحن ملكات إن تسنت لهن الفرصة، يُلدغن حتى الموت، وقد يكون هناك أربعون أو خمسون ألفًا منهنَّ، فلهذه الدرجة يريد النحل الاطمئنانَ إلى أنه سيصبح لديه ملكة. وحين يُصبحن جثثًا هامدة يحملهن العاملات إلى الخارج ويضعهن جميعًا مع النحل الميت.
أما بعد ذلك فإن كل العاملات يجتمعنَ معًا، ثم يُقررن لدغ كلِّ ذكر كبير مخادع ظلَّ يتسكَّع متكاسلًا في أنحاء القفير وتخدمه خمس أو ستٌّ من النحلات العاملات، وقد طفح الكيلُ بهن. تستطيع الجلوس عند حدوث ذلك في قفير المراقبة مرتديًا النظارات لترى وجوهَهم، إذ يبدون مبهوتين ومذعورين للغاية فلا تستطيع مقاومةَ الشعور بالأسف نحوهم. ولا يعلمون ما الذي اقترَفوه ولا يعلمون لماذا يحدث لهم ما يحدث، ولا يفهمون لماذا انقلبَت العاملات اللواتي كُنَّ يخدمنهم؛ إذ يأتي جيشٌ كامل من العاملات، مجنوناتٌ جنونَ الأرنب وصانع القبعات في رواية «أليس في بلاد العجائب»، فيزأرنَ في وجوههم ويُغنِّين أناشيد الحرب ويُطلقن صيحات المعركة. ومِن ثَم تُنزَع أجنحة السادة الذكور العجائز وتُوخَز أعينُهم حتى تُقتلَع من مكانها ويُوخَزون في كل مكان من جسدهم، ويُقتَلون على بَكْرة أبيهم، ويُلقَون خارج القفير.
لا يتبقَّى إلا الملكة الشابة ووصيفاتُها والعاملات والممرِّضات اللواتي سيبقَين معها. وعند التعرُّض لأي خطر، فإنهن جميعًا يقفنَ كدرع ويَحمين الملكةَ الشابة. وإذا كان الشتاءُ قاسيًا التففنَ حولها لتدفئتها، وإذا لم يتوفَّر طعامٌ كافٍ جُعن هنَّ وأطعَمْنها. مهما حدث لهن، ترعى كلٌّ منهن الملكة، ما دُمن على قيد الحياة؛ لأن البيض الذي تضعُه هو الذي يصنع جيلَ النحل الجديد ويُحافظ على استمرار حياته في العالم. إذن هناك مَن يعلم كل نحلة قائلًا: «حتى إن كنتِ ستموتين أنتِ نفسُكِ، فعليك رعاية مولاتكِ، حتى لا يختفيَ النحل عن وجه الأرض كما اختفى كل شيء في زمن الطوفان». ومَن يُعلمهن ذلك هو الخالقُ مرةً أخرى.»
نظر الكشافة الصغير في عينَيْ جيمي مباشرةً.
«بدأت الآن تفهمُ لماذا قال سيد النحل إن الشعر الذي على جسد النحلة هو مِن صنع الخالق، أليس كذلك؟»
قال جيمي: «بلى، بدأت أفهم. إنه أروعُ الأشياء التي سمعت بها على الإطلاق في العالم بأسره! استمِرَّ واحكِ لي المزيد. احكِ لي أصغرَ التفاصيل التي تعرفها.»
قال الكشافة الصغير: «لم يتبقَّ الكثير لتعرفَه. ثمة المزيد من الأرقام لأخبرك بها، كيف أن الذكور لديهم أعداد كبيرة من العيون وتجاويف الشم تفوق ما لدى العاملات. فلدى الذكور سبعةٌ وثلاثون ألفَ تجويف للشم؛ للتأكدِ تمامًا من العثور على الملكة، وهذا أيضًا من صنع الخالق. ولدى الذكور ثلاثةَ عشر ألف عينٍ في كل جانب من رأسهم. ليستطيعوا الرؤية أفضلَ من أي كائن آخر والتأكدِ من العثور على الملكة؛ لأنهم لا بد أن يعثروا على الملكة، ولا بد أن يتزوَّجوها، ولا بد أن تضع الملكة البيضَ ليظلَّ هناك نحلٌ في العالم، ليصنعَ العسل الشهيَّ الحلو للكل، وليحافظ على حياة مئات آلاف الزهور.
بعد أن ينقل سيد النحل الملكة القديمة وأُسرتَها في قفير جديد، ينصبه في مكان لطيف. ويعود النحل الكشاف إلى المكان الذي ترك فيه الملكة ويظل يبحث حتى يعثر على القفير الجديد. ويعرف عائلته ويدخل، ثم يشرع الكلُّ في العمل. تبني العاملاتُ الخلايا، وتضع الملكةُ القديمة البيضَ بكل أنواعه وتُخبر العاملات بما تريد أن يخرج من كل بيضة. ويمضون قُدمًا في الحال تمامًا كما فعَلوا في القفير الذي جاءوا منه. فتنظف العاملات كلَّ شيء وتملأ الملكة القديمة الخلايا مرةً أخرى بالبيض الذي تريد أن يُصبح ملكاتٍ وذكورًا وعاملاتٍ وممرضات، وربما نحلًا كشافًا، ويستمرُّون في صُنع المزيد من العسل ويُفرخون المزيد من النحل، حتى يمتلئَ القفير للغاية فتقول الملكة إن عليهم تنشئةَ ملكةٍ صغيرة وتسليمَها القفير بينما يخرجون هم ويُنشئون عائلة أخرى.
تظل الملكة تُصدر الأوامر طوال الوقت بشأن ما تريد إنجازه. وقد تظلُّ تحكم طَوال خمس سنوات أو ست. وهي تضع البيض طَوال الوقت. لن تُصدق عدد ما تضعُه من بيض، قد يصل العدد إلى مليونَي بيضة. ولديها سبعة أو ثمانية آلاف عين فقط لأنها سيدةُ منزل. والإخلاص لعملها هو مهمتُها الأولى والأخيرة، بل مهمتها الوحيدة. إلا أنها ليس لديها جيوبٌ للشمع ولا فرش ولا سِلال لحبوب اللقاح. ولا تحبُّ الضوء، ولا تعرف مذاقَ رحيقِ زنابق مادونا؛ لأن كل طعامها يأتي مهضومًا من أجلها من قبلِ أن تأكله. إن استطعتُ فعل ذلك مع «السجق» فلن تظنَّ أنها فكرةٌ سيئة للغاية، أليس كذلك؟»
ضحك جيمي.
وقال: «فلتُكمل.»
«حسنًا، تظلُّ الملكة تضعُ البيض طَوال اليوم، وربما طَوال الليل على حدِّ علمي. إنها تضعه على أي حال. عجبًا لأمرها! وفي كل مرة تضع بيضة تُحدد مصيرها، فتقبل ممرِّضاتها على العمل في الحال لتُطعم اليرقات البيضاء غذاء ملكات النحل، أما خبز النحل فهو للحصول على المزيد من الذكور، وللحصول على العاملات والممرضات، وربما النحل الكشاف، كما قلت من قبل. وبعض العاملات يُصبحن معماريَّات وبعضهن يُصبحن بنَّاءات والبعض الآخر يُصبحن راقصات. ووظيفة الراقصات، حين يشتدُّ الحر داخل القفير، هي أن يرقصن ويُرفرفن بأجنحتهن حتى يتحرك الهواء ويُبرِّد الخلايا. وأحيانًا يرقصن رقصةً في غاية الغرابة لليرقات البيضاء.
ذلك جزءٌ مما أعرفه عن النحل. لم أستطع إخبارك بكل ما أعرفه عنه لأنني لا أستطيع استحضارَه كلَّه مرةً واحدة. فالموضوع أكبرُ من أن أخبرك به في الحال. لكن بإمكانك مشاهدته في قفير المراقبة وتستطيع أن ترى سريعًا أيُّ الخلايا بها اليرقات البيضاء الكبيرة الناعمة، وأيُّها بها الذكور الضخمة الممتلئة، وأيها بها العاملات والممرضات الصغيرة، وربما النحل الكشاف. وبعد ما أخبرتُك به، تستطيع أن ترى الذكورَ العجَزَة وهي تزحف في أنحاء الخلايا تأكل من العسل كيفَما بدا لها، وفي حالٍ من القذارة والفوضى حسبما يحلو لها. ثم يُمكنك أن ترى العاملات يذهبن ويُنظفن ما ترَكوه. وتستطيع أن ترى الخلايا التي يَلقى البيضُ فيها الرعاية. وتستطيع أن ترى الخلايا التي تُملَأ بالعسل. وتستطيع أن ترى الخلايا التي تحتوي على حبوب لقاح ذهبيَّة وحمراء وأرجوانية في الشمع. حين آتي المرةَ القادمة سأسألك عن الأرقام التي أخبرتُك بها، كما سألني سيدُ النحل. عليك أن تكون مستعدًّا ولا ترتكب أخطاءً، فما دمتُ أنا أستطيع تذكُّرها، فيجدر برجلٍ مثلك أن يتذكرها!»
نهض الكشافةُ الصغير واقفًا، وشدَّ لأسفل ذيل قميصه الأخضر الذي بدا معتادًا على الخروج، وأحكمَ إبزيم الحزام عند خَصره، وسحَب نفَسًا عميقًا.
«ليس لديَّ معلوماتٌ وثيقة كما أخبرتك. بإمكانك أن تجدَ في المكتبة بالداخل كتبًا كالتي أطلعتُك عليها توضح كيف كان الناس يُفكرون. كتب تحوي لَغوًا. وستجد كتبًا مثل كتب لوبوك وزفامردام، بها صور رائعة، ستُخبرك بما يحدث حقًّا. وهناك كتب مثل كتب فابريه وماترلينك التي يقول سيد النحل إنها تضمُّ ثلاثة أشياء في آنٍ واحد. أولًا أنها تقدم الحقيقة، وثانيًا أنها شِعر، وثالثًا أنها دليلٌ على وجود عقل مدبِّر يُخطط حتى أصغرَ الأشياء وأقلَّها حجمًا. وهو يقول إن الاسم الوحيد لذلك العقل المدبر هو الله. إذ لا يرى أيَّ جدوى من محاولة تنحية الله وتجنُّبه وتسميته «روح القفير» والفطرة والطبيعة وأشياءَ من هذا القبيل. ويقول إن ثمة عالِمًا عظيمًا، واحدًا من أفضل العلماء، لكنه كاد أن يفقدَ صوابه وهو يُحاول أن يفعل ذلك الشيء. كان يُدعى تشارلز داروين، ويقول سيد النحل إن سي دي كان سيُصبح شخصًا أفضلَ كثيرًا لو كان لديه استعدادٌ لأن يُقرَّ بقدرة الله. فهو يقول إن الله حين يفعل أي شيء «يوليه بالغَ اهتمامه، ويُفكر فيه مليًّا، ويخلع عليه عدالةً شاملة» كما يحدث في قفير النحل، حتى إن الرجل الحكيم ليخلع قبعتَه ويرفع عينَيه إلى السماء ويقول بكل تهذيب: «ما أعظم الخالق».»
وفي تغييرٍ سريع كالبرق، ركَل الكشافة الصغير حَصاةً على موقع مرتفع بدقة متناهية لتبتعدَ عدة ياردات، وهَوى على المقعد بجوار جيمي، وسأله بتراخٍ، بلا اهتمام: «ما رأيك؟»
واقعًا تحت تأثير سحر القصة التي سمعها، مرَّر جيمي أصابعه في شعره. ثم حاوط ركبتَه بكفِّه اليُمنى، وأحاط بذراعه اليسرى الكشافةَ الصغير وضمَّ إليه الصغير بشدة. ونزل بشفتَيه إلى الشعر الأشقر، وتغلغلَ في أجزائه الخارجية الباهتة، وبلغ الخصلات الداكنة تحتها، حتى اقترب بشفتَيه من الأذن الصغيرة فهمس بتبجيلٍ بالغ قائلًا: «رأيي هو، ما أعظمَ الخالق!»